الشهيد أسامة إدلبي

- أي بني، عُدْ إليَّ، تخلَّ عن هذا الدرب، فأنت غير مطلوب، وغير معروف، فلا تتورط مع المتورطين.

أي بني، عد إلي، تعال... تعال أزوجك من تريد. اختر، اختار لك أجمل فتاة. أشتري لك داراً. أفرض لك من مالي راتباً كبيراً يكفيك. عد إلي... عد إلي فقط... فقط عد إلي، ولك ما تريد.

كان ذاك صوت والده، مليئاً بالإشفاق والحب والحنان، وكان صوت الدنيا بما زين فيها للناس من شهوات ومآرب.

وينطلق صوت هادر:

- أبي، هؤلاء إخواني... لن أتخلى عنهم. أنا على موعد مع الحور العين.

وتدمع عيناه، ويرتفع بكاؤه:

- أبي، لن أتخلى عنهم، ولو...

ويصمت الأب، فرحاً وإشفاقاً. فرحاً أن يكون له مثل هذا الولد البر الكريم، وإشفاقاً على فلذة الكبد وقرة العين.

وينطلق أسامة إلى إخوانه، مجاهداً غير معروف. لم تظفر السلطة باسمه بعد، فهو أقدر على الحركة، وأقدر على تنفيذ المهمات. ينطلق ليؤدي الخدمات للمجاهدين، ليبحث لهم عن المسكن –وما أصعب الحصول عليه- ليؤمن لهم الطعام والشراب. كان يشعر أنه قد كبر وكبر، حتى أصبح مسؤولاً كبيراً، وأن الأمانة قد طوقت عنقه، وأن المسؤولية هبطت عليه وحده، دون خلق الله، بل دون إخوانه المنظمين جميعاً.

نذر نفسه مراسلاً بين الإخوة المجاهدين، فكان يتحرك في أشد ساعات الخطر. وما إن يسمع أن سوءاً نزل بأخ من إخوانه – اعتقال أو جرح أو استشهاد- حتى يسارع إلى أهله يحمل لهم النبأ، ليحتاطوا لأمرهم، وليسعوا في أمر ولدهم. ولم يكتف بما كان منه، وإنما انخرط في صفوف إخوانه المقاتلين، مشاركاً بعد أن كان مساعداً. فأسهم في توزيع البيان الأول والثاني تحت حراسة السلاح، وفي رابعة النهار في الأسواق والمناطق الآهلة بالسكان، كما أسهم في عملية الهجوم على فرع الحزب في (باب الأحمر) وكان في أعماله ناجحاً، منضبطاً.

الملحمة:

انطلق – رحمه الله- من مأواه يقصد دار أحد إخوانه ليؤدي مهمة. أخبره مضيفه أن قلبه غير مرتاح لهذه الجولة. تمنى عليه أن لا يذهب، لكن الشهيد على موعد فكيف يتأخر؟!!

عانقه مضيفه. ودعه، واستودعه الله الذي لا تضيع عنده الودائع. وصل الشهيد إلى البيت الذي يقصد. وعلى الدرج سمع صوتاً قوياً: قف! هات هويتك!!

وكانت هوية الشهيد طلقات نافذة من مسدسه أردت عنصرين من كلاب السلطة. ودارت المعركة بين الشاب الوحيد والجنود المتمركزين حول البناء. كان يرمي، ويقفز متراجعاً، إلا أن طلقات الغدر أصابته في مواضع مختلفة... في ساقيه، في بطنه. واندلق شيء من أمعائه، فرده بيده، وراح يرمي بالأخرى.

تذكر الشهيد – رحمه الله- ورقة في جيبه، فيها أسماء ومعلومات. أخرجها بسرعة، وراح يفتتها بأسنانه، مستعيناً بإحدى يديه، ثم انسحب إلى بناء مجاور. يطرق الشهيد باباً فيوصد في وجهه!! يلجأ إلى مكان آخر فيكون كالأول!!

الشهيد الجريح يلوب على الأبواب. أمعاؤه بين يديه. دماؤه تنزف، ولا من معين. يتجه إلى القبو ليبحث.. عن مكان يهدأ فيه، فيتعقبه رجال السلطة، ويسقط بين أيديهم. يسأل عن اسمه، فيعطي اسماً مستعاراً. ينقل إلى المستشفى على عجل. هناك يطلب الطبيب من عناصر المخابرات المحيطين به (دماً) لإسعافه. ويصحو البطل الجريح من غيبوبته، ليعلن بعزة المسلم أنه لا يقبل إسعافاً من أيدي هؤلاء السفلة الأراذل...

كانت حياة البطل تهم السلطة للحصول على المعلومات، فلم يستطع الضابط أن ينتزع منه جواباً. تمت العملية الجراحية، واستؤصل كولون الأخ المثقب، لكن إرادة الله كانت سابقة، وكان أسامة قد صدق الله في طلب الشهادة، فصدقه، وعرجت روحه الطاهرة إلى عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بفضل الله ومنته.

وماذا بعد، أيا أسامة!؟ وكان حبُّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أسامة ابن زيد رضي الله عنهما، فهنيئاً لك، أبا أسامة الحبيب. وهنيئاً لك السَّميّ. وهنيئاً لك الشهادة.

أسامة شاب طويل القامة، حنطي اللون، أسود الشعر والعينين، حاد النظرات، سريع الحركة، واثق الخطوة.

ولد – رحمه الله- في حلب سنة 1958م في بيت علم ودين. ويكفي أن يذكر جده الشيخ (سعيد الإدلبي) – رحمه الله- وعمه الشيخ (أحمد الإدلبي) في مدينة حلب حتى يغض الناس أبصارهم إجلالاً وهيبة وعرفاناً بالفضل لأهله.

أما والده، فهو الأخ المحامي (أمين الإدلبي)، - تغمدّه الله برحمته - ربَّى فأحسن التربية، وتعهد فأحسن العهدة، فكان من أولاده شباب للإسلام، وجند لمحمد صلى الله عليه وسلم، وحماة للدين. أجزل الله ثوابه.

درس الشهيد في مدارس حلب الإعدادية والثانوية، ثم انتسب إلى كلية الهندسة، وكان سباقاً في دراسته، سباقاً في نشاطه، سباقاً في دعوته. اجتمعت حوله قلوب إخوانه فكان لهم نعم المربي والناصح.

كان – رحمه الله- معلماً وطالب علم. يأوي إلى حلقات العلم والذكر مصطحباً معه إخوانه، ثم يخرج ليعمل بما علم. صلواته في المسجد. فراغه دعوة. أنيسه القرآن حتى حفظ ثلثيه. سلوكه الإسلام: عزة في لين، ورحمة في قوة، واستعلاء في تواضع. لا يحني رأسه للجاهلية وإن عربدت. يتصدى للمنكر حيث يوجد.. في الجامعة، وفي المدرسة، وفي الشارع، ومع سائق (التاكسي).

كان أسامة رجلاً. وكان أسامة بطلاً. وكان قبل كل شيء مسلماً.

أي أسامة!

إننا ما نكتب عنك لنجزيك، فجزاؤك عند ربك، وإنما لتكون لنا ذكرى وعظة وقدوة وأسوة. رحمك الله، وأحسن نزلك ومثواك.

وسوم: العدد 680