( لقد رأى من آيات ربه الكبرى )
اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون آياته أدلة وبراهين على ألوهيته وربوبيته ، تقنع خلقه بأنه هو وحده الخالق لا خالق سواه ، ولا شريك له . ومعلوم أنه تعالى قد أرسل رسله صلواته وسلامه عليهم تترا عبر تاريخ البشرية برسالاته إلى الخلق ، وكلها تحيل على آياته الماثلة والمدركة عيانا في عالم الشهادة . وكانت رسالاته دائما متطابقة مع ما في هذا العالم من آيات دالة كلها على عظمة وقدرة الخالق جل في علاه . ويكفي أن يتمعن الخلق في تلك الآيات المبثوثة في كل آفاق الحياة الدنيا ليحصل لهم اليقين بأن خالقهم إنما هو الله جل في علاه . ولقد زود الله تعالى الخلق بملكة إدراك تلك الآيات تكريما ، وتفضيلا لهم على كثير ممن خلق . ويوجد في الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن كل الآفاق المختلفة في الأرض وفي السماء توجد فيها آيات الله عز وجل مصداقا لقوله عز من قائل : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة فصلت إشارة من الله عز وجل إلى موضع آياته أوأدلته، والتي جعلها ماثلة للعيان غير خافية في كل الآفاق على اختلاقها ، وذلك من أجل غاية هي إدراك الخلق للحق الذي ينازعه الباطل ، فضلا عن مثولها في مختلف أنفس وأحوال الخلق المختلفة ، وهي أحوال تعتبر بدورها من ضمن الآفاق الواسعة في الكون . ومعلوم أن الأفق هو أقصى ما تدركه الأبصار في الأحياز ، وهو حيث تلتقي السماء بالأرض في عين الناظر ، وتكون رؤيته شاملة، وواضحة ،ومستوعبة لكل مرئيات ذلك الأفق المستهدف بالنظر.
ولقد تحدث أهل العلم عما سموه سفرا الله المشهود الذي يتضمن كل ما في الآفاق، وهو موازيا لسفره المخطوط المقروء ، وهو رسالة الله عز وجل الخاتمة الموجهة إلى الناس أجمعين إلى موعد حلول يوم الدين . والسفران معا متناغمان، حيث يحيل المقروء على المشهود ، فيكون هذا الأخير دليلا على صدق الأول .
ومعلوم أن الله عز وجل لم يأمر الخلق بقراءة ما تيسر من كتابه الكريم ليل نهار ، وما جعل الصلوات الخمس التي هي صلات بينه وبين خلقه تتم بتلاوة ما تيسر منه إلا ليظل رابطا بينهم وبين مختلف الآفاق في كل وقت وحين ، لا يغيب عنهم أبدا . ومع مداومتهم لهذا الارتباط ، يتقوى استيعابهم لآيات الله عز وجل الدالة على الحقيقة الوجودية التي هي وجوده الحق، الذي ترتب عنه وجودهم ، ووجود كل ما يحيط بهم من آفاق ، ومن ثم تحصل لهم قناعة راسخة بهذه الحقيقة التي لا يلابسها ريب أو شك أو تردد . ولقد جعل الله تعالى وسيلة حسن الربط بين سفره المكتوب ، وسفره المشهود هي تدبر المكتوب ، وتأمل المشهود، مصداقا لقوله عز من قائل : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) ، ففي هذه الآية الكريمة ما يدل على أن القلوب، وهي مواطن الإدراك عند الناس، لا تنفك عنها أقفالها إلا بمفتاح التدبر والتأمل الذي يجعلها منفتحة على حسن الربط بين السفرين مكتوبا ومشهودا .
ومع أن حسن الربط بين السفرين بحسن التدبر يكفي من أجل تحقق القناعة الراسخة بصدق ما أنزل الله عز وجل ، فإنه سبحانه ، قد ساق للخلق آيات أخر من أجل ترسيخ تلك القناعة ، وذلك بواسطة آيات دالة على خرقه سننه ، التي قد يعتقد الخلق باستحالة خرقها . وهذا الخرق هو ما يسمى بالمعجزات ، وفي هذه اللفظة ما يدل على حيرة الخلق بخصوص هذا الخرق الذي يحصل فيما يعتادون على ثباته . وهنا لا بد من وقفة مع إشارة من الله عز وجل ضمنها رسالته الخاتمة من شأنها أن تضع حدا لحيرة الخلق أمام خرق المعتاد من سنن الله تعالى التي اعتادوا عليها ثابتة ، وظنوا استحالة خرقها ، ويتعلق الأمر برده سبحانه وتعالى على من احتار في إحياء العظام وهي رميم بقوله جل وعلا : (( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحيها الذي خلق أول مرة وهو بكل خلق عليم )) ، ففي هذه الآية الكريمة تنبيه للإنسان إلى أنه يجب أن يذهب تفكيره في الخلق الأول قبل الحيرة في إعادته من جديد ، ذلك أن من يخلق أول مرة ،لا يمكن أن يعجز عن ذلك مرة ثانية ، وهو أمر لا يمكن أن يرفضه عقل سليم . ولو شئنا لضربنا مثلا على ذلك مما يصنعه بعض الناس بأيديهم من مصنوعات ، لا يخامر الناس شك في أنهم قادرون على إعادة صنعها مرة أخرى، بل ومرات عديدة إذا ما فككت ، ولله المثل الأعلى في الخلق وإعادته مصداقا لقوله تعالى : (( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )).
