العارف بالله ...
العارف بالله .. لقب من الألقاب العلمية التي تطلق على آحاد العلماء أولي المعرفة الخصوصية من أصحاب المعرفة بالله . لقب " العارف بالله " لقب شريف خاص رمز به العلماء المسلمون الذين اقترحوه إلى جملة من الأحوال التي تتحقق في صاحب هذا اللقب المنيف . منذ القرون الأولى للإسلام كان العلماء المسلمون يستشعرون ندرة هذه الرتبة من العلماء . حتى يقول الإمام الغزالي " إنه أندر من الكبريت الأحمر ".
العارف بالله قد يكون حافظا أو مفسرا أو فقيها أو أصوليا أو متكلما أو ..وقد لا يكون واحدا من أي من هؤلاء جميعا ..
ولأن الشرح والتوضيح بضرب المثل أقرب إلى العقول والقلوب فسأقرب أنموذج
" العارف بالله " في مثلين اثنين أستعير أحدهما من القرآن الكريم وأستعير الآخر من حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله ، قصد التيسير والتقريب.
أما المثل القرآني فهو ما ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف من قصة سيدنا موسى صاحب الألواح التي فيها موعظة وتفصيل لكل شيء . أي صاحب الألواح التي جمعت العلوم ، وبين الرجل الصالح الذي يقول الله سبحانه وتعالى عنه : ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
أطلق تصورك من غير غلو ولا إسراف ولنتصور حال هذا الرجل . ومتى وكيف ومن أين . حال هذا الرجي يمكن أن يعيننا لنتصور حال العارف بالله أو لعله يضعنا على أول الطريق. الأمثلة الثلاثة المضروبة في سورة الكهف تقرب لعقولنا لنفهم جانبا مما يسمى مشكلة الشر في العالم والتي ما تزال تضل عندها عقول الكثيرين . ويبقى الأنموذج محدودا مجزوء ، ونكون بضربه كمن يفتح كوة صغيرة على سماء واسعة يراقب من خلالها حركة أجرام السماء وصور الموجودات التي تموج على سطح الأرض ..
العارف بالله وأنموذج الإمام الغزالي ..
ويحكي لنا حجة الإسلام الغزالي هذه الحكاية تمثيلا وتقريبا وتعليما فيقول ..
ولو تصورنا أن قلب الإنسان أو عقله حوض صغير . ولو أراد هذا الإنسان أن يملأ قلبه بالعلم النافع المفيد . ويشبه هذا العلم بالماء العذب النمير . يقول حجة الإسلام فالطريق التقليدية لملء الحوض بالماء أنك تجر إليه الماء عبر قنوات من ينابيع وأنهار وآبار فتصب فيه حتى يمتلئ . وما هذه القنوات إلا الحواس الخمسة التي يتعرف بها الإنسان على العالم عبر مشاهداته ومقروءاته ومسموعاته ومحسوساته . وهذه طريقة وهي طريقة كل علماء الفقه والكلام والنحو والرياضيات والطب والهندسة والفيزياء .
أما الطريقة الثانية لملء الحوض بالماء حسب تمثيل الإمام الغزالي فأن يظل الإنسان يحفر في قعر الحوض حتى ينبع من جوفه الماء العذب النمير . والمقصود بهذا الحفر جملة من العبادات تلخصها كلمة التقوى . أو المجاهدة ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) أو التفكر في خلق السموات والأرض ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ),
وديمومة التأمل والذكر ( يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ..) كل هذا يثمر بطريق غير مشروطة ما يسمى العارف بالله .. صاحب العلم اللدني الذي يقال في صاحبه ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
العارف بالله ليس بالضرورة خريج معهد ولا جامعة ولا صاحب جبة ولا عمامة إنه هذا الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره .."
أو هو في صورة الشاب حارثة ورسول الله يسأله : كيف أصبحت يا حارثة ؟ يجيبه حارثة : أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله . فيقول له الرسول الكريم : إن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك !!
يقول حارثة : أصبحت أنظر إلى عرش ربي بارزا ..
وأنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ..
وإلى أهل النار يتضاغون فيها ..
يقول له الرسول الكريم : عبدٌ نور الله قلبه . عرفت فالزم . عرفت فالزم . عرفت فالزم ..
اللهم املأ قلوبنا بنور معرفتك حتى نشهد أنك الواحد في ذاتك الواحد في صفاتك ألواحد في أفعالك ..وأنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا ..
العارف بالله الحق لا تختلط عليه ولا عنده بحال ما يثرثر به القاصرون عن حقيقة العلاقة بين الشريعة والحقيقة ، لأن من تمام هذه المعرفة وهذا العلم وكماله وجماله أن أصحابه لا يثرثرون ولا يخلطون ...
وسوم: العدد 854