وداعاً خميس أبو شعبان
نعمان فيصل
لقد غيب الموت صباح اليوم الأربعاء 13 أيار/ مايو 2015 الأستاذ الكبير خميس سعيد أبو شعبان الذي كان – رحمه الله – في طليعة الرواد الذين تنسكوا في محراب الثقافة وجاهدوا في رفدها وإثرائها وإبراز معالمها.
إنَّ الحياة الحقّة هي حياة الفكر أوّلاً، وحياة الروح ثانياً، إنها كتاب وزهرة ولوحة، وحب خالص، وهذا هو الإنسان، وهذه هي حياته، وما تبقى فحيوانيَّة لا تعرفها النفوس الكبيرة.
كان للمرحوم الأستاذ خميس أبو شعبان الفضل في وضع حجر الأساس في صرح الحركة الثقافية في مدينة غزة بتأسيسه أول مكتبة ثقافية فيها عام 1942م، والواقع أن هذه الحقبة كانت حقبة نضوج وانطلاق بالنسبة للثقافة والمعرفة. وقد أسماها منشؤها المكتبة الهاشمية, تيمناً باسم جد الرسول الأعظم r هاشم بن عبد مناف المدفون في غزة، والذي له مقام فيها يرتاده الزائرون، وكذلك له مسجد باسمه يؤمه المصلون, فمن هنا جاء اسم (المكتبة الهاشمية)، ومن هنا سُميت غزة بــ (غزة هاشم).
وقد كانت المكتبة الهاشمية التربة الخصبة للثقافة والمورد العذب، فاعتنت بالثقافة خير عناية، وفتحت صدرها في تلك الحقبة لجمهرة من الوافدين إليها من طلاب العلم والموهوبين والمبدعين والأدباء على اختلاف مشاربهم بما أتاحت من تفاعل بين أبنائها المثقفين الذين تشبعوا بمحبة العلم وتبادل المعرفة، ومن أظهر خصائص هذه المكتبة أنها حافلة بمجالس الأدب التي تتنافس في كل محمدة، وبلغت اللغة العربية في كنفها مرتبة تعد أسمى ما وصلت إليه من مراتب: متانة في اللفظ، ورقة وسمواً في المعنى، ودقة إلى جانب إتقان في الوصف، مع حكمة جرت على ألسنة بعض الشعراء من روَّادها، علاوة على أن المكتبة تضم في جنباتها مختلف الكتب الثقافية والمراجع الأدبية والموسوعات العلمية، وحسبها فخراً أنها لم تطاولها أي مكتبة أخرى في مدينة غزة في شموخها وارتقائها، حتى ذاع صيتها، وما يزال صداها يرن في الآذان حتى كتابة هذه السطور.
لقد قدمت المكتبة الهاشمية خدمات جلّى للوطن والمواطن، وما زالت تقدم؛ فهي المنارة التي تسهم في نشر الثقافة، وتخدم الأدب والأدباء والطلاب والطالبات، ليحصلوا على كل ما يحتاجونه من المراجع والكتب والقرطاسية واللوازم المدرسية، وكذلك، فقد قامت المكتبة بإنشاء جناح خاص كمكتبة إعارة تشجيعاً للقراءة والمطالعة، إذ خصصت قسماً للكبار، وقسماً للصغار, أما الكبار فقد خصص لهم كتب مختلفة في مستواهم مقابل رسم شهري قدره عشرة قروش فقط، يقرأ المشترك أي كتاب يختاره من قسم الإعارة, أما الصغار فلهم قسم يضم مختلف القصص وكتب الأطفال، يقرأ المشترك ما شاء من هذه الكتب مقابل نصف قرش فقط عن أي قصة أو كتاب يختاره، وكل من يقرأ سبع قصص له هدية مجانية، عبارة عن قصة لم يكن قرأها من قبل, وقد لاقى هذا المشروع إعجاب الكثيرين من محبي القراءة، وشجع الآخرين على حبها، لاسيما الأشخاص الذين لا تسمح لهم الظروف بشراء الكتاب أو القصة, ولا يزال حتى الآن بعض من كانوا من القراء المشتركين في مكتبة الإعارة يتذكرون ذلك بالخير والسعادة والشكر الجزيل.
