إدانة النفس والعمل لما بعد الموت من الكياسة و الميل مع هواها والتمنّي على الله من العجز
من أشهر الأحاديث النبوية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله "
بموجب هذا الحديث الشريف الناس في هذه الدنيا : صنف الأكياس أو العقلاء ، الذين تتجلى كياستهم أو تعقلهم في إدانة أو اتهام أنفسهم فيما تأتي من أفعال أو فيما يصدر عنها من أقوال ،لأنهم يعتقدون أنهم صائرون إلى موت بعده بعث وحساب وجزاء يكون إما نعيما دائما وإما جحيما أبديا، وصنف العاجزين أو ضعاف العقول ، الذين يتجلى عجزهم أو ضعفهم العقلي في الاستسلام لأهواء نفوسهم والتعويل أو الرهان على الأماني عوض الأفعال والأقوال التي كلّفهم وألزمهم بها الشرع ، وهؤلاء على قسمين : قسم لا يعتقد أصلا أنه صائر إلى بعث بعد موت ، وحساب وجزاء ، وآخر يعتقد ذلك ولكنه ضحية الغفلة والتسويف حتى تنصرم أيام حياته وهو خاوي الوفاض ليس له ما يواجه به مساءلة ربه سبحانه وتعالى بعد البعث ، وقد غر منه أنه غفور رحيم ، وصرف العمر يتمنى عليه مغفرة دون سعي منه . وشتان بين الأكياس والعاجزين .
ومثل الكيّس من الناس كمثل من عمد إلى قطعة أرض، فحرثها وزرعها ، وبعد حين جنى محصولها ، أو بنى فيها بناء اتخذه مسكنا أو متجرا أو معملا أو حفر فيها بئرا، فشرب وسقى ، ومثل العاجز منهم من عمد إلى قطعة أخرى، فظل يحلم فيها بمحصول أو مسكن أو متجر أو معمل أو بئر دون سعي منه لتحقيق ذلك ، وبعد حين وجد نفسه كما كان مجرد حالم يتمنى على الله عز وجل أن يحقق حلمه وقد أمره بالسعي لتحقيق ذلك ، ولكنه لم يفعل لأنه أتبع نفسه هواها في الكسل والخمول والتسويف .
و نماذج العاجزين فئتان : فئة تنصرف إلى عمل الدنيا كل الانصراف ضاربة عرض الحائط عمل الآخرة إنكارا لها و جحودا ،وهي الفئة التي قال فيها الله عز وجل : (( فاعرض عن من تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى )) ، وفئة تقر وتعترف بعمل الآخرة إلا أن التسويف والكسل والتراخي يلهيها عنه ، وهي الفئة التي قال عنها الله عز وجل : (( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) . وقد جعل الله عز وجل أول هذه الآية خاصة بالفئة التي لم تكن آمنت بالآخرة، وقصرت همها على سعي الدنيا ، وجعل آخرها خاصة بالفئة التي آمنت بالآخرة ولكنها لم تسع لها سعيها ، والفئتان سيّان في المصير، فلا الأولى ينفعها إيمانها الذي يأتي متأخرا بعد الموت والبعث ، ولا الثانية ينفعها إيمانها الذي لم تكسب فيه خيرا .
وأقبح العجز أن تسخر الفئة المنكرة للبعث بعد الموت إما بشكل صريح كما هو حال الكافرين الملحدين أو بشكل خفي فيه تمويه بإيمان في الظاهر وكفر في الباطن كما هو حال المنافقين وهم الذين توعدهم الله بأشد العذاب لخداعهم من خلال ادعاء الإيمان وهم كفار فقال جل شأنه : (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا )) ، والدرك أقصى قعر النار ، ويكون فيه أشد العذاب وأقساه . فإذا كان الكافر يعاقب على كفره الظاهر ، فالمنافق يعاقب على كفره الباطن وعلى إيمانه الكاذب، لذلك يضاعف له العذاب في الدرك الأسفل من النار .
والمنافقون أولهم في الزمان الأول كآخرهم فيه إلى قيام الساعة نفاقا وفسوقا كما قال الله تعالى : (( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقون هم الفاسقون )) . والظاهر من هذه الآية الكريمة أن الذي يجعل هؤلاء بعضهم من بعض هو اشتراكهم في الأمر بالمنكر وهو الشر، والنهي عن المعروف وهو الخير ، فضلا عن البخل المادي والمعنوي ، ونسيان الله عز وجل بإنكار المعاد والحساب والجزاء ، وكل ذلك فسوق منهم ،وهو خروج عن حدود الشرع التي حدّها الله عز وجل .
