شهيد الغربة الدكتور عمر عبد الرحمن
من شهيد الغربة إلى شهيد الكربة: "وهذه محنة الدكتور عمر عبد الرحمن"
كم يتضاءل المرء أمام رموز الثبات والإباء، وكم يهون بلاء العبد بجوار بلاء غيره، ممن يختارهم الله ليكونوا للناس مثلاً، أولئك قوم يمتن الله على عباده بمثلهم في كل جيل فيحذو طلاب المعالي حذوهم.. خطوة بخطوة، وشبراً بشبر، تحدوا الجميع بشرى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل).
وإن تعجب فعجب أن ينسب المرء نفسه إلى الحكمة والحصافة والخبرة والرشد، لا لشيء إلا أنه غير مطلوب من نظام، ولا صادر بحقه قرار اتهام، ولا محكوم عليه بسجن أو إعدام، أوَ يحسب مثل هذا أنه قد أوتي مما زعم مالم يؤته من قال فيه ربه تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30[
ولست أتخيل أن يكون الناس في مثل ما نحن فيه من ضيعة الدين ثم يكون علماؤهم ودعاتهم ينعمون بالراحة والدعة، وأنى لعالم أو داعية هو على الجادة ولا يقتل ولا يسجن ولا ينفى مع أن الظلم ضج منه النمل في جحوره، ولكن صدق الله: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً} [الإسراء: 73[
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (يامخنث العزم أين أنت والطريق: طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرب أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزها أنت باللهو واللعب؟!) اهـ [الفوائد: 42[
وعلى الطريق مضى بعدهم من حملوا الأمانة وأدوا الرسالة {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} [الأحزاب: 39[.
فسجن إمام الأئمة أبو حنيفة النعمان.
وشلت ذراع إمام دار الهجرة مالك ابن أنس.
وأبعد الشافعي.
وعذب أحمد بن حنبل.
ونفي سلطان العلماء العز ابن عبد السلام.
وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية.
وما من إمام من الأئمة ترجم له إلا وصدرت ترجمته بحهاده وصبره، وجاء على رأس مناقبه صدعه بالحق وتحمله الإيذاء في سبيل ذلك، على أنهم لم يكونوا في زمان بدلت فيه الشريعة ونُحِّىَ الدين عن إدارة الحياة، بل غاية ما كان من انحراف في زمانهم لا يتجاوز في توصيفه الشرعي أن يكون جوراً أو ظلماً أو فسقاً، لم يصل في أسوأ أحوال إلى تغيير قواعد الإسلام أو اتباع شرائع الشيطان.
إن محنة د. عمر عبد الرحمن هي محنة الأمة في علمائها، فلو أن العلماء اضطلعوا بدورهم حقاً ما اجترأ الطغاة من الحكام والدول على أن يستهينوا بالأمة وينتهكوا حرمة الأئمة، وإذا كان الطغاة ظلموه بتهمة باطلة نسبته إلى تطرف وإرهاب - زعموا - فقد ظلمه بعض المنتسبين إلى العلم بأضعاف أضعافها حين عدوا مواقفه في الحق بدعاً من القول، وفتناً من باطل العمل!! والتي هي أنكى منها تقاعسهم وغيرهم عن نصرته، وقد علموا يقيناً أنه مظلوم فوق العادة.
محنة الشيخ:
ليس من السهل أن يصور محنة السجين إلا سجين مثله، فكيف إذا انضاف إلى مأساة المسلم في سجنه كونه كفيف البصر، وأنه يعاني أمراضاً مزمنة زادت بدنه وهناً على وهن، وهو الشيخ المسن الذي ناهز عمره الستين عاماً؟.
إن محنة د. عمر عبد الرحمن محنة أمة أهينت في علمائها، محنة جيل يرى رواده يقتلون ببطء، وهو عاجز عن مجرد إنقاذهم، إنني لا أبالغ إن قلت: لقد أقدم الأمريكان على تغييب الشيخ بعد التآمر عليه وحبك الخيوط حوله تصفية لحسابات شخصية قديمة. ولا تزال ذاكرتهم تحتفظ بأسماء من صفوا بعض عملائهم أو شاركوا في ذلك، واليوم هم ينتقمون.
