( وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا داعن فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )
من المعلوم أن إرادة الله عز وجل اقتضت أن يكون قريبا من خلقه وإن كان محتجبا عنهم لا تدركه أبصارهم ، وهو يدركها ، ولا تتصوره عقولهم لأنه ليس كمثله شيء لكنهم يدركون وجوده وقربه منهم بالأدلة التي قدمها لهم في الكتاب المسطور المقروء المنزل عليهم ، وهي بادية لهم في الكتاب المشهود ، وكفى بها أدلة على وجوده وقربه جل في علاه .
ويذكر سبحانه وتعالى قربه من خلقه في عدة مواطن من الذكر الحكيم ، ومنها ما جاء في سياق حديثه عز وجل عن عبادة الصيام ، ومقتضياتها حيث قال : (( وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) ، ففي قوله هذا سبحانه خطاب موجه إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه أنه إذا ما سأل العباد عنه جلت عظمته، فإنه قريب ، وآية قربه منهم أنه يجيب من دعاه . ولقد ورد في كتب التفسير أن قوله تعالى (( إذا سألك عبادي عنّي )) ،يدل على أن السؤال لم يرد عنهم ، ولكنه وارد عنهم لا محالة ليس فقط عند من عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عند كل العباد إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، واستدل المفسرون على هذا بصيغ قرآنية أخرى تدل على أن الأسئلة التي صدرت فالفعل ممن عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمنين وكفار ومنافقين جاءت بصيغة (( يسألونك )) .
ولا شك أن كل مؤمن بالله تعالى في كل زمان ، وفي كل مكان يخطر بباله لا محالة السؤال عن ربه عز وجل خصوصا في حال التوجه إليه بالدعاء وهو ينتظر الاستجابة أو في حال مناجاته ليتأكد ويطمئن من قربه منه ويكون المؤشر على ذلك هو الاستجابة له . ولما كانت صيغة الآية الكريمة تفيد توقع سؤال العباد المؤمنين عن ربهم في هذه الحال تحديدا ، فإن الجواب عن سؤالهم تولّى سبحانه وتعالى الإجابة عنه مباشرة بقوله : (( فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )) ، وقد جاء في كتب التفسير أنه جل جلاله لم يجعل بينه وبين عباده المؤمنين نبيه الكريم واسطة في الجواب عن سؤالهم عنه بحيث أنه لم يأمره كما هو الشأن في مواطن من الذكر الحكيم بعبارة (( قل )) ، وإنما جاء الجواب مباشرة منه تقدس اسمه . والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنه أكد قربه منهم بحرف توكيد ، وأقنعهم بدليل على هذا القرب، وهو استجابة الداعي إذا دعاه علما بأن الاستجابة لا تكون إلا عن قرب ومن قريب ممن دعا . ولا شك أن الذي يحول بين العباد وبين قلوبهم ، وهو يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم هو أقرب إليهم من غيره، ومن كل شيء يظنونه قريبا منهم .
ولقد ورد في كتب التفسير أن استجابة الله عز وجل دعوة من يدعوه إنما هو تفضّل منه ، وأنه لا تلزمه سبحانه وتعالى الاستجابة بالضرورة ، وليس ذلك شرطا ،لأن الشرط في الآية الكريمة يتعلق بربط السؤال بالجواب ، ولا يرتبط الدعاء بالاستجابة، ذلك أنه تعالى لم يقل : إن دعوني أجبتهم .
ومعلوم أن قوله تعالى بعد ذلك : (( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) فيه ما يجعل العباد يطمعون في استجابة دعائهم إذا ما استجابوا له سبحانه وتعالى، ولزموا الإيمان به . أما الاستجابة له فهي التزام طاعته فيما أمر ونهى ، وهو ما يقتضيه الإيمان ، لهذا تلا قوله تعالى : (( فليستجيبوا لي )) قوله : (( وليؤمنوا بي )) ، وعند التأمل في القولين معا نجد كل منهما يحيل على الآخر ذلك أن الاستجابة لله تعالى تقتضي الإيمان به ، كما أن الإيمان به يقتضي الاستجابة له ، فهما أمران متلازمان يتحققان بالقلب وبالجوارح معا أقوالا وأفعالا.
والاستجابة له سبحانه وتعالى والإيمان به يترتب عنهما الرشد لقوله تعالى : (( لعلهم يرشدون )) ، وهو إصابة الحق ، وفي إصابته خير للعباد ، وهو ما يؤكده قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم )) ، وهي الحياة الطيبة التي وعد بها سبحانه تعالى عباده المؤمنين في قوله عز من قائل : (( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) ، والحياة الطيبة حياتان . الأولى في الدنيا حين يكون المؤمن مستجيبا لربه فيما أمره به ، وفيما نهاه عنه ، وهو يجد طيبها في راحة قلبية تلازمه ، وإن واجهته مشاق ومتاعب فهو لا يبالي بها مع ملازمة تلك الراحة له ، وهو يرتاح لمطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه ومركبه ...الحلال ، ويتنعم بذلك في الوقت الذي يلازم صاحب المطعم والمشرب والملبس والمسكن والمركب... الحرام الشعور المنغص لحياته بالرغم مما هو فيه من سعة رزق من حرام . وأما الحياة الطيبة الثانية فهي حياة الخلد في الآخرة ، وفيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر، وأنعم بها من حياة طيبة ليس بعد طيبها طيب .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بقرب الله تعالى منهم إذا سألوا عنه ، فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، خصوصا وأن الحديث الدائر بين الناس في هذه الأيام ، ونحن في فترة انحباس المطر عن تأخر استجابة الله عز وجل دعاءنا ونحن نستسقيه ؟ والجواب عن هذا السؤال هو كما ذكر أعلاه ، ذلك أن استجابته سبحانه وتعالى هي تفضّل منه ، ولا تلزمه ، ومع ذلك لا بد من استحضار أنه مما يجعله سبحانه وتعالى يتفضل بفضل الاستجابة هو استقامة العباد على صراطه المستقيم ، وهي استقامة تكون عبارة عن استجابة له سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأول هذه الاستقامة التوبة النصوح بشروطها من إقلاع وعدم عودة إلى الذنب المقلع عنه ، وندم صادق ، ورد للحقوق ، وأولها حق الله عز وجل بالاستقامة كما أمر ، فضلا عن حقوق العباد .
وحين يستجيب الجميع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، يستجيب الله عز وجل لهم ويغيثهم بغيثه وإن قنطوا . ولا يعقل أن ينتظر العباد استجابة الله دعاءهم، وهم لا يستجيبون له ، وعلى حالهم من تنكب صراطه المستقيم.
اللهم إنا نسألك بعد حمدك والثناء عليك كما ينبغي لجلالك من واسع وفيض رحمتك يا لطيف بعباده . اللهم إنا نستغفرك من كل ذنب يحجب عنا رحمتك وفضلك . اللهم ربنا وخالقنا لا تؤاخذنا بتقصير قصرناه في حقك، تباركت وتعاليت . اللهم أنت القائل وقولك الحق بأنك تنزل الغيث بعد أن يقنط الخلق ، فاعطف يا مولانا وعجّل لنا بسقيا مباركة تذهب عنا رجز الشيطان ، وانبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع ، وبارك لنا فيما رزقتنا . اللهم إنك إن تجد من تعذب وتحرم غيرنا من فضلك ، فإننا لا نجد من يرحمنا ويتفضل علينا سواك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 969