(والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمّا وعميانا)
القرآن الكريم رسالة الله عز وجل التي ختم بها سبحانه وتعالى رسالاته للناس ، وجعلها عالمية خلافا لسابقاتها التي كانت توجه خصّيصا لأقوامها. وعالمية الرسالة الخاتمة جعلها جامعة مانعة كما يقال لتكون ضابطة لسلوك الناس ومعاملاتهم إلى قيام الساعة . ولقد اختار لها الله تعالى اللسان العربي لحكمة يعلمها ،ولا علم للبشر بها إلا ما علمهم من ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وعالميتها تلزم البشر بتلقيها باللسان الذي أنزلت به حتى يتشربوا توجيهاتها كما أراد لهم الله سبحانه وتعالى ، ولا عذر لأحد من الناس في ذلك ، وإن الناس ليتعلمون ألسنة غيرهم لمجرد مصالح دنيوية فانية ،فكيف بهم لا يتعلمون لسانا يتعلق بمصالحهم الدنيوية ،ومصلحتهم الأخروية وهي الأهم والأدوم، ذلك أن من ضاعت منه خسر خسرانا مبينا ؟
والرسالة الخاتمة كسابقاتها كشفت من الغيب للناس ما لم يكن بإمكانهم أن يعلموه أبدا لولا رحمة الله عز وجل بهم ، وتناولت من الأمور والقضايا ما كان في أول الزمان، وما سيكون في آخره. وأهم ما تناولت من القضايا قضية الإنسان هذا المخلوق الذي كرّمه الله نعالى واستخلفه في الأرض ، وكشف له السر وراء خلقه ووجوده في هذه الحياة الدنيا ، وما سيكون عليه حاله في آخرته .
ومن خلال ما جاء في هذه الرسالة الخاتمة ،يمكن الاطلاع على كل ما وصف به الله عز وجل في حالي استقامته وانحرافه ، وقد جعل سبحانه وتعالى له صفات خاصة به وهو على الصراط المستقيم ، وجعل له أخرى وهو ناكب عنها ، وبموجب ذلك نجد هذه الرسالة تصنف البشر إلى صنفين : أهل هداية ، وأهل ضلال ، ولكل صنف درجات في الهداية ، ودرجات في الضلال .
واستعراض صفات أهل الهداية في كتاب الله عز وجل ودرجاتهم يطول فيه الكلام ويتشعب، لهذا سنقتصر على صفة من الأهمية بمكان، وهي صفة الخضوع لما جاء في الرسالة الخاتمة مصداقا لقوله تعالى وهو يستعرض صفات من سماهم عباد الرحمان ممن هداهم إلى صراطه المستقيم : (( والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا )) ،فالرسالة الخاتمة كغيرها من الرسالات السابقة ،جعلها الله تعالى لتذكير البشر بما يجب عليهم ذكره واستحضاره لضرورته في حياتهم وأهميته وخطورته إذا ما وقع منهم النسيان .
والناس في تعاملهم مع الرسالات المذكرة بما فيها الرسالة الخاتمة التي بها تقام الحجة على من أدركتهم من الناس إلى قيام الساعة صنفان : صنف إذا ذكّر بها تذكّر ، وآخر لا يلقي لها بالا . ولقد وصف الله تعالى الصنف الأول في تعامله مع رسالته الخاتمة في هذه الآية الكريمة بعكس ما وصف به تعامل الصنف الثاني حيث قال : (( لم يخروا عليها صمّا وعميانا )) ،وهذا ثناء منه سبحانه على الصنف الأول ، وتعريض بالصنف الثاني .والخرور كما جاء في بعض كتب التفسير استعير للدلالة على كراهية سماع القرآن الكريم حيث كان من يكرهونه يصمّون آذانهم عن سماعه ، ويعمون أبصارهم عن النظر فيه على وجه الحقيقة وعلى وجه المجاز كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين ، وهما وجهان يلتقان مصداقا لقوله تعالى في سياق الحديث عن قوم نوح عليه السلام : (( جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا )) ،فوضع الأصابع في الآذان أريد به صممها ، واشتغشاء الثياب أريد به عمى الأبصار ، وكل ذلك من الإصرار على عدم السماع والرؤية ،وهو من الاستكبار عن الاهتداء بما جعل فيه الله عز وجل هداية للعالمين .
