( ومن الناس من يتّخذ من دون الله أندادا يحبّونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حبا لله )
من المعلوم أن الله عز جل لمّا اقتضت إرادته أن يحتجب عن خلقه، لتنزهه عن التجلي لهم عيانا ، فقد جعل ما خلق جل شأنه آيات وأدلة تدل عليه . ومن رحمته أنه لم يترك الخلق حيارى بخصوص قضيتهم الوجودية، بل فك لغزها من أول وهلة خلق فيها آدم وزوجه عليهما السلام . ولم ينقطع اتصاله بخلقه أبدا بل ظل يرسل إليهم من اصطفاهم من رسله الكرام، صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وجعلهم أدلاء عليه بآيات تلقوها منه . واستمر الأمر على هذه الحال، حتى ختم رسله، ورسالاته بخاتم الأنبياء، والمرسلين، صلى الله عليه وسلم ، وبرسالته الخاتمة للعالمين إلى قيام الساعة .
ومن المعلوم أن الإنسان حين فك الله تعالى ما كان يشغله من لغز أو أمر وجوده في هذه الحياة ، فقد وفر عليه عناء البحث لفك هذا اللغز ، كما وفر عليه الوقت الذي سيصرفه في حيرته ، وجعل له بذلك طمأنينة تستقر في قلبه ، وفتح له آفاق الأمل واسعة بعد الحياة الدنيا، التي هي حياة سعي، بحياة أخرى خصصها للجزاء حسب سعي الدنيا، إما بنعيم مقيم ،أو جحيم مقيم .
ولم يكن بوسع الخلق بعدما كشف الله تعالى لهم سر اللغز الوجودي المحير، سوى التعلق به تعلق محبة، لما أسبغ عليهم من نعم تُعدّد ، ولا تُحصى . ومعلوم أن الطبيعة البشرية، ترتبط عاطفيا بمن ترى منه الإنعام ،والفضل ، لهذا رغّب الله تعالى الخلق في محبته، بتعداد آلائه، وأفضاله، ونعمه عليهم . وكل ذي عقل سليم ، وفطرة سوية عندما يتأمل تلك النعم ، ويتدبرها، يزداد تعلقا ومحبة بخالقه ، وعلى قدر رجاحة العقل، يكون حسن التدبر ، وتكون شدة التعلق بالله تعالى .
ومن الانحراف عن الفطرة السوية ، وتعطيل ملكة العقل، أن ينصرف الخلق عن محبة خالقهم ، والتعلق به إلى محبة غيره من الأنداد ، والتعلق بهذا الغير، مع أنه لا يوجد لديهم ما يدل أو يقنع بوجود فضل لهؤلاء الأنداد عليهم ، ومع ذلك يذهب اعتقادهم المنحرف إلى إشراكهم مع الخالق تعالى عن ذلك علوا كبيرا في نعم، هو وحده المنعم بها عليهم .
ولقد بيّن الله تعالى أمر هؤلاء الذين يجعلون له أندادا في محكم التنزيل فقال : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كجب الله )) ، وفي هذه الآية الكريم إنكار منه سبحانه وتعالى لفعل هؤلاء ، أولا ، لأنهم يتخذون له سبحانه وتعالى أندادا ، وما ينبغي لهم ذلك، لأن هؤلاء الأنداد، لا يضرون، ولا ينفعون ، ولا يخلقون شيئا ، وهم يخلقون ، ولا يملكون موتا، ولا حياة ، ولا نشورا ، وثانيا لأنهم يحبونهم كما يجب أن يُحَبّ الله تعالى ، لأنه وحده المنعم ، ولا إنعام للأنداد، و لا شريك له في الإنعام.
وإذا كان المفسرون قد خاضوا في موضوع الأنداد، فقصرهم البعض على الأصنام ،والأوثان ، فإن كل مخلوق مهما كان، إن هو أشرك مع الخالق سبحانه وتعالى غيره من المخلوقات في إنعامه، فقد نزل تلك المخلوقات منزلة الندية لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . ولقد وقعت أمم كثيرة خلت في بائقة اتخاذ الأنداد لله تعالى ،وبأشكال مختلفة ، منها الإقرار بربوبية، وألوهية الله تعالى ،ولكن مع اتخاذ أنداد له، والزعم بأن هؤلاء الأنداد يقربونهم إليه زلفى ، وقد جعل بعضهم أولئك الأنداد أبناءه، تعالى علوا كبيرا عن ذلك ، ومنهم من اقتصرعلى اتخاذ الأنداد ،مع الإعراض عن الخالق جل في علاه ، إما بنفي وجوده ، أو بتعطيل فعله ، مقابل الاعتقاد بفعل غيره من الأنداد ممن لا فعل لهم أصلا ، ولا قدرة ، ولا إرادة . وكل انصراف عن نسبة القدرة أو الإنعام لغير الله تعالى، يوقع لا محالة في ادعاء الشركاء الأنداد له .
ومباشرة بعد ذكر الله تعالى أصحاب الاعتقاد بوجود أنداد له ، ذكر من ينفون عنه هذه الندية ممن سلمت فطرتهم ، ورجحت عقولهم ، فاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، وهم الذين يشتد حبهم لله تعالى بسبب يقينهم بأنه سبحانه متفرد بالربوبية المتجلية في آلاءه، ونعمه التي لا يشاركه فيها أحد ، ومتفرد بالألوهية المتجلية في أسمائه الحسنى ، وصفاته المثلى التي لا يشترك معه فيها أحد .
