( ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )
لمّا اقتضت إرادة الله عز وجل ـ وله سبحان ما يشاء وما يريد ـ أن يخضع بني آدم لدورة ابتلاء ثانية بعد الدورة الأولى التي خضع لها أبواهما في الجنة ففشلا بارتكابهما خطيئة الأكل من الشجرة الممنوعة ، ومن رحمته تداركهما بعفوه سبحانه وتعالى فمكنهما وذرتهما من فرصة ابتلاء ثانية على سطح كوكب الأرض في فترة زمنية معلومة محدودة هي الحياة الدنيا .
ومن مقتضيات ابتلائه سبحانه وتعالى لبني آدم في الحياة الدنيا توفير الظروف المناسبة لهم لاجتيازهذا الابتلاء تماما كما كانت الظروف مهيأة في الابتلاء الأول الذي كان في الجنة حيث مكّن آدم وزوجه عليهما السلام من كل النعم كما جاء في قوله تعالى : (( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )) .
وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى النعم التي أنعم بها الله عز وجل عليهما بعدما أخبرهما بأنهما في حالة ابتلاء، وهو ما دلّ عليه تحذيرهما من عدوهما إبليس اللعين ، ومن هذه النعم سعادتهما في الإقامة بالجنة ، و التمتع بطيباتها من طعام، وشراب ، والكساء، وراحة في ظلها الظليل . كل هذه النعم اقتضاها ابتلاء الله تعالى لهما وفيها إقامة الحجة عليهما لأنهما لو حرما شيئا منها خلال ابتلائهما لتذرعا بذلك على فشلهما في الابتلاء ، لهذا لما ارتكبا خطيئتهما بالأكل من الشجرة التي نهيا عن الاقتراب منها لوجود ما يغنيهما عنها ،اعترفا بها كما أخبر بذلك القرآن الكريم : (( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ونادهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين )) .
ومعلوم أن ابتلاء آدم وزوجه ثم ابتلاء ذريتهما من بعدهما في هذه الحياة الدنيا فوق سطح الأرض لا يختلف عن ابتلائهما الأول وهما في الجنة ، ذلك أن نعم الله عز وجل موفورة في الحالتين ، وكذلك الممنوع موجود أيضا حيث أوجد الله تعالى في الأرض منه ما يقابل وجود الشجرة الممنوعة في الجنة .
ومن رحمة الله تعالى أن النعم في الجنة لم يكن لها حد تماما كما أن النعم في الأرض لا حد لها فهي تعدّد ولا تعدّ كما قال الله عز وجل : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) ، وذلك مقابل محدودية الممنوع كما كانت الشجرة الممنوعة في الجنة واحدة مقابل ما لا يعد من النعم الأخرى ، وعليه فلا عذر لمن فشل في ابتلاء الدنيا مع كثرة النعم مقارنة مع قلة الممنوع فيها تماما كما لم يعذر آدم وزوجه عليهما السلام حين اقتربا من الشجرة الممنوعة من بين أشجار لا عد لها .
وإذا كان الله تعالى قد تجاوز عن آدم وحواء عليهما السلام خطيئتهما ، فإنه قد تعهد بالتجاوز عن ذريتهما الخطايا إن هي سلكت مسلكهما في الاعتراف بالخطيئة ، وعجّلت بالتوبة قبل نهاية فترة الابتلاء في الحياة الدنيا مصداقا لقوله تعالى : (( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما)) .
وإن الفرق بين ابتلاء الجنة الأول وابتلاء الأرض الثاني هو أن الأول انتهى بمغفرة ، وبفرصة ابتلاء ثانية ، أما الثاني فلا فرصة ابتلاء أخرى بعده ، وتكون نهايته إما خلود في الجنة بالنسبة لمن غفر لهم أو خلود في الجحيم لمن لم يغفر لهم .
وإذا كان الابتلاء الأول قد انتهى بعد خطيئة آدم وزوجه عليهما السلام بزوال نعمة الإقامة بالجنة ، حيث غيرها الله تعالى بالإقامة في الأرض ، كما غيّر راحة الجنة بتعب في الأرض من أجل الحصول على الطعام والشراب والكساء ... فإن الابتلاء الثاني قد تزول نعمه أيضا بسبب ارتكاب البشر خطايا مصداقا لقوله تعالى : (( ذلك بأن الله لم يك مغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )) ، وقد جاء قوله تعالى هذا بعد ذكر سنته الجارية في الأمم الماضية بتغيير ما كان ينعم به عليهم من نعم وذلك بسبب كفرهم بها مصداقا لقوله تعالى : (( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب )) . والذي لحق قوم فرعون ومن كان قبلهم من أخذ بذنوبهم ومن زوال ما أنعم الله تعالى عليهم لاحق لا محالة بكل من يكفرون به سبحانه وتعالى وبنعمه أو يشركون به إلى قيام الساعة.
