الشهيد عدنان شيخوني
أبا خالد... يا أخا المصير في دروب الكفاح المرير...
كنت أوثر أن ترثيني أيها الأخ الحبيب... لا أن أرثيك...
وكان إحساس الذي صحبني سنوات يقول لي: ستقضيان معاً ذات يوم، وسيرثيكما الراثون من إخوانكما... وما كان يعن على البال أن أرثيك...
عندما كنا معاً نعبر المنعطفات مسرعين، واصطدمت بنا السيارة، نظر بعضنا إلى بعض نظرات باسمة، راضية بمقدورها، ما دمنا سنقضي معاً...
وفي سفراتنا الطويلة كنا نجوب القطر السوري من أدناه إلى أقصاه، نستجيش الهمم والعزائم من أجل بناء عمل جهادي مركز، والآمال العِراض تراود أحلامنا الوردية، عبر التطلعات الجهادية لتزيل دولة الكفر والبغي والخيانة، وتقيم على أنقاضها دولة الحق والقوة والحرية... دولة الإسلام...
وفي مجالات التربية والتكوين، كنتَ الفارس المجلي، تعمل بصمت ودأب، قلّ نظيرهما بين الدعاة والمربين، وكنتُ أنظر إلى عملك، فيشدني إليك عقلك واتزانك وتفانيك في عملك، حتى لم تعد تعرف أو يعرف لك الناس حياة خاصة...
كنت في حياتك كلها الجندي والقائد... وقلّ من يجمع بين الجندية والقيادة في آن.
تَسارعَ أهلُ الدنيا إلى دنياهم ينهبون من لذاتها، وعجلتَ إلى ربك ليرضى عنك... فلم تأتها لبيت تبنيه، أو أثاث تقتنيه، أو مال تدخره لحوالك الأيام...
لم تشغلك زوج ولا ولد عن أداء الواجب كما تفهم الواجب أنت، لا كما يفهمه الأقزام وظائف حياتية تملأ الفراغ... فراغ التافهين.. وكلاماً معسولاً لا يبني بقَدْرِ ما يهدم ويشتت ويضيع....
وجاءت المحنة... وكان الابتلاء... وأي ابتلاء....
وصبرت... وصبرت... وصبرت...
عشر ساعات... صبَّ فيها المجرمون كل ما يملأ أجوافهم من صديد أحقادهم السود عليك أيها البطل، وأنفك شامخ، يزيده شموخاً تاج الإيمان، الذي ملأ كيانك، وضوّأ لك دروبك، وضوّأ أجواءك.....
استخدم المجرمون ألوان التنكيل بالجسد الحديد، والنفس العملاقة، وباؤوا بالفشل... أوهنوا الجسم ولم يتمكنوا من الاقتراب من الروح... فهي روح (أبي خالد)... وأي روح.. قالت لهم شياطينهم: هيا ائتوا بزوجه وأولاده، لعله يستكين...
ولكن هيهات هيهات!!..
جيء بالأسرة الكريمة... ونظرت رفيقة الدرب إلى الفارس المعلم نظرات مترعة بالأمل في صمود البطل... فاستمد البطل عزيمة لا أمضى ولا أقوى...
وتقدم (علجهم) من أبناء البطل: خالد وعمار وطارق قائلاً:
قولوا لأبيكم أن يتكلم ويرحم نفسه ويرحمكم...
وجاء صوت البطل: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة...
وصبر آل ياسر على مشهد الوالد البطل يمزق جسده أربعة وحوش، منهما وحشان طائفيان.. هيهات يشفي غليلهم غير الدم... غير الدم... غير الدم...
وينتهر الأجير الصبية الصغار وأمهم، ويأمرهم أن يتحركوا لينقذوا معيلهم قبل أن يموت فيقتلهم الجوع، والمعيل البطل الأسير ينظر إليهم نظرات نسر محتضر...
أتذكرُ – أبا خالد- قولك: والله لو تابعوا تعذيبي نصف ساعة أخرى لمت؟.
أجل.. لا بد أنك تذكر هذا وأنت في عليائك، مع رامز وعصام ومحمود وهمام ووليد ومع عبد الله وإبراهيم وعمر وموفق ومع عبد الستار وأمين، ومئات شهدائنا الأبرار... لا بد أنك تذكر هذا وتحدث صحبك من جيل الشهداء به، وفرحتكم بالشهادة تطير بكم على جناح سحابة العبير، مستبشرين بالذين لم يلحقوا بكم بعد...
عشر ساعات من العذاب الشديد، وليس لك ما تقوله سوى: يا الله... يا الله... وليس للعتاة المجرمين إلا أن يزدادوا غيظاً لأنهم لم يستطيعوا أن ينطقوا لسانك بغير اسم الله... إنهم يريدون إرضاء سادتهم في دمشق، فأسلاك الهاتف بين حلب ودمشق قد أتعبها الآثمون. كلها تسأل عن عدنان شيخوني، وهل فتح فمه؟.
ويتميز أولاد الأفاعي من الغيظ، وهم يصخبون حول اللسان الذي كبح جماحه صبر البطل فيسوقونك إلى دمشق، حيث أعتى الوحوش الطائفية: ناصيف وأبو رمزت و(غير) الفاضل وأجيرهم (تركي) الذي حاول خداعك، فلم تقع، وكان صبرك وعقلك أكبر من باطلهم، وأرجح من أحابيل خداعهم ومكرهم.. فاستعليت واستعليت، ولقنتهم دروساً في كيفية الجندية والقيادة اللتين يجب أن يتمتع بهما الدعاة الوعاة المخلصون...
