الشهيد: عبد الله جبران (أبو جعفر)
- أحقاً ما تقول؟
- نعم يا سيادة النقيب، فعبد الله جبران لم يمت!
وراح النقيب الطائفي "عدنان العاصي" يستعيد ذكريات أمسه القريب، فاسم عبد الله جبران يرتبط باسم منطقة "الدانا" وقراها المحيطة بها، ومد يده إلى جيبه فلامست أصابعه آثار الجرح الذي لم يشف بعد، وتذكر كيف كمن له المجاهدون قرب قرية "سرمدا" وفر هو وثلاث سيارات من عناصره. أيكون جبران هذا بين المهاجمين!!؟
وزفر النقيب زفرة طويلة، فما أقساها من حياة، كأنما كتب عليه أن يبقى رهن غرفته في الطابق الثاني من مبنى المخابرات العسكرية بإدلب.
إذاً ما الفرق بينه وبين المعتقلين في الطابق الأول؟
لكم يتمنى لو أنه بقي يدرس اللغة العربية في جامعة حلب – ولكنها الأوامر التي لا يستطيع أبناء الطائفة مخالفتها وإلا...
أحس بالضيق، شعر كأنه يختنق فصرف ذهنه عن التفكير بالماضي، وما آلت إليه حالته، فضغط على الزر الكهربائي مستدعياً الرقيب المسؤول عن "المعلومات" وهرول الرقيب ليجد "معلمه" مضطرباً متضايقاً.
- هات إضبارة عبد الله جبران (بنزق).
- ولكنه – يا سيدي – مات!! باندهاش!!
- لا لا، لم يمت، إنه حي ... هؤلاء الإخوان لا يموتون.
ويعود الرقيب بالإضبارة، ويتركها بين يدي النقيب ويمضي، ويمد النقيب العاصي يده إليها وهي ترتعش، ويحس كأنه يفتح كفناً أو تابوتاً – وهو يكره الموت – ويقلب الصفحات، وتقع عيناه على آخر صورة لعبد الله جبران، ويطيل النظر فيها، فيحس كأن هاتين العينين الحادتين تحدقان فيه، ويشعر كأن صاحب هذا الوجه الذي علته مسحة من الحزن، لم يضحك مرة واحدة في حياته.
ثم يمسك أحد التقارير ويقرأ فيه:
"عبد الله جبران من مواليد "ترمانين" التابعة لناحية "الدانا" 22 آذار 1959.
طالب في دار المعلمين بإدلب، نشيط، كثير الحركة، يكثر من التردد على مسجد القرية، يلتف حوله مجموعة من الطلاب. يكثر من الحديث عن الجهاد، التحق بالمسلحين ولم يكن مطلوباً بقي مع المدعو "عبد الرحمن بسطين" إلى أن مات.
انقطعت أخباره، راقبنا القرية ومنزل أهله، فلم نجد له أثراً..."
وزاغ بصر النقيب العاصي، وعاد ينظر إلى الصورة من جديد..
أيكون صاحب هذه الصورة هو نفسه الذي تتحدث عنه المعلومات؟..
ويطوي الإضبارة ويزفر زفرة طويلة.
ويجدد الطلب بالبحث عن عبد الله جبران، وتَقصِّي أخباره، وينشط المخبرون ويأتي التقرير:
"إن عبد الله جبران كان أحد الذين اشتبكوا مع الوحدات الخاصة في قرية "تلعاة" في 12/4/1980 وقد جرح ولكنه استطاع الانسحاب، وشفي بعد خمسة عشر يوماً، وعاد ليقاتل في منطقة "...." وشارك في الهجوم على قرى... و.. في 29/6/1980 رداً على ما فعلته القوات الخاصة في قرية "...و..." ثم عاد إلى ترمانين وأقدم على اجتذاب عشرة عناصر من شبيبة الثورة بتاريخ 8/8/1980!!
وراحت عينا عدنان العاصي تتعثران عند هذه الفقرة، ثم تابع القراءة بهدوء مصطنع:
"وهؤلاء انضموا إليه بعد أن أقنعهم بضرورة حمل السلاح، والدفاع عن الدين، وتجري الآن تحقيقات في قيادة شعبة الحزب بحارم، وكل طرف يرد التهمة عن نفسه.
