( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )
من المعلوم أن الله تعالى منذ بدء الخليقة لطفه بعباده، فدلهم على الإيمان به عبر رسالاته إليهم التي أوكل بتبليغها رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين . والإيمان بالله تعالى ،هو خلاص الخلق من ذل العبودية لغيره ، وهو من التكريم الذي كرمهم به الله عز وجل ، وبه فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا .
ولقد تعهد الله تعالى بنصر كل من يدخل حظيرة الإيمان به على كل من يخرج منها عنادا واستكبارا. وقد قص علينا قصص النصر الذي نصر به أنبياْءه ورسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ومن تبعهم من المؤمنين على أعدائهم الكافرين الذين كانوا يعادونهم بسبب إيمانهم ، ويرغبون في إخراجهم من حظيرة ذلك الإيمان .
والنصر في اللسان العربي يدور حول معاني العون ،والنجدة ،والتأييد ،والتثبيت ، والغلبة، ونقيضه الهزيمة ويدور معناها حول انكسارالشوكة، والاندحار، والقهر، والخذلان.
والنصر والهزيمة ثنائية طرفاها نقيضان، ينفي الواحد منهما الآخر . والطبيعة البشربة مجبولة على حب النصر ، وكراهة الهزيمة ، وهو سلوك فطري يلازم البشر في كل أحوالهم اليومية أفرادا وجماعات حتى في أحوال اللعب واللهو حيث يشق على الخاسر في مباراة لكرة القدم على سبيل المثال أن يهزم ،فيرى أفراد من الفرق المنهزمة يذرفون الدمع مع أن هزيمتهم لا تعدو خسارة كأس أو لقب، لهذا يعمد منظمو الماريات الكروية في النهاية على جبر خواطر اللاعبين المنهزمين بميداليات أو كؤوس قيمتها دون قيمة ما يعطى المنتصرون ، وهكذا كل أحوال البشر مع النصر والهزيمة في كل المجالات .
وإذا ما تصفحنا ورود كلمة النصر في كتاب الله عز وجل، تصادفنا آيات بينات تبين مصدر هذا النصر، فهو من عند الله مصداقا لقوله عز من قائل : (( وما النصر إلا من عند الله ))، كما نجده سبحانه وتعالى يطمئن من ينصرهم من عباده المؤمنين، فيعدهم بالغلبة في قوله تعالى : (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) .
ولما كان وعده سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالنصر ،فقد كلفهم بالتماس النصر منه، والانتصار للإيمان به فقال سبحانه وتعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) ، وفي هذه الآية الكريمة ما يحث أهل الإيمان ـ وقد خاطبهم الله تعالى به كصفة راسخة فيهم ـ على الانتصار لإيمانهم الذي جعله سبحانه وتعالى بمنزلة الانتصار له مع أنه غني عن نصرة خلقه له ، وهو القاهر فوق عباده ، وهذا ما يؤكد أن نصر المؤمنين لله تعالى إنما هو انتصار للإيمان الذي ارتضاه لهم ، والذي فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية ، وبه تستقيم أمورهم وأحوالهم .
وكثير من الناس يقتصر فهمهم وتدبرهم للنصر المذكور في كتاب الله عز وجل على النصر الخاص بالنزال والقتال في ساحات الوغى ، باعتبار أسباب نزول آيات النصر مع أن العبرة بعموم ألفاظها، لا بخصوص أسباب نزولها ، وهي من رسالة الله تعالى العالمية والخاتمة للناس كافة إلى قيام الساعة، الشيء الذي يعني أن الله تعالى كتب النصر لعباده المؤمنين إلى قيامها متى ما نصروا دينهم، وانتصروا لإيمانهم به جل في علاه .