أما بخصوص ما يعقد في المكتبة من ندوات أسبوعية، ففي كل يوم خميس من الأسبوع، كان يعقد في المكتبة ندوة ثقافية، يشارك فيها نخبة من الأساتذة والمفكرين والأدباء المخضرمين، وحسبها أن كان من روَّادها: الدكتور حيدر عبد الشافي، وأخوه الدكتور مصطفى، والأساتذة المربون فريد أبو وردة، سامي أبو شعبان، زهدي أبو شعبان، الدكتور عصام سيسالم، السيد محمود صالحة، الدكتور فائق الحسيني، والشاعر محمد شكري سويرجو الذي نظم قصيدة عصماء، ذكر فيها السادة المشاركين في هذه الندوة، والتي كان يدور النقاش خلالها حول أحداث الساعة، وما يتعلق بالأمور العامة التي تهم الجميع، وقد وصف الشاعر محمد شكري سويرجو (لقاء الخميس)، وما يدور فيه من أحاديث بقوله:
في الهاشمية ندوة |
|
تزهو برهط عارفينْ |
منهم أساتذة غدوا |
|
عبر الزمان مخضرمينْ |
تلقاهمُ يومَ الخميس |
|
على الأرائكِ جالسينْ |
يسمو بهم طيبُ الحديثِ |
|
بكلِّ علمٍ ذي شؤون |
كما أشاد شاعرنا بالأستاذ "خميس أبو شعبان" صاحب المكتبة فقال:
وأبو السماح مضيفُهم |
|
حلوُ الشمائلِ والمتونْ |
من كلِّ فنٍّ حائزٍ |
|
قسطاً من العلمِ المتينْ |
فتراهُ آناً ضابطاً |
|
أخطاءَ بعضِ الحاضرينْ |
كما كان للمكتبة الهاشمية سهمٌ وافرٌ من شعر الأستاذ الكبير فريد أبو وردة، أحد روَّاد جلسة الخميس الثقافية في المكتبة التي أحبها، وقال في قصيدته (أحبك غزة) التي أهداها إلى صديقه الأستاذ خميس أبو شعبان، ومنها قوله:
أُحبكِ – غزةُ - حُبَّ الفقيرِ الشِّباكَ، تُلْقَى جِزافاً، خِفافاً،
تَعُودُ مِلاءً، ثِقالا،
بِها ما يُقيلُ عِثارَ اليتامى،
وَيُحيي رَجاءَ الأَيامَى،
وَيَنْزِلُ ظِلاً على الصّائمينَ،
وظلاً على الجائعينَ
وما كانَ يأمُلُ، خاتَمُ لَبَّيْكَ
يَحْلُمُ فِيهِ مِرارا..!
إلى أن قال:
أُحِبُّكِ حُبَّ خَميسٍ لِرؤْيَةِ جَمْعِ الرِّفاقِ بِجَنَّةِ غَزَّةَ يَوْمَ الخميسِ
ويَوْمَ الثَّلاثا..
يُديرونَ فيها حَديثاً نَدِيّاً غَنيّاً شَهِيّاً
يُطيلونَ ثَمَّةَ فيها اللَّباثا..
ويَمْضُونَ حَفْراً ونبشاً، ومَنْحاً وخَمْشاً..
وجَذْباً، ونبذاً، وقَطْباً وعَبْساً،
وَهَشّاً، وبَشّا..
يَفْلُونَ ثَمَّةَ كلَّ الحَنايا، وكلَّ الخَبايا
وَيُلْقُونَ لِلْمُحتَفِيْنَ شَراباً طَهُوراً،
وَقَوْلاً وَقُوراً، وَوَرْداً شَذِيّاً،
وَفَيْضاً عَلِيّا..
