( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد )
من المعلوم أن ذكر المطر يتكرر في كتاب الله عز وجل في أكثر من موضع ، وغالبا ما يكون ذكره في معرض تعداد وامتنان نعمه سبحانه وتعالى على العباد ، وفي معرض إقامة الدليل على ألوهيته وربويبته أيضا إذ هو وحده سبحانه القادر على إنزال المطر ، ولا نزول له إلا بمشيئته، ويكون ذلك بمقادير في أزمنة وأمكنة معلومة يختارها هو جل في علاه.
ونذكر من آيات الذكر الحكيم التي ذكرت فيها نعمة المطر على سبيل الذكر لا الحصر قوله تعالى :
(( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)) ، ففي هذا النص القرآني يكشف الله عز وجل عن سر نعمة الماء الذي هي قوام حياة كل شيء كما يقول عز من قائل : (( وجعلنا من الماء كل شيء حي )) بما في ذلك الإنسان، وكل المخلوقات بما فيها تلك التي يعتبرها الإنسان جمادا لا حياة فيه كما هو الشأن بالنسبة للأرض حيث يقول سبحانه وتعالى : (( وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج )) ، فبعد همود الأرض، وهو مواتها تبعث فيها الحياة من جديد حين ينزل عليها ماء المطر، فتتحرك ، وتخصب ، وتعلو، وتنتفخ ، وتنبت النبات البهيج والمتهلل حسنا وجمالا.
وسر الماء النازل من السماء هو إرسال الله عز وجل أولا الرياح أو إطلاقها ، فتثير السحاب أوالغيم أي تهيّجه ثم بسطه في السماء وفق مشيئته سبحانه ثم جعله كسفا أو قطعا ، فيخرج منه المطر الذي يستفيد منه الخلق وفق إرادته سبحانه وتعالى ، وهو ما يجعلهم يستبشرون به وبما يترتب عن نزوله من طعام وشراب ،وهو بذلك قوام الحياة بالنسبة إليهم وبالنسبة لكل ما سخره الله تعالى لهم من أنعام وثمرات .
ويقول المولى جلت قدرته أيضا عن المطر :
(( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب )) ، ففي هذا النص القرآني أيضا ذكر لفعل الله تعالى الذي هو إنزال للماء ،وسلكه في الأرض ينابيع ثم إخراج الزرع به ، ثم جعله هذا الأخير حطاما ، فالأفعال كلها أفعاله سبحانه وتعالى، وهو ما فيه تذكير لأولي الألباب ، الذين لا يقف تفكيرهم عن حد النظر والتأمل في المطر في حد ذاته ، وفيما يترتب عنه بل يتعدى ذلك إلى استحضار فعل الله تعالى وقدرته التي هي وراء نزوله و حصول ما ينتج عنه .
ومما جاء في ذكر نعمة المطر أيضا قوله تعالى :
(( وهو الذي أرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرّفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا )) ، ففي هذا النص أيضا إشارة إلى إرساله سبحانه وتعالى الرياح، ونشرها ليعقب ذلك نزول الماء الطهور الذي لا تشوبه شائبة ، وبه تحصل حياة الأرض الموات ، ويسقى به الناس وأنعامهم ، وهو مصرف بينهم بالقدر الذي قدره الله تعالى لهم ، وفي ذلك تذكير لهم بأنه من إنعام الله عز وجل وحده عليهم ، ولكن أكثرهم يكفر ويجحد هذه النعمة العظمى إما بإنكار المنعم أو باستعمالها في معصيته . وبسبب هذا الكفران تتحول هذه النعمة إلى نقمة بطريقتين : الأولى كما جاءت الإشارة إليها في قوله تعالى :
(( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )) ، ففي هذا النص القرآني يذكّر المولى جل وعلا بعملية إنزال المطر من خلال إزجاء أو دفع السحاب ، وجمعه أو التأليف بينه ومراكمته ليخرج منه ودق أو مطر قد يكون في شكل برد يتكون كالجبال في السماء ، ويكون مصحوبا ببرق سناه يكاد يخطف الأبصار من شدة لمعانه ، فيصيب الله عز وجل به من يريد من عباده ، فيتلف محاصيلهم ، ويصرفه عمن يريد ، و في ذلك عبرة للذين يعتبرون من أولى الأبصار و الألباب.
