( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا )

من المعلوم أن الله  عز وجل، العليم بأحوال الخلق ما أعلنوا وما أسروا، قد صنفهم إلى أصناف ثلاثة  في محكم التنزيل : مؤمنون ، وكفار ، ومنافقون ، ووصف كل صنف  منهم بأوصاف دالة عليه . ولمّا كان القرآن الكريم رسالة الله تعالى العالمية والخاتمة للعالمين إلى يوم الدين ، فإنه بإمكانهم في تعاملهم مع رسالته إليهم  بتدبر عرض أنفسهم على تلك الأوصاف التي وصف بها سبحانه وتعالى الأصناف الثلاثة لمعرفة قربهم من حظيرة طاعته  أو بعدهم عنها.

ومن أوصاف فئة المنافقين ، وهم الذين يضمرون الكفر ، ويظهرون الإيمان ، وهي كثيرة في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى : (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا )) ، ففي هذا النص القرآني بعض من أوصاف  فئة المنافقين من المشركين، ومن أهل الكتاب على حد سواء حسب ما جاء في  كتب التفسير بخصوص سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين ، ذلك أن أحد المنافقين من الأنصار، وقع بينه وبين منافق من اليهود خلاف ، فطلب أحدهما التحاكم إلى كاهن عوض التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل فيهما الله تعالى قرآنا فيه وصفان لهما ، وأول وصف هو اللجوء إلى الزعم الذي يعني إما الكلام المشوب بالكذب أوالكلام المشوب بالخطأ. وواضح أن الذي يزعم  الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل من قبله على نبي الله موسى عليه السلام، هو الخصم اليهودي، وهو بهذا الزعم منافق ، وآية نفاقه أنه يريد التحاكم إلى غير ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل على نبي الله موسى عليه السلام وذلك بالتوجه إلى كاهن، وقد أوجب الله تعالى الكفر بالكهنوت في التوراة والقرآن معا ،علما بأن التحاكم إليها إنما هو من ضلال الشيطان الرجيم الذي يجد ويجتهد في إبعاد الخلق عن شرع الله تعالى . وفضلا عن صفة الزعم الكاذب المنسوبة إلى أهل النفاق بإظهارهم الإيمان وإبطانهم الكفر ، فإن من صفاتهم أيضا  الإمعان في الصد عما أنزل الله تعالى مما بلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الرسالة العالمية الخاتمة حين يدعون إلى التزام ما جاء فيها من هدي: عقيدة، وشريعة مصداقا لقوله تعالى : (( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا )) ، والصد في اللسان العربي هو الإعراض، والهجران، والانصراف، والابتعاد ، وكل ذلك يدل على رفض الاحتكام إلى  ما أنزل الله تعالى ، وإلى ما قضى به رسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه جل في علاه ، وقد آتاه النبوءة والحكمة ، مصداقا لقوله تعالى : (( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة )) ، وقوله تعالى أيضا على لسان خليله إبراهيم عليه السلام وهو يدعوه مبشرا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  : (( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم )) ، وهو ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آتاه الله عز وجل الكتاب والحكمة ، وهي ما سنه للمسلمين  من أفعال، وأقوال، وتقريرات .

وإذا كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم، لا بخصوص أسباب نزوله باعتباره الرسالة العالمية الخاتمة الموجهة للعالمين إلى قيام الساعة يوم الدين ، فإن ما وصف به الله تعالى المنافقين من الزعم الكاذب ، ومن الصد عن هديه ،سيظل وصفا  منسحبا على  جميع المنافقين  في كل زمان ، وفي كل مكان .

 وعلى الناس جميعا إذا ما وجدوا في أنفسهم شيئا من هذين الوصفين: الزعم الكاذب ،والصد عما أنزل الله عز وجل من كتاب وحكمة  أن يستيقنوا أنهم قد لبسوا جبة النفاق ، وأن عليهم أن يتخلصوا منها ، ما دام باب التوبة مشرعا لا يسد ما لم يغرر الإنسان،  وذلك  خير وأزكى لهم  من الإصرار على  لبس تلك الجبة التي تصير من نار يوم القيامة في الدرك الأسفل من جهنم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تحذير المسلمين من صفتين مذمومتين كأشد ما يكون الذم من النفاق، وإن كانت كل صفاته مذمومة ، وكذا التحذير ممن رضوا بالاتصاف بهما من المنافقين الجدد الذي أرادوا إحياء النفاق من جديد في بلاد الإسلام من خلال الصد عن كتاب الله عز وجل، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واستباحة قدسيتهما بشكل صارخ، وذلك بافتراء الكذب عليهما ،وتكذيبهما  ، والتشكيك في مصداقيتهما ، والسخرية منهما ، وممن يتمسك بهما ،والتشويش على العوام وضعاف العقول والإيمان ، وعلى أشباه المثقفين ، وعلى المستلبين بالفكر العلماني الذين يعانون من حساسية مفرطة ضد الإسلام ، وهم على جهل صارخ بحقيقته .  

وإن المنافقين الجدد  في بلاد الإسلام  ليعلون في الظاهر الانتماء الصوري للإيمان والإسلام ، ولكنهم إذا خلوا إلى شياطينهم، كشفوا عما يخفون من نفاق  قد مردوا عليه . ومع ما يسجل عليهم من محاولات لإخفاء نفاقهم ، فإن ما يصدرعنهم  من  أفكار تعتبر استهدافا مكشوفا لدين الله عز وجل، ليميط اللثام عن نفاقهم ، ويكفي كدليل دامغ على نفاقهم أنهم يطالبون ببديل عن شرع الله تعالى،  ويزعمون أنه  موجود في العلمانية الغربية .

ولهذا يلزم المؤمنين في كل بلاد الإسلام  أن يحذروا من عدوى النفاق ، وقد جند أعداء الإسلام في الداخل والخارج كل طاقاتهم للصد عن دين الله  صدودا ، وما حال المنافقين الجدد في زماننا هذا إلا كحال من أخبر عنهم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد بقي قوله تعالى : (( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا )) قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ، وهو شاهد على آفة النفاق في كل زمان حتى تقوم الساعة ، ويقوم الناس لرب العالمين .

اللهم إنا نعوذ بك من النفاق ، ومن كل ما يوقع فيه من قول وعمل ، واجعل اللهم أعمالنا وأقوالنا خالية منه ، صادقة خالصة لوجهك الكريم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1034