ولقد أفاض كتاب الله عز وجل في وصف المنافقين زمن نزول الوحي ، وأعطى بذلك ورقة تعريف لهم بها يعرف من يأتي بعدهم من المنافقين في كل عصر ومصر . وقد يظن بعض المنافقين في زماننا هذا أنه بإمكانهم التحايل للتمويه على نفاقهم ، فيعمدون إلى أقوال قد تعجب من يسمعها ويظن الخير بهم وهم خلاف ذلك ، وهذا أمر نبّه إليه الله عز وجل حيث قال : (( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون )) ،فتشبيههم بالخشب المسندة يدل على انعدام الخير فيهم ، وأنه لا فائدة ترجى لا من أجسامهم ولا من أقوالهم ، وهم على وخوف ووجل دائمين من افتضاح أمرهم ،ذلك أن الأوائل منهم كانوا زمن نزول الوحي يخشون أن ينزل الله منه ما يفضحهم ، والأواخر منهم مثل الأوائل في الخوف والوجل من افتضاح أمرهم ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم الأعداء الذين يجب الحذر منهم لأنهم يتظاهرون بألسنتهم أنهم مع المؤمنين ولكن قلوبهم تكون مع أعدائهم الكافرين ، ولهذا دعا عليهم الله عز وجل بالخزي لأنه بسلوكهم هذا ينحرفون عن الحق إلى الباطل والضلال .
ويمكننا بيسر وسهولة أن نتبيّن أمر المنافقين في زماننا هذا ، ذلك أنهم على شدة احترازهم من افتضاح نفاقهم يكشف عنه كلامهم المنطوق أو المكتوب ، ويتجلى ذلك من خلال امتداحهم الكفار ، والرفع من شأنهم ليس في ما يبدعون ويخترعون فقط بل في نمط عيشهم وسلوكهم بما في ذلك المنافي للفطرة السوية ، ولا نحتاج إلى تعداد نماذج منه، فهي معروفة تتقزز منها النفوس السوية ، وكأن مخترعاتهم عند المنافقين تبرر سلوكاتهم المنحرفة . ومقابل الرفع من شأن ملة الكفر يضع منافقو هذا الزمان من شأن ملة الإيمان ساخرين من أهله مستهزئين بهم، ويجرون مقارنات بينهم وبين أهل ملة الكفر لا تستقيم لا عقلا ولا منطقا ولا هي موضوعية بل منحازة كل الانحياز، وجائرة كل الجور ،لأنها تزن وتقيس بميزان واحد هو ميزان الدنيا الذي يسقط الآخرة من وزنه ومن حسابه ، وذلك مبلغ من يزنون به من العلم .
وبمناسبة حلول بلاء وباء الفيروس ذي التيجان" كورونا " ، انبرت ثلة منهم ترفع من شأن الكافرين، وتضع من شأن المؤمنين بسبب أمرين من مقتضيات إيمانهم : أولهما الإيمان بالتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والضراعة لكشف البلاء مستحضرين في ذلك لقوله تعالى : (( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون )) ، وثانيهما الإيمان بالعقاب الإلهي الذي قد يكون بأساء وهي المجاعة أو ضراء وهي المرض أو الوباء أو الهلاك بالكوارث إذا ما عتا البشر عن أمر ربهم ، وذلك لقول الله تعالى : (( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) . فكيف يعاب على أهل ملة الإيمان إيمانهم بأن الله عز وجل يأخذ الخلق بذنوبهم ، ويعاقبهم على ذلك بما يشاء من عقاب ؟ فهل الخلق في هذا الزمان هو خلق غير خلق الأزمنة الماضية حتى يستثنون من سنة العقاب الإلهي ؟ وما العيب في أن يقول المؤمنون لعل الناس فرطوا في جنب الله عز وجل فسلط عليهم هذه الجائحة عقابا لهم ، وقد ورد ذلك القرآن الكريم ذلك ؟ وما هي حجة المنافقين في أن هذه الجائحة ليست عقابا إلهيا ؟ فهل أطلعهم الله عز وجل على الغيب أو أوحى إليهم ذلك ؟ أليسوا بقولهم ذلك ينكرون آيات بيّنات من الذكر الحكيم ؟
إن كياسة المؤمنين جعلتهم يدينون أنفسهم ، ويظنون التقصير منهم وهو ما جعلهم يتوبون إلى ربهم ويستغفرونه ويدعونه ضارعين إليه كي يرفع عنهم الوباء إن كان عقابا منه على تقصيرهم اقتداء بسلفهم الصالح الذي كان يقول الواحد منهم : " إني لأرى أثر معصيتي في خلق دابّتي أو في عثرتها " ،وهذا منتهى الكياسة وإدانة النفس . ومن لا ينحو هذا النحو في الكياسة وإدانة النفس إنما هو يزكيها غرورا متجاهلا قول الله عز وجل : (( ولا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) ، ومن لا يبالي بما ينزل به مما يسوء ، وينكر أن يكون ذلك من آثار معاصيه غافل يغفل عن قوله تعالى : (( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )) ، والإملاء إنما هو الإطالة في العمر، والإنساء في الأجل .
ونختم بالقول بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، ولنا فيه عبرة وتنبيه إلى ما قد يثيره النفاق في هذا الزمان من شر في أمة الإسلام وهو كالآتي :
"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
وسوم: العدد 876