الشهيد الأخ نزار الصباغ
لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن تفتح أرض الأندلس ذراعيها لتضم بين حناياها رفات شهيد من بلاد الشام، لتعيد لذاكرة الزمن تاريخ صلة تليدة، ووشيجة حميمة، لها في قلوب المسلمين مكان رفيع، وفي تراثهم شأو بعيد، فأرادت جبال "الحمراء" في "غرناطة" أن تصل اليوم بالأمس، وأن تستأثر في ثراها العطر بجدث شهيد انبرى بين الورى ليعيد للإسلام مكانته في تلك البقاع التي ما نسيت قط أمجاد أجداده ومن سبقوه من أبطال الإسلام الميامين الذين ينطق بذكراهم كل حجر وكل زاوية وكل بيت.
استشهد نزار بن أحمد الصباغ قرير العين مطمئن الفؤاد بعد أن أرسى في أرض الأندلس - التي أحبها وهام بها - دعائم فجر جديد يبدد ظلام خمسة قرون من الزمن، لقد جاء إلى الأندلس كما جاء عبد الرحمن الداخل، فاراً بدينه ونفسه من ظلم الطواغيت وفتنتهم، فلقي فيها حسن الوفادة، وكامل الحرية، مما أتاح له المجال واسعاً للكتابة والخطابة والتربية، فأنشأ المراكز الإسلامية، التي عمرت خلال أربعة عشر عاماً بالنشاطات الخيرة والدروس القرآنية مما كان له أثر واضح في الحفاظ على جيل من الشباب المسلم الوافد لتلقي العلوم في جامعات الأندلس ومعاهدها، ولم يكن اهتمامه متوجهاً إلى هذه الناحية فحسب، إذ إنه بعد أن تأكد من أن البذرة الصالحة التي تعهدها بدأ يشتد عودها، توجه إلى الإسبان أنفسهم، يترجم لهم معاني الإسلام السامية، ويذكرهم بحضارته العريقة، ويقف فيهم خطيباً ويسعى في حاجاتهم وينصح لهم في شؤونهم. مما جعلهم يتأثرون به وبأفكار دعوته التي ربته في بلاد الشام، فلا غرابة بعدها أن نجد إمامهم يقف فيهم خطيباً يوم استشهاده ويقول لهم: إن طريق نزار هي طريقنا ودعوته دعوتنا ومصيره مصيرنا. وحتى يخلدوا ذكراه في قلوبهم أطلقوا اسمه على مولود لهم خرج إلى النور يوم وفاته، سموه نزاراً ليكمل نزار الإسباني المسلم ما بدأه نزار العربي المسلم، وهكذا تتصل حلقات الإيمان، وتنتقل الشعلة الربانية من يد إلى يد ليستمر الإسلام نوراً يبدد ظلمات الجهل والظلم والطغيان. لقد كان نزار على موعد مع القدر قبل أن ينفذ الطغاة الجبناء فعلتهم، إذ إن رؤى إخوانه الصالحين تواترت قبل أسبوع على استشهاده واتصلوا به هاتفياً وأخبروه بذلك فكان رده عليهم يشير إلى إيمان راسخ لا يتزعزع ورضاء بقدر الله وسرور بلقائه.
كان آخر درس إسلامي يلقيه في مركز برشلونة يتحدث عن الآية الكريمة: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ... الآية) وكانت آخر خطبة له في صلاة الجمعة حول "الجهاد وكلمة الحق في وجه السلطان الجائر"... إنه لم يخش قط سلطاناً جائراً، كان موظفو السفارة السورية في مدريد يتحدونه سنوات في الدخول لمقر سفارتهم، فكان يدخل إليهم متحدياً ويناقشهم في وضع حزبهم ودولتهم، ويشرح لهم معاني الإسلام ومواقفه.
لم يكن يترك مناسبة تمر منذ هزيمة حزيران إلا وتكلم عنها، ولم تقع فتنة بإخوانه في سورية أو مصر إلا كتب للحكومات محتجاً مبلغاً الأمانة، ولم يحضر مؤتمراً إلا وقف فيه مبيّناً وجهة الحق والصواب. كان يعيش للإسلام قلباً وقالباً، ويريد للمسلمين المكانة الرفيعة والسمعة اللائقة، ولذلك حقدوا عليه، ولذلك غدروا به، دون أن يدروا أنهم إنما أوصلوه إلى الغاية التي كان يرجوها ويسعى إليها ويتشرف بها.
لقد جمع طغاة سورية كل مكرهم وقوتهم وإمكاناتهم ليغدروا برجل أعزل من السلاح ومن الخلف، دون أن يكون لديهم الجرأة على مواجهته، وهو وحده يتنقل بين بيته ومكان عمله، ويتجول في الأسواق دونما حارس أو حماية، إنهم أتقنوا فنَّ الغدر والهجوم على العزل الآمنين، وليست (بطولاتهم) في سجن تدمر ببعيدة عنا. لقد كانوا يخشون منه وهو بعيد عنهم /5/ آلاف من الكيلومترات، وخافوا منه بعد وفاته، فلم يستجيبوا لنقل جثمانه إلى سورية التي كان فؤاده يتشوق للجهاد فيها، وكم من مرة عاد إلى بيته غاضباً قائلاً لزوجته:
إلى متى نبقى هنا وإخواننا في سورية يبذلون الغالي والنفيس لإعلاء كلمة الله مهما غلت التضحيات.