وبموجب هذه الآية الكريمة ، لا مجال للحيرة أو الشك أو التردد في أمر خرق الله تعالى لسننه ، وهو أهون عليه .
ولقد قص علينا القرآن الكريم معجزات أيد بها الله تعالى بعض رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين لما كان الناس يكذبونهم أو يشكون فيما يوحي به إليهم الله عز وجل ، ونذكر من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر تعطيل طبيعة الإحراق في النار حيث لم تحرق خليله سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وكذا جمعه جل شأنه بين أجزاء الطيرالأربعة التي ذبحها الخليل، وفرقها على جبال، ثم ناداها، فجاءته حية كما كانت من قبل ، وكفى بهذين المثالين .
ولقد خص الله تعالى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالعديد من المعجزات، أهمها معجزة الرسالة الخاتمة التي جعلها الله تعالى مستمرة في الناس إلى قيام الساعة، بينما انتهى أمرغيرها من المعجزات . وهذه الرسالة تضمنت أخبار تلك المعجزات سواء التي أيد بها الله تعالى بعض رسله الكرام صلواته وسلامه عليه أجمعين أو تلك التي خص بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونخص بالذكر منها معجزة الإسراء والمعراج ، وهي رحلة أرضية من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وسماوية من هذا الأخير إلى سدرة المنتهى فوق السبع الطباق.
ولقد استغرب الناس زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا زال كثير منهم إلى يومنا هذا يستغربون كيف يمكن أن يسافر بشر من مكة إلى بيت المقدس وهي مسيرة شهر في ليلة واحدة ، وذلك في زمن لم تكن تتوفر فيه من الوسائل ما هو متوفر اليوم لطي المسافات البعيدة . و لقد ازداد استغرابهم الناس ولا زال مستمرا إلى يومنا هذا عند سماعهم بالرحلة النبوية السماوية إلى سدرة المنتهى . ولو أنهم خلصوا قلوبهم من أقفالها ، وتدبروا سفر الله عز وجل المسطور لزال استغرابهم ، وانتهى شكهم بيقين راسخ، لأن فيه ما يثبت أن واضع السنن قادر على خرقها ، ويكفي أن نشير إلى مثل الصناع من البشر الذين لا يعجزهم أن يفككوا ما صنعوه أول مرة، ثم يعيدونه تارة أخرى ، فإذا عقلت القلوب هذا المثال، لن يخامرها شك في معجزة الإسراء أو المعراج .
ولن نقف عند معجزة الإسراء مع أنها تضمنت خوارق متعددة مثل الدابة التي ركبها الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته الأرضية والسماوية ، ومثل إحياء جميع المرسلين له ، وإمامته لهم في صلاة جامعة ببيت المقدس ، وسنقف تحديدا عند معجزة المعراج ، انطلاقا من قوله تعالى : (( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ))، ففي هذه الآية الكريمة من سورة النجم، إشارة إلى الغرض الذي من أجله أعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رؤيته آيات الله عز وجل الكبرى ،وتبليغها للناس، وهي مما غيبه الله تعالى عن الخلق ، وكشفه له صلى الله عليه وسلم تشريفا له . ولن نخوض في طبيعة هذه الآيات الكبرى بما في ذلك الأجواء القدسية والنورانية عند سدرة المنتهى ، و هي أقصى ما بلغه عليه الصلاة والسلام من تقدير وتشريف لم يعطه بشر من قبله ،أو ملك كريم ، وإنما نشير إلى ما أخبر به عليه الصلاة والسلام عن عالم الآخرة الذي وردت عنه آيات كثيرة في الرسالة الخاتمة . ومن تلك الأخبار أخبار الجنة والنار ، وهما مآل البشرية بعد نهاية الحياة الدنيا . وهكذا لم يكتف الله عز وجل بذكر الآيات في سفره المكتوب التي تشهد عليها آياته في سفره المشهود ،بل كشف لهم ما غيبه من أمر الآخرة، وكشفه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي بلغه بدوره للبشرية جمعاء . وقد جعل الله تعالى هذا البلاغ حجة على كل من بلغته الرسالة الخاتمة إلى قيام الساعة ، إلى جانب كونها حجة في جد ذاتها أيضا لما فيها من آيات .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول مناسبة معجزة الإسراء والمعراج وهي مناسبة يجب تذكير المؤمنين بها من أجل أن يجعلوها فرصة لمراجعة الذوات ، وإدانة النفوس ،والعمل لما بعد الموت ، ذلك أن الله عز وجل لم يذكرها إلا لهذا الغرض. وحين تدعو هذه المناسبة إلى استحضارالدرس والعبرة مما حدث فيها، يجب بالضرورة الوقوف عند دلالة الآيات الكبرى التي أخبر بها الله عز وجل، والتي تدور حول الجزاء الأخروي المتحكم في السعي الدنيوي، ذلك أن الرغبة في الفوز بالجنة ، والنجاة من النار، وهما نوعان من الجزاء، تقتضي أن يحرص الراغب في حسن الجزاء، والخائف من سوء المصير أن يكون سعيه على قدرما عنده من شعور بالرغبة، وشعور
