الذين يعمرون مساجد الله في رمضان ويهجرونها بعده يقيمون لله عز وجل على أنفسهم حجة
من أحاديث رمضان:
يقول الله عز وجل في سورة التوبة : (( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) . جاء هذا النص القرآني بعد قوله تعالى : (( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ))، فكان بمثابة جواب عن استفسار قد يتبادر إلى الأذهان وهو من هم الأحقاء بأن يعمروا مساجد الله ؟ كما جاء في تفسير التحرير والتنوير لفضيلة العلامة المرحوم الطاهر بن عاشور . و قد قال فضيلته إن صيغة القصر : (( إنما يعمر مساجد الله )) تؤذن بأن المقصود إقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله من غير المشركين الذين كان إقصاؤهم صريحا بالنص القرآني ،فتعين أن يكون الذين يعمرون المساجد هم المسلمون لورود صفات في الآية خاصة بهم وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهما عبادتان من عبادات الإسلام ، فضلا عن الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو أمر قد يشاركهم فيه من لا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة على الطريقة الإسلامية من يهود ونصارى .
والمسلم الحريص على انتمائه إلى هؤلاء الذين ورد ذكرهم في هذه الآية الكريمة لا مندوحة له عن عمارة بيوت الله عز وجل أثناء الصلوات الخمس في رمضان وفي غير رمضان لأن الله عز وجل يقول : (( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )) ،وقد قال ابن عباس رضي الله عنه أي كتابا مفروضا ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن للصلاة وقتا كوقت الحج .
وقد يفوت المسلم أداء صلاة أو صلوات في المسجد ، فيقضيها أو يصليها في بيته أو في مكان آخر لظرف من الظروف القاهرة ، ولكن صلته لا تنقطع ببيوت الله عز وجل إذا انتفت تلك الظروف القاهرة حيث يعود من جديد لعمارتها حرصا على أن يكون ممن خصهم الله تعالى بالتردد عليها .
وإذا كان الإنسان يعمر مساجد الله في شهر الصيام لأنه لا يستسيغ عقله أن يؤدي عبادة الصيام دون أداء عبادة الصلاة ، أو لأنه يعتقد أن صيامه لا يقبل دون صلاة ، مع أنه يوجد كثير ممن يصومون ولا يصلون ثم يترك الصلاة بعد انصرام شهر رمضان ، أو يترك عمارة المساجد فيصلي في غيرها، فإنه يقيم لله عز وجل عليه حجة وهو سبحانه القائل بأسلوب القصر : (( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) .
وليس من قبيل الصدفة أن يرد في هذه الآية الكريمة قوله تعالى : (( ولم يخش إلا الله )) فقد يخشى البعض أن يقال لهم لم تصومون ولا تصلون ، فتكون صلاتهم في رمضان خشية ما يقال لهم أو عنهم ، ولا تكون طاعة لله عز وجل . وقد يخشون أن يقال لهم أو عنهم إنهم لا تعمرون مساجد الله ، فيرتادونها في رمضان فقط خشية هذا القول، وليس استجابة لأمر الله تعالى أو حرصا على أن يكونوا من المهتدين .
واللافت للنظر أن بيوت الله عز وجل تغص بالمصلين في شهر رمضان ، وهذا شيء جميل ، ويبعث على الارتياح ، ولكنه بمجرد انصرام هذا الشهر تعود المساجد إلى وضعها السابق خلال باقي شهور السنة لا ترتادها إلا قلة قليلة من المصلين ،الشيء الذي يدعو إلى السؤال عن غياب الكثرة الكاثرة التي تعمرها في رمضان ، وتهجرها في غيره ، فهل يتعلق الأمر بترك الصلاة بعد رمضان أم بترك عمارة المساجد ؟ فإن كان الأمر يتعلق بترك الصلاة ، فالقضية في منتهى الخطورة ذلك أن الذين يتركون الصلاة بعد رمضان ينقضون الركن الثاني من أركان الإسلام ويقيمونه في رمضان فقط مع أنه عبادة موقوتة أي مفروضة أو لها وقت كوقت عبادة الصيام ، وعبادة الحج ، وإذا كانت أوقات هاتين الأخيريتين محدودة زمنا، فإن وقت الصلاة غير محدود وهومستمر طيلة السنة . وإذا ما تعلق الأمر بترك عمارة المساجد ، فالأمر أيضا في منتهى الخطورة ،ذلك أنه يخشى من لا يعمر مساجد الله أن يحبط عمله أو أن يشهد على نفسه مثل شهادة المشركين لقول الله تعالى : (( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النارهم خالدون )) .
وبناء على ما تقدم يجدر بالذين يعمرون مساجد الله في رمضان ، ويهجرونها بعد انتهائه أن يراجعوا أنفسهم وهم في بداية هذا الشهر الكريم ، وأن يبادروا إلى توبة نصوح لا يعودون بعدها إلى هجران بيوت الله أو هجران الصلاة خصوصا وأن الله عز وجل جعل هذا الشهر فرصة ثمينة لتوبة نصوح إذا قبلها سبحانه وتعالى وهو يقبل توبة العباد جبّت ما قبلها ، والتائب من ذنبه كمن لا ذنب له ، ومن حرم التوبة النصوح في رمضان ، وفاته فيه خير ليلة هي خير من ألف شهر فقد حرم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد جاءكم رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها قد حرم " . ومن كان في نيته أن يترك الصلاة أو يهجر مساجد الله بعد رمضان، فإنه لا محالة من المحرومين ،لأنه سيخسر فرصة العمر التي لا تعوض بحيث لن يدرك خيرا ضيعه وهو خير ألف شهر ويتعلق الأمر بمدة زمنية قد لا يتسع لها عمره ، ويدركه أجله قبلها.
وسوم: العدد 773