ولينصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُه
[مختصر من تفسير "في ظلال القرآن" للشهيد سيّد قطب]
قال الله تعالى: (الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الناس بعضهم ببعضٍ لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصُرَنّ اللهُ مَن ينصُرُه، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور). {سورة الحج: 39-40}.
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم. ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه، ظاهر حتماً على عدوه.. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح، والجهد والمشقة، والتضحية والآلام.. والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة، ولا تضحية ولا ألم، ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا، وأن لله الحجة البالغة. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة أن الله سبحانه لم يُرِد أن يكون حَمَلَة دعوته من الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!.
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء. ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة، والذخيرة التي يدخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال باللّه.
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة. فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة.. عندئذ تتحفز كل خلية، وتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، وتبذل آخر ما تنطوي عليه.
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، كي يكمل نضجها وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والنصر السريع الذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.
بل إن النصر السريع الهيّن الليّن يسهُل فقدانه وضياعه. أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة. وثانياً لأن الذين نالوه لم تُدرَّب قُواهم على الاحتفاظ به ولم تُشحذ طاقاتهم وتُحشد لكسبه وللدفاع عنه.
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف، والتقدم والتقهقر، ومن المشاعر المصاحبة لها من الأمل والألم، ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة.
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لُقْيةً تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
والنصر قد يبطئ على الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق. فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله.
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تَكِلُ الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها باللّه، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي أكرمها به الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حميةً والرجل يقاتل شجاعةً والرجل يقاتل ليُرى، فأيّها في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتلَ لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". متفق عليه.
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً. فلو غَلَبَه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!.
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستقبائه.
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه.
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر مَن ينصره.. فمَن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصره؟ إنهم هؤلاء:
(الذين إن مكناهم في الأرض) فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر: (أقاموا الصلاة) فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين.. (وآتوا الزكاة) فأدّوا حق المال، وانتصروا على شحّ النفس، وتطهّروا من الحرص، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". متفق عليه. (وأمروا بالمعروف) فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس.. (ونَهَوا عن المنكر) فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تُبقي على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه. هؤلاء هم الذين ينصرون الله إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة معتزين باللّه وحده. وهؤلاء هم الذين يَعِدُهم الله بالنصر على وجه التحقيق اليقين. والأمر بعد ذلك لله، يصرفه كيف يشاء، (ولله عاقبة الأمور). إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة من انتصار الحق والعدل والحرية، المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات والمطامع والشهوات. وهو نصر له سببه وله ثمنه وله تكاليفه وله شروطه، فلا يُعطى لأحد جزافاً أو محاباةً، ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.
وسوم: العدد 919