ولا شك أن الناس في كل زمان يشهدون تغيير ما بهم من نعم جين يكفرون بها وبمنعمها عليهما جل وعلا ، وقد سجل التاريخ البشري ذلك مما يطول الحديث عنه ، لهذا نكتفي منه بما جاء في كتاب الله عز وجل من إشارات إلى ما أصاب كفار ومشركي قريش حين كفروا نعم ربهم ، وعلى رأسها نعمة النبوة والرسالة ، وما صاحبها من نعم لا تعد ولا تحصى .
ومعلوم أن التغيير ، وهو مشتق من الغير، يعني تحويل الشيء إلى غيره أو إلى ما يختلف عنه أو يكون نقيضه . وإذا ما غيرت النعم ،فإن نقيضها هي نقم تحل محلها مصداقا لقوله تعالى : (( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها )) ، وبطر المعيشة إنما هو الاستخفاف بنعم الله عز وجل وكفرها ، ويكون جزاء ذلك إما بالحرمان منها أو بهلاك يصيب المبطرين.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بتحذير الله عز وجل من زوال نعمه إذا ما كفرت وجحدت ، أو استعملت في معصيته، علما بأن نعمه تستوجب الشكر ، وشكرها لا يقتصر على شكر اللسان بل لا بد من استخدامها في طاعة المنعم بها جل وعلا ، وأشنع الخطايا هي ما يستعان على ارتكابها بنعم الله تعالى .
ومعلوم أن المؤمنين في هذا الزمان يشكون زوال الكثير من نعم الله تعالى عليهم ، وهم يقرون بأن ذلك من قلة شكرها إذ لا يتجاوز التعبير عن شكرهم حناجرهم في الوقت الذي يستعينون بها على معصية المنعم بها عليهم .
ولقد غيّر الله تعالى نعمة الدورة الطبيعية عندنا باختلالها ، فصرنا نتشوق إلى نعمة فصول السنة كما كانت من قبل خريفا، وشتاء، وربيعا، وصيفا لكل فصل خصائصه وهي تتعاقب ، ولا تتخلف عن مواعيدها في زمن مضى صرنا نسميه الزمن الجميل حسرة على تغيير أحواله من حسن إلى سيء ، وصرنا نتشوق إلى الغيث في فصله، فنحرم منه بسبب سوء فعالنا حتى قلت عندنا نعمة الماء حتى بدأت مخاوفنا من غوره وقد بدت بوادره حيث جفت أنهارنا ،وودياننا ، وعيوننا، وآبارنا ، وانحسر مخزون الفرشات الجوفية ، ومع ذلك لم ننتبه إلى ما جاء في كتاب ربنا سبحانه وتعالى من تحذير بخصوص تغيير نعمه وزوالها الذي يكون بسبب معاصينا وقد ظهر فينا من يجاهرون بها وصار ذلك أمرا مألوفا ، فها هم فساقنا يطالبون بحرية ممارسة عمل قوم لوط ، وممارسة فاحشة الزنا ، و المفسدون من سفهائنا يفسح لهم المجال لنشر الرذيلة، ويشجعون على ذلك ، بل تصرف لهم وعليهم الأموال ، وذلك مقابل التضييق على الذين ينكرون منكراتهم ، ومنعهم من القيام بهذه الفريضة الشرعية ، وهي مما يغيره الله تعالى من النعم أيضا ، وذلك حين يضيق الخناق على من يضطلعون بها ويمنعون من القيام بها .
وتكفي الإشارة إلى ما ذكرنا من نماذج المنكرات دليلا على أن ما نزل بنا من زوال النعم كمنع القطر عنا في أوانه ، وكغلاء المعيشة وشدة وعسر الأحوال ... وكل ذلك بما كسبت أيدينا ، ولن يرفع الله تعالى عنا ذلك إلا بالرجوع إلى صراطه المستقيم ، والتوبة إليه توبة نصوحا وهو القائل عز جل : (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) .
و لهذا علينا أن نعجل بالرجوع إلى ما ارتضاه لنا ربنا وهو دين الإسلام الذي لا يقبل منا غيره ، وأن نعجل بتوبة نصوح أفرادا وجماعات ، وأن نبادر بإنكار المنكرات ، ونتبرأ إلى الله تعالى منها ، وأن نسأله صادقين ألا يؤاخذنا بما يفعله السفهاء منا عسى أن يرحمنا ، فيغير ما حل بنا من نقم إلى نعم ، وهو واسع العطاء سبحانه وتعالى .
اللهم إنا نبرأ إليك ممن يجاهرون فينا بمعصيتك ، ونستغفرك إنك كنت غفارا ، ونعوذ بك من النقم ، ونستعطفك لتجود علينا بما حرمنا منه من نعم لم نحسن شكرها ، ولم نحسن استعمالها في مرضاتك . اللهم إنا نخاف عذابك ، ونرجو رحمتك ، فارحم ضعفنا ، واغفر ذنبنا ، واستر عيبنا ، فإنك إن تجد من تعذب غيرنا ، فإننا لا نجد من يرحمنا سواك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1003