وآخر ما وصلنا إليه من أخبار عن طريق العميل "..." أنه ذهب بهم إلى جبال منطقة..، بعد أن وعدهم بالحصول على السلاح، والقيام بعمليات في عمق "...." وليس له أثر في القرية فعملاؤنا يرصدون كل حركة فيها".
وتنقطع أخباره عن السلطة المجرمة، وعن جلادها الطائفي عدنان العاصي، ولكنها لم تنقطع عن إخوانه فها هوذا أبو جعفر بجسمه الناحل وساقيه الدقيقتين يقطع المسافات الطويلة مشياً على الأقدام في الليلة الشتائية الماطرة، وقد غاصت رجلاه حتى الركبتين في وحل الطريق وحجبه الظلام عن أعين إخوته، ولا يكاد يسمع إلا صوته يناديهم أن يبتعدوا عن هذه المخاضة باتجاه اليمين، فهو يستطيع أن يدبر نفسه.
إنه ليذكر بعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - لما تسلق النخلة، وبدت ساقاه الدقيقتان فأضحك منظره الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن هاتين الساقين لتعدلان عند الله جبل أحدٍ ذهباً".
وتنقطع أخباره إلا عن إخوانه.
إنه والعشرة الذين انضموا إليه يعيشون أجمل لحظات حياتهم على الرغم من البرد والجوع والمطر، لأنها في سبيل الله.
وتنقطع أخباره إلا عن إخوانه:
إن أبا جعفر خطب حورية بسورة من القرآن.. كيف؟ يجيبك: لقد انتهيت اليوم من حفظ سورة البقرة وختمت بها السبع الطوال. ألم يزوج رسول الله أحد أصحابه بآيات من القرآن؟
وتنقطع أخباره إلا عن إخوانه:
أبو جعفر لم تغيره الظروف القاسية، ولم تزده الشدائد إلا صلابة وعزماً، فهو كما هو في دماثة أخلاقه، ورضائه بقضاء الله، وحرصه على رضوانه، ونيل الشهادة.
وتنقطع أخباره إلا عن إخوانه:
إن أبا جعفر قادم إليكم فانتظروه..
ويَصْدُقُ أبو جعفر الله فيصدقه الله سبحانه.
ففي يوم الأحد، في الساعة العاشرة صباحاً بتاريخ 15/2/1981 شاءت الأقدار أن يترجل الفارس بعد ثلاث سنوات تقريباً من حمل السلاح، في معركة حامية الوطيس بمدينة جسر الشغور قرب "كراج الانطلاق" يقف فيها مع أحد إخوانه ويقف المرتزقة وعناصر المخابرات في طرف آخر، ويصرخ المجرمون بهما أن يستسلما، فيردان عليهما: ا
سمحوا للركاب بالنزول من الباص
ولكن أنى للمجرمين أن يحافظوا على دماء الأبرياء؟
وفتح المجرمون النار على من في الباص، فرد الإخوان، ولعلع الرصاص.
وتراكض الحزبيون يتترسون بمطعم قريب، وشهد كل من كان حاضراً أنها لم تكن معركة متكافئة ولكنها حامية، فنحن لا نقاتل هؤلاء بعدد وعدة، ويتساقط الأبرياء وفيهم النسوة والأطفال صرعى برصاص المجرمين، ويرد الإخوان دفاعاً عن أنفسهم مؤثرين الموت على الاستسلام بعد أن اخترقت هيكل الباص مئات الطلقات.
ومضي عناصر السلطة الأسدية الباغية بالجسدين الممزقين إلى "إدلب" ليتم التعرف عليهما، وينطلق المجرمون إلى "ترمانين" المصابرة ليهدموا منزل الوالدين المفجوعين كأسلوب اليهود في هدم البيوت.. وتضاف صفحة جديدة إلى ملحمة الشمال، ويضم عبد الله وكمال إلى ركب الشهداء في جنة عرضها السموات والأرض – ويمضي المجرمون بقتلاهم وجرحاهم إلى الجحيم وكانوا هم الخاسرين.