وتبقى في (المنفردة) شهراً، ثم تعود إلى حلب.. لتلقى الألاقي في زنزانات السجن المركزي، وتكون لكم أيها الأحبة مسامرات ما أُحيلاها، وأنتَ أنت – أبا خالد- تشحذ الهمم آناً، وتروح عن النفوس المتعبة آناً آخر، بحكاياتك الشفافة، التاريخية والشعبية...
ثم يشاء الله أن يعيدك المجرمون إلى حيث أنت، لترى إخوانك هناك، وتلقي عليهم محاضراتك الثلاث في مهجعك، تلك التي كانت عن (النصيرية عبر التاريخ).. عن نشأتهم وعقائدهم ومؤسسهم، ثم عن خياناتهم عبر القرون، حيث كانوا مع الصليبيين أيام حملاتهم على ديار الإسلام والمسلمين. الأمر الذي حدا بشيخ الإسلام ابن تيمية ليصدر أحكامه عليهم في فتواه، ويعتبرهم أكفرَ من اليهود... والمجوس.
وتلفت انتباه الإخوة المعتقلين إلى مسرحية (على أسوار دمشق) لنجيب الكيلاني الذي فضح فيها خيانة أحد شيوخهم الكبار، وإلى (الفتاوى الكبرى) لابن تيمية، وإلى ما كتبه عنهم الكاتب الشيعي (ابن أبي الحديد) شارح (نهج البلاغة) في شرحه ذاك، ثم خياناتهم في العصر الحديث حيث كانوا مع الفرنسيين ضد أبناء الأمة الإسلامية؛ وأسهبتَ وأسهبتَ والإخوة المستمعون مأخوذون بغزارة معلوماتك عن الوحوش الطائفية، وَجِلُون من عيون السلطة المبثوثين في المهجع، أن ينالك المجرمون بسوئهم، ولكنك لم تهتم لتحذير الأحبة، لأن إيمانك كان يجري على لسانك أسواء الفئة الحاقدة الخائنة لله ولرسوله وللمؤمنين.... بل زدت الإخوة معرفة جديدة عندما أعلنت لهم أنك حاضرت بهذا في مخيم إسلامي عالمي ضخم، وحضر المحاضرة بعض الأساتذة الجامعيين وأخذوا نسخاً من المحاضرة ليجعلوها في ثبت المراجع التي يرجعون إليها، بل وليدرّسوها طلابهم...
ومحاضرتك الثانية عن الفراعنة وأساليبهم ونفسياتهم في كل زمان ومكان. بدءاً من فرعون الأول الذي قال لموسى عليه السلام (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين). وإسقاط الماضي على الحاضر... حاضرِ الرجيم حافظ أسد الذي وضعنا في السجن لأننا اتخذنا رب العزة إلهاً وركلنا حافظ أسد بأرجلنا...
ومحاضرتك الثالثة عن فرعون موسى والسحرة مستخلصاً إياها من هذه الآيات التي تقص قصة كبار المجرمين مع المؤمنين... عندما آمن السحرة برب موسى وهارون... "قال آمنتم له قبل أن آذن لكم"؟.
واقتادك المجرمون إلى المحكمة المهزلة التي نُصّب عليها المجرم التافه الصفيق: فايز النوري فتريه أنت وإخوانك وتُسمعونه ما لم يكن في حسبانه، فيؤجل المحكمة، ويرفض أن يرافع عنكم أي محام تختارونه، ولا تكترثون، وأنتم تعلمون علم اليقين أن أحكام الموت ستصدر بحقكم...
ويأذن الله بالفرج، عندما هيأ لكم وسيلة، يخرجكم فيها من ظلمة القبور التي ألقاكم فيها الطائفيون... ولكنك – أيها الهمام- ترفض الخروج بادئ ذي بدء ما لم يخرج سائر الإخوان، ثم يشاء الله أن تكون على رأس كوكبة السبعة عشر أخاً الذين هربوا من السجن، وأنوف الوحوش الطائفية وأزلامهم راغمة، حتى لقد قال كبيرهم صاحب الصوت المتهدج:
(كنت أتمنى أن يقتل سبعة عشر ألفاً من سرايا الدفاع ولا يهرب هؤلاء السبعة عشر).
وعندما تحررت – أيها البطل الحبيب- بادرت إلى العمل، فسهرت، وتعبت في تجميع فرسان النهار ورهبان الليل، كما بادرت إلى رص صفوف المقاتلين، الأوفياء لدعوتهم وجماعتهم، لتفقأ بهم عين الشيطان.
وفرح المؤمنون، وانخذل إبليس وجنوده... ثم حان لقاء الله وقضت حكمته أن تختارك شهيداً إلى جواره...
وباستشهادك – أبا خالد- طويت صفحة مُنَدَّاةً بالعرق والدمع والدم، وفتحت صفحة هي ما تزال وستبقى مفتوحة – بإذن الله- صفحة تلاميذك الأبطال ممن يمسك القلم عن ذِكْرهم.. رعاهم الله بعين رعايته، وكتب لنا النصر على أيديهم...
والآن! أبا خالد... هل تسمح لي أن أناديك وأستنفرك، كفعلي في سالف الأيام عندما كنت أراك متعباً أو مريضاً أمَضَّه برد الشتاء وحر الصيف في بيتك المتواضع الذي ما كان يدفع برداً ولا حراً:
أبا خالد، يا انفِر، فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد
لقد خلفت بعدك رجالاً ربيتهم على عينك، ولم تستشهد إلا وأنت مطمئن أن وراءك على الطريق أبطالاً.
سلاماً أبا خالد يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حياً...
سلاماً عليك وعلى إخوانك الذين سبقونا بالإيمان ونالوا الشهادة والرضوان...
سلاماً عليكم في الخالدين...
وإلى لقاء في عليين... مع الأنبياء والشهداء والصديقين.
وسوم: العدد 667