كانت له شخصيته المتميزة التي تترك فيمن يتعرف إليه أثراً لا ينسى. يختلف باختلاف الناس وطبائعهم وعاداتهم لكن قاسمها المشترك: الاحترام والهيبة. وكان يردد دائماً القولة المشهورة: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
لقد ترك أثراً تربوياً واضحاً في أكثر إخوانه الذين عايشوه وعاشروه، وبشكل خاص في أسرته، زوجته وأولاده الثلاثة الذين كان موقفهم من أصلب المواقف وأشجعها، فكانت زوجته ترد على من يعزيها فيه:
لا تعزوني بل هنوني لأن الشهيد نال ما كان يريده، ويحدثني به دائماً، فأنا لا أحزن لأني موقنة بأن زوجي نال أعظم درجات السعادة، وأرجو أن يلحقني الله به.
كان لحادث الغدر الجبان صدى واسع في إسبانيا وعلى مختلف المستويات، فقد انبرت الصحافة المحلية لنشر النبأ مباشرة وهي على المطابع، حتى إن أهم صحيفة في العاصمة سحبت خبراً من صفحة الأخبار العالمية لتتحدث عن الحادث، كما بادرت أجهزة الإعلام الأخرى لنشر الخبر وتبيان صلة السفارة والحكم السوري بهذه الجريمة، ولم يطل صباح اليوم التالي إلا ووسائل الإعلام في البلدان العربية والأوربية تنشر في صفحاتها الأولى خبر الغدر المنظم الذي تقوم به الطغمة الحاكمة في دمشق، وقد تمت الإشارة إلى سوابق الإجرام الأسدية في باريس وألمانيا ويوغسلافية.
ورغم أن حوادث الاغتيالات تتحدث عنها الصحف عادة مرة واحدة وينتهي الأمر، إلا أن الأمر في هذه الحادثة كان مختلفاً، فقد استمرت الصحف الإسبانية تتكلم مدة ثمانية أيام، وكل منها يتناول زاوية معينة من حياة الشهيد وطبيعة الحكم الإجرامي في دمشق.
ولقد حرص المسلمون الأسبان بشكل خاص على إتمام مراسيم الدفن في غرناطة، وفي إحدى هضاب قصر الحمراء في مكان مطل سامق، فكانت مسيرة الوداع تظاهرة مؤثرة شارك فيها المسلمون من كل محافظات إسبانيا ومن خارجها، رفعت فيها اللافتات، ووزعت النشرات، وهلل المسلمون وكبروا، وعاهدوا الله على متابعة المسيرة مهما غلت التضحيات حتى القضاء على عرش الظلم والطغيان في دمشق. ومن العبارات التي رفعتها اللافتات:
يد سوموزا سوريا تصل إلى إسبانيا وتقتل نزار.
ضد الظلم.. الصبر والثبات والتضحية.
استقل يا أسد فإن الشعب لا يريدك.
العقوبة والنكال للمجرمين الجبناء.
الحرية ل /000ر60/ سجين سياسي في سورية.
أسد طاغية وحقير ومجرم.
الثورة الإسلامية في سورية في طريقها إلى النصر.
خميني تَوقَّفْ عن دعم النظام الإرهابي في سورية.
وقد سجلت الصحافة ووسائل الإعلام هذا الحدث، وكتبت عنه في اليومين: الثامن والتاسع بعد الاستشهاد، وتفهمت حقيقة النظام العفنة في دمشق، ولذلك لم تنطل عليها الأكاذيب التي ادعتها وكالة الأنباء السورية من أن عملية الثأر التي جرت في دمشق نالت من بعض المدنيين! كما انطلت على بعض الحكام العرب، بل كانت موضوعية بشكل كامل، وذكرت حقيقة الأبنية العسكرية والمخابراتية التي كانت هدفاً لضربة المجاهدين.
وبعد انتهاء المسلمين من الدفن، توجه قسم منهم إلى السفارة السورية في مدريد، فتظاهروا أمامها، وعلت أصواتهم بالتكبير والهتاف، وأحرقوا صور حافظ أسد وأخيه رفعت، ورفعوا صور الشهيد فكان موظفو السفارة الجبناء ينظرون خفية من وراء النوافذ الخشبية وليس الزجاجية.
وقد جرت عمليات احتجاج واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم وأرسلت برقيات للحكومة الأسبانية توصي بمتابعة الموضوع والتحقيق حتى كشف المجرمين وتواطؤ السلطات السورية معهم.
وسوم: العدد 671