لا يكاد المتابع يخطئ أن سجن الشيخ عمر بيت بليل، وانعقدت عليه نية الأمريكان فعملت على تحقيقه بكل وسيلة، ولو بتخطي القانون وتجاوز حدود القضاء، وانتهاك حقوق الإنسان المقررة في مواثيقهم ودساتيرهم، وإن المتابع لسير التحقيقات ليلحظ التواطؤ المتعمد في كل مراحلها وجميع اجراءاتها، لقد قرروا الاحتفاظ بالشيخ عندهم ولو أن يتم ذلك بهذه الصورة الهزيلة المتهافتة المتهتكة النسيج. وسواء كان ذلك تم بطريق المقايضة بينهم وبين الحكومة المصرية، أو لالتقاء مصالحهم مع مصالح مبارك في التخلص من كابوس عمر عبد الرحمن فإن الأمريكان يتحملون المسؤولية المباشرة عن تغييب الشيخ ويتحملون المسؤولية الكاملة عما يمارس عليه الآن في سجنه من تجاوز لكل معاني الإنسانية في بلد تدعي أنها قلعة الحريات.
لقد تأكد لنا أن تمثال الحرية المشرئب العنق في وسط مدينة نيويورك مجرد صنم أصم أبكم لا روح فيه ولا دماء، وأن رمزه مجرد حجر وطلاء فاقع الألوان كما هي الأشياء في بلادهم كبيرة براقة ولكن لا طعم ولا رائحة.
ولن أقف طويلاً أمام ما يمارس على الشيخ، فإنه شيء بشع يهينني ويهين كل حر مجرد ذكره، فهو فوق احتمال من تجري بعروقهم الدماء الحارة، بل ومن بقيت به بقية غيرة على الدين والكرامة، ويكفيك من ذلك أن تعرف ما يلي:
1- إهانة الشيخ ومحاولات إذلاله برنامج يومي ضمن وظائف السجانين من جلاوزة الدولة العظمى زعيمة النظام الدولي الجديد، بل النظام الوحشي الجديد.
2- فرض اجراءات شديدة جداً على معيشة الشيخ في سجنه وحقه في الحصول على متطلباته الحياتية والتثقيفية، وحقه في الزيارات بطريقة إنسانية، حتى طال الأمر زائريه وبشكل مؤذ.
3- التضييق على الشيخ - وهو الكفيف البصر - حتى إنه ليضطر للقيام بجميع شؤونه الحياتية رغم ما يعانيه من أمراض مزمنة ومعقدة.
هذا وقد بلغ الأمر بإدارة السجن تعمد تفتيش الشيخ تفتيشاً مهيناً كلما خرج إلى الزيارة أو عاد منها وهو ما يتعرض له زائروه أيضاً... وكل ذلك يتم بدعوى خشية الإدارة من تسريب ممنوعات إلى زنزانة الشيخ (!!). وقد قامت مباحث السجن بتجريد الشيخ من كل أمتعته الخاصة حتى سلبوه جهاز التسجيل الخاص وسجادة الصلاة.
وهم يتعمدون التسويف والتراخي في تلبية حاجاته حتى ما يتعلق منها بحالته الصحية كالأدوية والأغذية الخاصة، في حين أن عتاة المجرمين القاطنين بجواره تلبى حاجاتهم على الفور بما في ذلك ما هو ممنوع ومحظور. كما أن الإدارة تغري بالشيخ بعض السفهاء من الجند والحرس فيتعمدوا مضايقته وإيذاءه حتى إنهم ليشوشون على صلاته وقراءاته بإطلاق صوت المذياع عالياً بالموسيقى والغناء، وغير ذلك مما يتفوقون فيه على خبرات المصريين في الإضرار والإيذاء.
إنها صرخة تحتبس في الحلق تبحث عن مجيب، فمن أنادي؟! أأنادي العلماء؟ هم بين سجين وطريد ومعافى لا يكاد يأمن على نفسه!! ثم الآخرون مارزئت الأمة بمثل ما رزئت فيهم. أنادي الشباب؟ هم حيارى بين أفكار ومناهج شتى يبحثون عن الطريق، والطريق إنما تتهيأ للمتزودين {الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69] وهذه طريق الحق محجة واضحة فأين المتزودون العازمون على السير؟
أنادي الأمة! أراها مغيبة الوعي كلما كادت تفيق جرعها حكامها مزيداً من المحن والمخازي مع قدر كبير من المغيبات ولكن أمة ينبض قلبها بالإيمان بعد قرنين أو يزيد من الإكفار والإضلال يمارس عليها، فإذا الصحوة المباركة تجري في عروقها دماً مدراراً، أمة هذه طبيعتها وتلك أصالتها حتماً ستستجيب "الخير في وفي أمتي إلى قيام الساعة".
وسوم: العدد 709