بالخوف ، وهما شعوران يؤثران معا في طبيعة السعي البشري ائتمارا وانتهاء . ويجدر بالمؤمنين أن يجعلوا من مناسبة يوم معجزة الإسراء والمعراج، وهو يوم من أيام الله عز وجل فرصة لاستعراض سعيهم على ضوء ما في الرسالة الخاتمة، وما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جاء في أقواله، وأفعاله، وتقريراته ، فإن استقام سعيهم زفق ما ينصان عليه، حمد الله عز وجل ، وأثنى عليه، وواصل سعيه بنفس الوتيرة ، وإلا عليه مراجعة نفسه مراجعة يتدارك بها ما فاته من سعي قد يقربه من الجنة ، ويبعده من النار . وليست الاستفادة من مناسبة الإسراء والمعراج مجرد اجترار لأحداثها دون إدراك واستيعاب ما قصده الله عز وجل من تضمينها رسالته الخاتمة التي جعلها تتلى إلى يوم القيامة.
ومما لا يجب ألا يغيب عن أذهان المؤمنين في المعمور أن معجزة الإسراء والمعراج مرتبطة بأرض معينة مقدسة ،باركها الله تعالى ، لأنها منها كانت محطة انتطلاق رحلة النبي صلى الله عليه وسلم العلوية إلى سدرة المنتهى، حيث كشفت له الحجب عما غيبه الله تعالى ، وهو ينتظر البشرية بعد الرحيل عن الدنيا إلى الآخرة .وهذه الأرض اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون أرض الرسالة الخاتمة، وأرض الأمة المسلمة ، ولا يمكن أن تنازعها فيها أمم أخرى ،خلاف ما هو عليه الأمر اليوم حيث ينازع اليهود المسلمين فيها ، وهم يريدون هدم المسجد الأقصى المبارك بذريعة إعادة بناء ما يسمى بهيكل سليمان عليه السلام ، علما بأن المسجد الأقصى سابق الوجود تاريخيا على هذا الهيكل المزعوم والذي لا ينبغي أن يكون لغير سليمان عليه السلام كما سأل ربه . وما كان نبي الله سليمان عليه السلام ليهدم هذا المسجد أو ليأمر بهدمه ، وقد أمر الله تعالى ببنائه ، وشهدت الرسالة الخاتمة بأنه قد بارك حوله . ومما يجب أن تعيه الأمة المسلمة أن الصراع الدائر اليوم في أرض فلسطين، إنما هو دفاع أهل هذه الأرض عن الحيز المكاني المقدس الذي كان مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه كان معراجه بما لهذين الحدثين من قدسية ، ومن بالغ الأهمية في حياة المسلمين . ولا شك أن استهداف هذا الحيز، إنما هو استهداف مباشر للإسلام ، لهذا يتعين على الأمة المسلمة أن تتعامل مع أرض فلسطين على أساس أنها من صميم ما تعبدها به الله تعالى ، وقد أمر رسوله بتوجيه منه سبحانه وتعالى أن تشد الرحال إلى المسجد الأقصى، كما تشد إلى المسجد الحرام ،و إلى مسجده عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة . وإن اليهود إذ يكيدون لهدم المسجد الأقصى، إنما يريدون إبطال شد الأمة الإسلامية الرحال إليه ، وأكثر من ذلك يريدون طمس معالم معجزة الإسراء والمعراج وما لها من دلالات دينية ، وما ارتبط بهما من آيات الله الكبرى التي أراها لرسوله صلى الله عليه وسلم، والذي بلغها لنا من أجل أن يستقيم سعينا في حياتنا الدنيا .
اللهم إنا نسألك أن تحفظ المسجد الأقصى من كيد اليهود كما حفظت بيتك الحرام من كيد أصحاب الفيل ، وسلط اللهم على اليهود ما سلطه على أصحاب الفيل حجارة من سجيل ، ليكونوا عبرة للعالمين في زمن ساد فيها التكذيب والتشكيك في معجزاتك وفي معاقبة من طغى من خلقك إنك على كل شيء قدير ،وبالاستجابة جدير .
اللهم انصر بنصرك العزيز من انتدبتهم للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ، وانصر اللهم من نصرهم ، واخذل من خذلهم ، واعل راية دينك ، ونكس رايات كل من أراد بدينك سوء . آمين آمين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1069