وقد كنتُ أحد روَّاد جلسة الخميس الثقافية في المكتبة الهاشمية، وأوحت لي تجربتي معها ومعايشتي لها أن أشير إلى بعض روَّادها الذين توثقت علاقتي بهم من لُحمة الصداقة الحميمة والود الخالص، وإنني لست في وارد سرد لمفاصل وأحداث سيرتهم الذاتية، مرحلة فمرحلة، وتفصيلاً فتفصيلاً، وإنما في وارد القيام بمحاولة للتعرف على بصمتهم التاريخية، وما هذه البصمة سوى تأكيد على تميزهم وإخلاصهم وصدقهم، ومن بين هؤلاء الروَّاد أذكر:
الأستاذ خميس أبو شعبان، مؤسس المكتبة الهاشمية: يحار المرء من أين يبدأ حين يكون الأستاذ خميس أبو شعبان موضوع الكتابة؟ فالرجل غني بالشمائل والخصال الحميدة، ومع أنه أحد رجال غزة المرموقين، فإنه صاحب أدب رفيع، وعلم متين، وخلق كريم، عرفته مثقفاً وأديباً ذا همة عالية وقول سديد، حيث إنه ممن احتضن ثقافة أبناء غزة في الماضي والحاضر، قابلت الأستاذ خميس (أبا سامح) وهذه كنيته عدة مرات في مكتبته الهاشمية المشهورة، جلسنا بين الكتب والصحف والمجلات, وبحثنا، وتحدثنا في مواضيع شتى، فقد جمعتنا فلسطين في حبنا لها وانتمائنا إليها، فهو من أبناء غزة الخالدة، ولغزة موقع في نفسه ووزن وإيقاع، وأود أن أسوق للقارئ مثلاً من أمثلة عديدة، توضيحاً لبعض جوانب تلك الشخصية الفذة؛ فشخصيته مزيج طيب عجيب من صفات كثيرة وطباع سمحة، لديه صراحة لاذعة جريئة في جميع الأحداث والمواقف التاريخية، وكان يزداد إعجابي برجال الأمس، وينتابنا الشعور بالحسرة والأسى لما آل إليه حال جيل اليوم، لعدم اهتمامه بالقراءة وعزوفه عن الكتاب.
وكان من روَّاد جلسة الخميس الثقافية التي تعقد في المكتبة الهاشمية الأستاذ فريد أبو وردة، فهو من طليعة الروَّاد الذين تتمثل فيهم صفات المروءة بأكمل معانيها، وأستاذنا من هذه النخبة لا يبتغي الخير لمصلحة ذاتية، ولا يتوخاها لاجتذاب المديح أو الشكر؛ فإذا امتدح أو شُكر أُحرج وارتبك، وضاق ذرعاً حتى لتخاله منزعجاً من كل ذلك.
لقد عرفت الأستاذ فريد في العام 2005م، ومنذ ذلك الوقت بدأت صداقتنا، واستمرت في النمو، وكنت اجتمع به وبزوجته المربية الفاضلة فيروز في كل مناسبة تسمح بها الظروف، واستمر هذا الوضع حتى وفاته في 15 تموز 2012م، وقد كانت هذه اللقاءات لمدد قصيرة لا تتعدى الساعة أو الساعتين في منزله في مدينة غزة، وكانت هذه اللقاءات فرصة للتحدث عن أحوال شعبنا بصورة عامة، وعن أدبه وأشعاره بصورة خاصة.
ولمست فيه اهتماماً كبيراً بوطنه السليب يفوق التصور، ويجل عن الوصف، فهو أهل لإنجازاته وإسهاماته الفعالة في شتى الميادين، كرّس جل وقته للكتابة، ومن ضمنها كتابة الشعر بأنواعه، وكتب مئات القصائد والقصص القصيرة، وكلها مخطوطة لم تطبع وتنشر، وتميز أستاذنا في كتابة الحكم والأمثال المنتزعة من الواقع، وأعد منها مجموعة كبيرة، وأطلق عليها اسم (شظايا البلور للوصول إلى النور) وهي مخطوطة تشتمل على حكم من واقع حياة الناس، كما برع في شعر الأحاجي، وعمل على تطويره تطويراً يخدم تنمية التفكير والتذوق الفني والإحساس الجمالي.
كان دائماً يحاول عدم التحدث عن إنجازاته الوطنية والأدبية، وأرى أنه قدم للشعب الفلسطيني أكثر بكثير مما قدمه العدد الكبير ممن يحرصون على نشر أخبار أعمالهم في الصحف وكل وسائل الإعلام المتوافرة لديهم.
وغني عن البيان أن ما حظي به الأستاذ فريد من قدرات ومزايا ودينامية لم تكن ناتجة عن صدفة ما أو ثمرة حظ أصابه، وإنما هي ناتج عن ثمرة فهم سليم لموجبات وشروط وعوامل النجاح، وحسن تصميم للأداء وتنظيم للإدارة، إلى جانب امتلاكه قدرة ريادية مستنيرة، فالنجاح، إذن، كان نتيجة جهد متواصل وعمل دؤوب دون خلود إلى راحة وسكون، هذا هو الأستاذ فريد أبو وردة كما عرفته وشاهدته، وأرجو الله أن يهيئ لأبنائه الكرام الفرصة لنشر ما كتبه أستاذنا الكبير بقلمه وبخط بنانه في حياته من ثروة أدبية لا تقدر، وأن يتم ذلك في مستقبل قريب.
