الشيخ عمر عبد الرحمن توفاه الله
الشيخ أ.د توفيق علوان يكتب عن الدكتور عمر عبد الرحمن "رحمه الله"
((الشيخ عمر عبد الرحمن توفاه الله ) ، بهذه العبارة الموجزة الموجعة أسدل الستار على واحدة من أعظم الملاحم التي خاضها الإسلام ورجاله في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجري ، فالشيخ بعمامته ولحيته البيضاء وعباءته السمراء وبصره الضرير وبصيرته المتوقدة في المواجهة ، وكأنه خرج لتوه من بين سطور الكتب القديمة لعظماء العلماء، سعيد بن جبير ، وعبد الله بن الزبير ، واحمد بن حنبل .
وكأنما طفر من الماضي العريق دفعة واحدة فإذا هو حياة مقاومة عنيدة تدب وتسعى ، الإسلام المستميت للدفاع والمصارمة وأطرافه جميعا مخضبة بالدماء ،الإسلام الجرئ المواجه دون مواربة ولا مجاملة ، ،إالإسلام الصارم المرير دون ميوعة ولا مصانعة ، فبدا وهو الشيخ الكفيف الطاعن العاجز وكأنه مقاتل على صهوة جواده يصدع بالحق دون هوادة ولم تاخذه تلونات المنافقين وتبريرات المبررين وركون القاعدين المبصرين من درجوا على الخداع والغش ووضع المساحيق الكثيرة على أشد الوجوه قتامة وتجبرا .
تعالوا فحدثونا عن أمريكا التي ملأت عالمنا بأكاذيب مواعظها القميئة حول حقوق الإنسان ، حول الحرية حول المساوة ، حدثونا عن نفاق عصر بأكمله وتهويم وتضليل عالم بأكمله .
وعلى شبابنا ان يدركوا أنها الحرب المستعرة على الإسلام ومن غير هوادة أو شفقة أو مواربة ، والقرآن ينادي على الصراط أنهم لن يرقبوا فيكم عهدا ولا ميثاقا ، وهاهي قصة عمر عبد الرحمن وملحمته العاصفة ثمانين عاما عددا ، تخرق الآذان وتفقأ العيون ، لا تسمعوا لدعاة التحضر من المنافقين لا تسمعوا لمن يكذبون أعينهم جهرة ويصدقون تهويمات المنظرين وتحريفات المترددين وفلسفات المتفلسفين .
إنه الفارس الضرير الذي ترجل متشحطا في دمائه فلم يهن ولم يتبرم ولم يتراجع حتى اشتعل الرأس شيبا ووهنت العظام وبلغ من الكبر عتيا، وكانت حياته آية للسالكين على الطريق وكان مماته آية لمن اعتصروا أفكارهم وأجهدوا اذهانهم في مذهب ساقط أذل ما فيه أن تبقى حيا منهوك العرض مسلوب الكرامة مضيع بين الناس حي كميت وميت بين الأحياء .
إنه الشيخ الضرير الكفيف المعذور بنص القرآن المتصدي لأعظم ملاحم الحق التي لم يقو عليها المبصرون أولو الحيلة والتنظير ، فبقي متنقلا يرسف بين سجون الطواغيت في بلاد المسلمين حتى ذهب به القدر المحتوم إلى الطاغوت الأكبر أمريكا .
أمريكا التي بدأت مرحلة طفولتها البائسة بإبادة أمة بكاملها ، وفي شبيبتها كانت أول دولة في التاريخ تضرب الناس بالقنابل الذرية ،ثم هاهي تختم خاتمها المدمرة الهالكة بالتحريض والإستقواء على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، تلك الأمة المرحومة المعصومة بكتاب الله الذي يتلى آناء الليل واطراف النهار فيها ، القرآن الذي يستعصي على التحريف والخضوع والهزيمة ، وفيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم المحفوظة بحفظ الله ، والمكفولة بعناية الله ، فعدت عليها واستضعفتها وانتقمت للكفر من الإسلام
وكان الشيخ عمر عبد الرحمن هو الإسلام المجسد في غمراتها ، جسد جريح واهن ممزق أتعبته الأوجاع والأكاذيب أخذ بغير رحمة ممن لهم وجوه وليست لهم قلوب. ليفضح الأساطير المضللة حول الحرية والعدالة والرحمة ، شيخ طاعن في السن مهدم الجسد متفحم القدم قعيد الكرسي المتحرك مصاب في بطنه وعظامه ، محاصر دون هوادة لينزع منه الدواء وينفى منبوذا في غيابات جب سحيق .
ليعلّم شبابنا الدوروس البليغة ووجه الغرب جملة ، وأمريكا على وجه الخصوص ، نعم لقد ثأروا للكفر من الإسلام في شخصه ، وليتعلم شبابنا من شيبته كيف يدفع الشرف عن نفسه ، وكيف يقف الإسلام شامخا أبيا تحت الرياح العاصفة ، غير عابئ بالعواصف الصاعقة التي تنتظره .
رحمه الله لم يهادن ولم يتلعثم ولم يتهاون ، وعلم قدر الدنيا فهانت عليه ، وعلم مقام الله فحفد إليه ، وعرف الحق فاستمسك به ، وعرف الباطل فوضعه تحت قدمه ، وعاش بطلا ومات عزيزا وكان صوتا صارخا في برايا الفضاءات الرحيبة ناصرا لله ومنافحا عن رسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام ، :
(أيها المستشار رئيس محكمة أمن الدولة العليا: لقد أقيمت الحجة، وظهر الحق، وبان الصبح لذي عينين، فعليك أن تحكم بشريعة الله، وأن تطبق أحكام الله، فإنك إن لم تفعل فأنت الكافر الظالم الفاسق، لأنه يصدق فيك قول الله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وليس الحكم بمنته في هذه القاعة ولا في هذه الدنيا، بل الحكم هناك ينتهي أمره في الآخرة يحكم فيها الحكم العدل: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.
وإننا لا نخشى سجناً ولا إعداماً، ولن نرهب بأي تعذيب ولا إيذاء. ونقول ما قاله السحرة لفرعون: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.
(إنني مطالب أمام ديني وأمام ضميري أن أدفع الظلم والجبروت، وأرد الشبهة والضلالات، وأكشف الزيغ والانحراف، وأفضح الظالمين على أعين الناس، وإن كلّفني ذلك حياتي وما أملك .
أنا لا يرهبني السجن ولا الإعدام، ولا أفرح بالعفو أو البراءة، ولا أحزن حين يحكم عليّ بالقتل، فهي شهادة في سبيل الله، وعندئذ أقول: فزت وربّ الكعبة،)
رحم الله الشيخ عمر عبد الرحمن ، لقد كان آية من آيات الله في حياته وكان آية من آيات الله في مماته ، ولتعلم أجيالنا أن ثمت أشياء أغلى من الحياة وأن ثمت عواقب أبشع من الموت.
أ.د توفيق علوان
أستاذ تفسير علوم القرءان بالجامعات السعودية
وسوم: العدد 709