وقَفاتٌ في حَضْرةِ المَوتِ
مهما ملأَ العبدُ من الصفحات، وسطَّر داخلها الكلِمات، ورصَّ فيها العِبَرَ، ونمَّق العبارات محاوِلاً أن يعِظَ ليتَّعِظ، يَبقى منظرُ القبرِ أبلغ من كلِّ المواعِظ، والوقوف أمامَه أشدّ من كلِّ الدروس، فإنْ القبرَ أوَّل منازِل الآخرة كما قال النبيُّ ﷺ وقال كذلك : "ما رأيتُ منظرًا قط إلا والقبرُ أَفظع منه."
بالأمسِ ضمَّ القبرُ عالماً أصوليًّا جليلًا، ورجلاً فاضِلًا رزَقه الله سجيَّة نقيَّة وأنعَم عليه بالصفاتِ البهيَّة، امتلأت الصفحاتُ أمس بنعيِهِ ورثائِه ومديحِه وذكرِه والدعاء له، فلن نزيدَ عمَّا قالَه الأقرباءُ والأهلُ والمشايخُ والطلبةُ والمحبّون الذين تهافتوا من شتَّى البلاد والأمصار للتعزية به، ولكنَّنا لمَّا وقفنا للصلاة عليه وحضرنا دفنه كانت هذه وقفاتٌ نكتبها على عُجالة :
- حضرَ الدفنَ لفيفٌ كبير من المحبِّين وغصَّ المكان بالمشايخِ وطلبة العلم، فكانت الجنازة سنيَّة هادِئة يعلوها وقارُ الحزنِ، ويسودها صمتُ الأسى، وتنهمرُ فيها دموع التسليم لفقدِ الشيخ الجليل، ولله درُّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- القائِلُ "بيننا وبينهم يوم الجنائِز".
- كانَ الحضورُ مزيجاً من كل الأطياف والفئات والجماعات والتوجُّهات الفكريّة والفقهيّة المختلفة، فهذا إن دلَّ على شيءٍ فلا يدلُّ إلا على حرصِ فقيدنا الشيخ في حياته على لمِّ شملِ المسلمين، وتوحيدِ جهودهم لردِّ صائِل أعدائهم، وقد صاغَ هذا الجهدَ بصوتٍ جهوريٍّ تسرَّب إلى القلوب قبل الآذان، وحُفَّت مجالسَه ودروسَه بتواضعٍ فريدٍ لا تجده اليوم في من حملوا عُشرَ علمِه واطّلاعِه وفقهه، فهذه دعوة لتلاميذه ومقلّديه ومحبِّيه أن يترفَّعوا عن التعصُّب الأعمى لآراء المذاهب كافّة، وأن ينبذوا العُجبَ والكبرَ، فالإسلام يسعُ الجميع قولاً وفعلاً ما داموا بكتابِ الله معتصمين وعلى صحيح سنَّة نبيِّه ﷺ مجتمعين.
- الكلماتُ الرقراقة التي تدفَّقت من أفئدةِ المحبِّين أثناء الدفن، والثناءُ الكبيرُ من الأقرانِ والتلاميذِ على علمِ الشيخِ الجليل هو الإرثُ الفعليُّ الذي تركه بعد موتِه، فقد رافقه الأهلُ والمالُ والعملُ إلى قبرِه، فعاد الأهلُ والمالُ وبقيَ عمله معه، فأيُّ عملٍ أفضلُ من علمٍ نافعٍ يبقى أنيسه في قبره ويلقى فيه فقيدنا ربَّه يوم تُبعثرُ القبور ويقومُ النّاس ليروا ما قدّموا لحياتهم. فهذه دعوة لأبنائِه في أن يحافظوا على إرثِ أبيهِم ويتابعوا مسيرته الطيّبة بين الناس ولا ينقطعوا عن الدعاء له، وهي كذلك دعوة لمحبِّيه وتلاميذه في نشرِ علمِه النافع فهذا مما يصل للميَّت في قبره بعد موته كما أخبرنا النبيُّ ﷺ.
- مواقفُ الموت خاصَّةً تجعلنا نقف ونتساءَل: "لماذا لا يعرفُ كثيرٌ من النَّاس قيمةَ من حولهم إلا بعد فقدانهم ؟" فكيف سيكون السؤال عندها إذًا عن قيمة فقدِ المشايخ والعلماء والمصلحين؟ فهذه دعوة للنَّاس جميعاً لإعادة إحياءِ مفهوم القامات عندهم، وصياغة مفاهيم التوقير والأدبِ، وضرورة تفعيل دور المرجعيّات الحقيقيّة أي العلماء، فهم ورثة الأنبياء حقًّا، وقيمتهم الفعليَّة تتجلّى في أن نحافظَ عليهم في حياتهم، ونتابع دروسَهم، ونتحرَّى محاضراتهم، ونتتبَّع فوائِدهم، ونوقرهم، ونستشيرهم، ونقدّمهم للصفوف الأولى في مجالسنا ومناسباتنا. فهم إن ذهبوا ذهبنا، وأصبحنا هشِّين تذرونا رياحُ الفتن، وتكوينا نارُ المصائِب.
كانت هذه وقفاتٌ في حضرة الموتِ، من مشهد القبر الذي نزل فيه العبدُ الصالحُ الشيخ محمود عبود هرموش، فاللهمَّ ارحمه وسائرَ علماء المسلمين، واعف عنه، واغفر له، ونوِّر قبره، وبرِّد مضجعه، واجعل أول أيَّامه في قبره أسعدَ أيَّامه، ولا تفتِنَّا بعده، ولا تحرمنا أجرَه
اغتمنوا وجودَ من تحبّون قبل فوات الأوان ...
وسوم: العدد 914