وإنني أذكر من روَّاد المكتبة الهاشمية أيضاً، الدكتور حيدر عبد الشافي، فهو مثل الزعماء الكبار الذين حملوا كاريزما المناضل الهادئ الحازم بدون ضجيج، كان مخلصاً لوطنه في جميع أدوار حياته، بل لا تعرف فلسطين مَن يطاوله ويعلو عليه في الوطنية، وكانت إنسانيته كمرآة صافية تنعكس عليها آلام الناس جميعاً، ويرغب في وده كل مَن عرفه، اهتم بالأمور السياسية، وكان لهذا الاهتمام صدى للاضطرابات التي كانت متتابعة في فلسطين، وكان ذا رأي واضح وصريح في كل ما يجري، وذا عقلية متفتحة لا تعرف التعصب.
آمن بقضية شعبه، وبالمبادئ الرئيسية لحركات التحرير الوطني في العالم، وهي تحرير الأرض والشعوب من الاستغلال، وإن نظافة اليد لديه هي سر قوته، والصدق في المصارحة نزهته عن تبرير الأخطاء السياسية أو تجميلها، جاب العالم تاركاً - حيثما حلَّ - جهوداً مثمرة، ونشاطات خيرة وأعمالاً ناجحة سرعان ما جعلت منه قطباً من أقطاب رجال السياسة في القرن العشرين؛ فكان عنواناً سياسياً بارزاً في سماء النضال الفلسطيني، وعندما اختير ليرأس الوفد الفلسطيني في مدريد عام 1991م لم يكن اختياره من فراغ، بل لأنه كان عموداً للقضية الفلسطينية، فكان للحق لفظاً وسلوكاً، وهذا ما يميزه عن الآخرين، وهو لم يدخل السياسة من بابها التقليدي، بل من باب الأخلاق، وكان كثيراً ما يردد قول الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت |
|
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
ازدادت معرفتي به واكتملت على مر السنين؛ فقد لعب القدر دوراً هاماً في الجمع بيني وبين الدكتور حيدر، لبناء صداقة من أثمن ما حققت في حياتي، وكنت ألتقيه دائماً في المكتبة الهاشمية بغزة، حتى وفاته في 25 أيلول 2007م، ولا يستطيع المرء، مهما أطنب في الكلام عنه، أن يحيط بالجانب الإنساني من شمائله، فهو إنسان يحب الناس بغير تزلف ولا مجاملة، ولا يحول بينه وبين حبه دين أو مذهب، ما جعله ينال ثقة واحترام الجميع.
وإنني أذكر أيضاً، الدكتور عصام سيسالم، الذي كان يحرص على الحضور عند خاله الأستاذ خميس أبو شعبان، فالدكتور عصام قائد فذ من قادة الفكر العربي، وإنسان رائد من روَّاد المجتمع الفلسطيني، درس القانون، إلا أن حبه لدراسة التاريخ غلب عليه وبرز فيه، وحمل الراية ردحاً من الزمن في أروع إخلاص، وفي أجمل صورة. كان ينبوعاً من العطاء لشعبه في شتى المسالك، ولم يثنِ عزمه أو ينال من عزيمته اغتراب أو تشريد، فنفسه تزخر بحب الخير والأمل، والتطلع إلى الأفضل، فهو رجل علم ورجل تربية، وهو مخلص في طلب العلم لأجل العلم.
وقد كان واسع الاطلاع في التاريخ والأدب، غزير المعرفة، وإذا سئل عن قضية تاريخية كان يجيب إجابة شافية، وعندما يختلف فرسان العلم والتاريخ في قضية من القضايا كان الرأي الذي يبديه الدكتور عصام هو الرأي الفصل في الموضوع، أثرى المكتبة العربية بكتب وأبحاث ومقالات مهمة أفادت الباحثين والدارسين.
عرفته عن قرب، ولمست فيه اعتزازه بالتراث العربي الإسلامي، وقد تناوبت على زيارته برفقة صديقي الأستاذ عبد اللطيف أبو هاشم في منزله مرات عديدة، واستمر هذا الوضع إلى أن توفاه الله في 20 نيسان/ أبريل 2009م.