وصفة المهتدين والمناقضة لصفة الضالين في التعامل مع كتاب الله عز وجل في غاية الأهمية إلا أن كثيرا من الناس لا يلقون لها بالا ، ويمرون بها وهم يقرؤون القرآن الكريم مرور الكرام كما يقال ، وهي على رأس صفات الهداية ،لأن الصفات التي صاحبت هذه الصفة ، وهي المشي على الأرض هونا ، ومقابلة خطاب الجاهلين بسلام ، والمبيت لله سجودا وقياما ، والتوجه إليه عز وجل بالدعاء لصرف عذاب جهنم عن المستأجرين به منه ، والإنفاق القوام دون إسراف أو تقتير ، وتوحيد الله عز وجل دون شرك ، وعدم قتل النفس التي حرم سبحانه إلا بالحق ، وتجنب الزنى ، وتجنب شهادة الزور ، وسؤاله سبحانه وتعالى أن يجعل من الأزواج والذريات قرة أعين ، كل ذلك يتوقف على صفة التذكّر إذا تم التذكير بآيات الله عز وجل ،لأن هذه الأخيرة هي التي تأمر بكل تلك الصفات وغيرها ، فمن تذكّر لزم الهداية والاستقامة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ظهور فئة من الناس يحسبون على الإسلام، ولكنهم يقولون في الرسالة الخاتمة قولا منكرا يحاكي قول من لا يدين بدين الإسلام ، وعليهم ينطبق ما ذم به الله عز وجل الذي لا يتذكّروا إذا ذكّروا بما في كتابه عز وجل ، ذلك أنهم يصمون عنه آذانهم ، ويعمون عنه أعينهم . والدليل على ذلك أنهم ينكروا الغيب الذي استأثر بعلمه سبحانه وتعالى ، ولم يظهر عليه إلا من اصطفاهم من صفوة خلقه من أنبيائه ورسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، يفعلون ذلك عابثين مشككين ساخرين ممن يؤمنون به، وقد أمرهم الله عز وجل بذلك دون أن يسمح لهم بالبحث فيما غيّبه عنهم لحكمة لا قبل لهم بمعرفتها . ولقد صار السفهاء من هؤلاء يجعلون الاعتقاد بالغيب كالاعتقاد بالخرافة والأسطورة وما إلى ذلك مما يتوهمه البعض ،علما بأن الغيب علم يقين لا يلابسه ظن أوتوهم .
وما كل ما خلق الله عز وجل مما غيّبه يمكن لعقل الإنسان أن يدركه ، وهو إن لم يدركه اعتبره وهما أو خرافة أو أسطورة . وعجز عقل الإنسان عن إدراك ما غيّب الله عز وجل عنه هو الذي يحمله على الظن بأنه وهم وخرافة وأسطورة لتبرير عجزه من جهة ، ومن جهة أخرى لإشباع استكباره والإصرار عليه كما وصف الله تعالى ما كان عليه قوم نوح عليه السلام ، وما كان عليه غيرهم ممن جاءوا بعدهم ، وما هو كائن عليه بعض الناس اليوم ، وما سيكون عليه غيرهم ممن سيأتون من بعد .
وفي هذا الظرف بالذات الذي يراد فيه الإجهاز على القضية الفلسطينية، وهي قضية عقدية مرتبطة بمقدسات معرضة للتهديد من طرف المحتل الصهيوني كثر التجاسر على كتاب الله عز وجل من طرف بعض المستأجرين المأجورين على ذلك من دعاة العلمانية لسبب بسيط وهو أن التذكير بآيات الله ينسف المشروع الصهيوني بإقامة دولة من أساسه ، والذي بات يسمى صفقة القرن ، لهذا يعمل الصهاينة على تسويق فكرة صرف المسلمين عن كتاب ربهم من خلال استخدام بعض المحسوبين عليه زورا وكذبا، وهم من المنافقين الجدد الذين يبطنون ما لا يظهرون ، وهم عبارة عن طوابير خامسة تابعة للكيان الصهيوني وللكيانات الغربية العلمانية وغيرها متوغلة في المجتمعات الإسلامية لهدم عقيدة المسلمين من خلال أساليب تشكيكهم في مصداقية الرسالة الخاتمة .
وفي الأخير نقول إنه من المؤكد أن ما تعاني منه المجتمعات الإسلامية وغيرها من مشاكل سببه صمم الآذان وعمى الأبصار عن آيات الله عز وجل . ولن تنطلق هذه المجتمعات انطلاقتها الحقيقية نحو نهضة صحيحة وناجحة وذات جدوى إلا بفتح الآذان ورفع الغشاوات عن الأبصار ليحصل لأصحابها التذكّر إذا ما ذكّروا بآيات الرسالة العالمية الخاتمة .
اللهم إنا نعوذ بك من صمم أو عمى يصرف آذاننا وأبصارنا عن آياتك الهادية إلى صراطك المستقيم . اللهم ق المسلمين من أهواء من صمت آذانهم وعميت أبصارهم عن آياتك . اللهم لا يؤاخذنا بسفه السفهاء وجهل الجهلاء ، واستكبار المستكبرين . اللهم إنا نعوذ بك من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة من أعدائك أعداء الملة والدين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 893