وعند التأمل في الآية السالفة الذكر وتدبرها، نجد أن كل مؤمن يمارس في حياته اليومية نصر الله تعالى، وهو في طاعته عبادات ومعاملات، والتي تعتبر كلها من مكونات الإيمان بالله تعالى . ولا يحقرن مؤمن ما يقوم به من سعي يومي وهو يعتبر في حقيقته نصرا لدين الله عز وجل،وقد لا يلقي إليه بالا ، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن الذين يسعون إلى بيوت الله عز وجل خمس مرات في اليوم فإنهم ينصرون الإسلام بالثبات على شعيرة الصلاة ، ومثل هذه الشعيرة باقي شعائر الإسلام . وكل من يتخلف أو يقصر في أداء هذه الشعائر من صلاة وزكاة وصيام وحج ، فهو لا يقوم بواجب نصر الإسلام كما أمر الله عز وجل . وما ينطبق على أداء العبادات، ينطبق أيضا على أداء المعاملات على الوجه المطلوب في كتاب الله عز وجل ،وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى إلقاء السلام على المؤمنين ، وحتى إماطة الأذى عن طريقهم ... وهلم جرا مما يحقره البعض وفيه نصر لدين الله عز وجل من وجه من الوجوه التي تخفى عليهم .
ومن نصر دين الله عز وجل، الدعوة إلى دينه بالمقال والحال معا ،علما بأن الدعوة بالمقال هي مما يضطلع به الدعاة على اختلاف مراكزهم من علماء، وخطباء، ومفكرين ... بينما الدعوة بالحال هي متيسرة لغيرهم من عامة المؤمنين ، ويكفيهم ذلك انتصارا لدين الله عز وجل .
وقد يحقر البعض كلاما فيه انتصار لدين الله عز وجل، يكون إما مخطوطا أو منطوقا ، وهو عند الله تعالى عظيما . ولا شك أن ما وصلنا من كتب السلف الصالح منذ البعثة النبوية إلى زماننا هذا، كله انتصار لدين الله تعالى الذي نصرأصحابه حين هيأ لهم ظروف تأليف ما ألفوه لنا ، ومنهم من تزامن تأليفه مع ظروف صعبة للغاية ، ومع ذلك أنجز الله تعالى وعده لهم، فنصرهم وقد ألفوا ما ألفوا وهم إما محاصرون أو سجناء تحت التعذيب ...
ومن نصر دين الله عز وجل بالمقال المكتوب أو المنطوق، الرد على أعداء دينه في كل زمان ،و في كل مكان إلى قيام الساعة ، وهو عبارة عن مجاهدتهم بالقرآن الكريم، وبسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دون هوادة .
ومن نصر دين الله عز وجل ،نصر من يتولى نصره ، وعدم خذلانه أو التخلي عنه، وهو يواجه من يروم النيل منه بشكل أو بآخر . وإنه لمن العار أن يتخلى دعاة علماء، وخطباء عن نصرة من ينصر دين الله ،والذي قد يكون واحدا منهم ، فيتفرجون عليه ، وهو يتعرض للمضايقة أوالعقاب ، ويبخلون عليه بمجرد عبارة عزاء أو مواساة إذا ما نكب أو ظلم، وهو يقوم بواجب نصرة دين الله عز وجل ، والأدهى من ذلك أن يتخلى عنه من لهم سلطة القرار ، فيميلون إلى جانب الظالمين لترجيح كفتهم ، وقد قيدهم التّرسيم الذي يرسّمونه ، وهم يخشون فقدانه إذا ما انتصروا للذين يظلمون من المنتصرين لدين الله عز وجل بالقلم أو باللسان ، وسيعلم الذين تخلفوا عن نصرهم أي منقلب سينقلبون إلا أن يقبل لهم الله عز وجل عذرا، وهو الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بواجب الانتصار لدين الله تعالى ، والانتصار، ولمن ينصرونه ببذل كل ما في الوسع والطاقة مع اليقين التام بأن ما وعد به الله عز وجل وعد ناجزا المنتصرين لدينه أمر واقع لا محالة.
اللهم إنا نسألك توفيقنا إلى نصرة دينك، واجعل لنا ذلك خالصا لوجهك الكريم، وانصرنا بنصرته نصرا تعز به دينك وعبادك المؤمنين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1035