أما الطريقة الثانية فهي حبس المطر عن الخلق ، الشيء الذي يترتب عنه جفاف وقحط كما جاء في قوله تعالى :
(( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى نعمة المطر ،وما ينتج عنها من خير ونماء ورخاء وحسنة مئونة ثم إشارة إلى زوالها ،علما بأن تمكين الله عز وجل الناس منها مشروط بالإيمان به وتقواهم ، كما أن حرمانهم منها سببه بسوء أفعالهم.
ومن رحمة الله عز وجل بالناس أنه بعد حبس المطر عنهم وهم يترقبون نزوله في أوانه فيتأخر عنهم إلى فإذا هم يائسون من نزوله ، وإذا هو سبحانه ينزله تكرما وتفضلا منه ليشعرهم برحمته بهم ، وليستيقنوا بأن نعمة المطر إنما هي من عنده، وأنه يهبها لهم متى شاء ، ويمنعها عنهم متى شاء مصداقا لقوله تعالى :
(( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ))، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الله عزل وجل يغيث الناس بنعمة المطر ، وينشر رحمته عليهم بعد يأسهم من نزوله ، وقد جاء التعبير عن إنزاله ونشر الرحمة بصيغة الحاضر المستمر إطماعا لهم في رحمته ، بينما جاء التعبير عن قنوطهم بصيغة المضي كما لاحظ ذلك بعض أهل التفسير. ومعلوم أن الناس في كل بقاع المعمور يترقبون نزول المطر في أوقات معلومة حسب اختلاف الفصول من جهة إلى أخرى على سطح هذا الكوكب ، فإذا ما مرت تلك الأوقات دبّ اليأس إلى نفوسهم ، وصار في حكم اليقين عندهم أنهم لن يمطروا إلا أن الله عز وجل القادر على كل شيء ينزل الغيث حينئذ ، ويكون غيثا جالبا للخير خلافا لما كان الناس يتوقعونه وقد قنطوا من نزوله بعد تأخره .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأن نعمة المطر من الله عز وجل ، وليس من غيره ، ولا هو من فعل الطبيعة كما يحلو للبعض قوله من الذين يجزمون أن في الأرض جهات تمطر لا محالة أبدا ، وفيها أخرى تجدب لا محالة أبدا ، ويخوضون كل خوض في مثل هذا الحديث عن مواقع تلك الجهات باعتبار ما يسميه الجغرافيون خطوط الطول والعرض دونما اعتبار للمنعم جل في علاه المتحكم في نعمة المطر كما بيّن سبحانه وتعالى ذلك في محكم التنزيل . ومما يفند مزاعم من يرجعون نزول المطر إلى الطبيعة أن الله عز وجل يؤخر نزوله عن الوقت الذي يترقبه الناس فيه حتى إذا ما دبّ اليأس إلى نفوسهم بسبب تأخره عن موعده أنزله ، ولو كان نزوله من الطبيعة كما يزعم الزاعمون ذلك لما نزل بعد فوات الأوان المعهود نزوله فيه ، وكفى بهذا دليلا لكل ذي لبّ وبصر أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولا بد أن نذّكر بما مر بنا في الجمعة الماضية، وهو وعد الله عز وجل الناجز بالإنعام على الناس بنعمة المطر ما استقاموا على الطريقة التي أمرهم بالاستقامة عليها . ومعلوم أنه مما يحرم الناس نعمة المطر انحرافهم عن تلك الطريقة وإعراضهم عن ذكر ربهم سبحانه وتعالى ، والثناء عليه وشكر نعمه . وإنه لمن جحود نعمه أن يستعينوا بها على معصيته .
اللهم إنك تعلم ما نزل بنا من تأخرغيثك، و تعلم ما نحن فيه من شدة ، ويأس ،وقنوط لضعف فينا أنت أعلم به ، وإنك سبحانك منزله بعد هذا القنوط وهو وعدك الناجز ، فاللهم عجل لنا به جودا منك ورحمة ، واجعله اللهم رغدا ، سخاء ،ورخاء يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين . اللهم لا يؤاخذنا بدنوبنا ، ولا بسفهنا ، وتداركنا اللهم بألطافك الخفية ، واهدي اللهم إلى الطريقة التي ترضيك استقامتنا عليها، واسقنا ماء غدقا جودا ومنة منك سبحانه لا إله إلا أنت إنا كنا ظالمين . اللهم إنك وليّنا ، وإنك الحميد المستحق للحمد، فاعطف يا مولانا يا رؤوف يا رحيم ، يا حنّان يا منّان ، يا ربنا ، ويا إلهانا ، ويا خالقنا . اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ، ولا تؤاخذ ربنا من استقاموا على صراطك بما فعل الناكبون عنه.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 968