ولما كان الذين يتخذون أندادا لله تعالى، وهم أهل ضلال ، ويحبونهم كما يجب أن يكون الحب خالصا له سبحانه ، فإن من ينزهونه عن الندية ،وهم أهل هداية ، يشتد حبهم له . ولقد وقف بعض أهل التفسير عند صيغة التفضيل في قوله تعالى : (( والذين آمنوا أشد حبا لله )) ، فذهبوا إلى أن هذه الصيغة أبلغ من صيغة : " هم أحب لله "، لأن هذه الصيغة التفضيلية، يؤتى بها حين تكون المفاضلة بين ندين، يفضل أحدهما الآخر. ولمّا كان الله تعالى منزها عن الأنداد ، فإنه لا يستقيم عقلا أو منطقا أن يفاضل بينه وبين غيره ، لهذا جاء التعبير عن حب المؤمنين له بصيغة التفضيل " أشد حبا " لأن هؤلاء لا يحبون أصلا غيره ، لهذا، فهذه الصيغة تدل على أنه إذا كان غيرهم من الضالين يجمعون بين حب الله وحب الأنداد ، فإن أهل الهداية يجعلونه منفردا وحده بحبهم ، وهو حب كأشد ما يكون الحب الذي لا يمكن أن يوجد مثله بالنسبة لمن يتخذون له أندادا .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو حلول مناسبة عيد الأضحى المبارك، الذي هو فرصة تجديد المؤمنين تعبيرهم عن شدة حبهم لله تعالى وتعلق قلوبهم به دون سواه ممن أو مما تهواه الأنفس ، وإسوتهم في ذلك ،هو خليل الله إبراهيم عليه السلام ، الذي ابتلي البلاء العظيم حين أمر بذبح ولده إسماعيل ، وكان قد تعلق قلبه بحبه ابنه ، فأراد الله تعالى أن يصرفه عن شدة حبه ولده إلى إخلاصه الحب الشديد له سبحانه وتعالى ، ولما اختبر في حب لخالقه ،كان حبه له هو الأشد . وإننا معشر المؤمنين ، ونحن نحيي هذه الذكرى العظيم ، لنجدد العهد كلما حلت هذه المناسبة مع خالقنا سبحانه وتعالى ليكون حبنا له هو أشد حب على الإطلاق ، وهو الذي يصرفنا عن حب غيره، مهما كان لهذا الغير من حب في أنفسنا، أو أهلينا، وأولادنا ، أو متاع الدنيا الزائل من أموال،أو مساكن ، أو جاه، وسلطان، ،ومناصب تتعشقها النفوس ...
وإذا أردنا أن نحدد كيف تتجلى شدة محبة الله تعالى عند أهل الهداية ، فإننا نجد
الجواب في كتاب الله تعالى ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن الله عز وجل بيّن لنا تلك الكيفية في قوله عز من قائل : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) ، حيث جعل شدة محبته، رهينة باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي هو قدوة المؤمنين في شدة المحبة لله تعالى التي تجلت في خلقه العظيم ، وهو خلق أخبرتنا به أمنا عائشة رضي الله عنها في جوابها عمن سأل عن خلقه عليه الصلاة والسلام ،فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وهذا يعني أن التماس شدة محبة الله عز وجل إنما تطلب في كتاب الله عز وجل بفهم وتطبيق رسوله صلى الله عليه وسلم الذي تخلّق بخلقه ، بعيدا عن كل التأويلات الباطلة والمتمحلة التي يخوض فيها بعض الخائضين من أهل الأهواء من الذين فسدت فطرتهم ، وضلت عقيدتهم ،وسفهوا أنفسهم. و لقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة محبة الله تعالى كما جاء ذكرها في كتابه جل وعلا بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "، ولقد مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لتميّز شدة حب الله تعالى ، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم عن حب غيرهما ممن تتعلق بهم القلوب ، وتعزهم النفوس ،فأشار إلى أفضليته عن حب الولد ، وهو حب يشمل البنين والبنات ، وعن حب الوالد ، ويشمل الأب والأم ، وعن حب الناس أجمعين ، وتحت حب هؤلاء ينضوي كل من تتعلق بهم القلوب سواء كانوا أزواجا ، أوأصدقاء، وخلان ، أو كانوا أهل فضل وإحسان ، أو كانوا أهل سلطة وجاه ، أو أهل شهرة في أفق من الآفاق أو مجال من المجالات...
ونختم حديثنا هذا بذكر باختبار اختبر به حب الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث مر به ذات يوم ، وقد أخذ بيده عليه الصلاة والسلام، فقال له عمر : " يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال له عمر : فإن الآن ، والله لأنت أحب إليّ من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر " .
وفي هذا الحديث الشريف، تنبيه لكل مؤمن ومؤمنة لما قد يقعان فيه من تفضيل حب النفس على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من شدة حب الله تعالى ، لهذا على كل من لم يجتز هذا الاختبار في حياته الذي اجتازه عمر الفاروق رضي الله عنه أن يمر به أيضا لتصحيح ما يدعيه من شدة حب لله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا مرت بنا مناسبة عيد الأضحى المبارك دون أن نؤكد اجتيازنا بنجاح هذا الامتحان ، فليس لنا في حلول هذه المناسبة سوى لحوم ذبائح نصيبها ، وهي تشهد على تفضيل حب أنفسنا على من تجب شدة محبتهما، وهما رب العزة جل جلاله ، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .
اللهم أرزقنا شدة محبتك ، وشدة محبة رسولك صلى الله عليه وسلم ، وألهما حسن اتباعه كي نبلغ محبتك ، واجعلنا نحب كل من يحبكما ، واجعل كل حبنا فيكما ، ومن أجلكما .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1039