( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد جعل لعباده المؤمنين عبرا وعظات فما قص عليهم من أخبار تتعلق بأمم سابقة ، وجعلها نماذج تتكرر في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ولكن بصيغ مختلفة ، وفي أحوال وظروف مختلفة ، لكنها لا تخرج عن إطار تلك ما يحكم تلك النماذج الموضوعة أصلا لأجل الاعتبار والاتعاظ ، وهي محكومة بنفس الضوابط ، وذلك لأن الرسالة الخاتمة تنسحب أحكامها على كل العصور وفي كل الأمصار إلى نهاية العالم لأنها رسالة عالمية.
ومما قصه الله تعالى في محكم تنزيله قصة بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام حين استضعفوا في فترة ما يسمونه بعصر القضاة من طرف أعداء لهم ، فرأوا أن سبب استضعافهم هو وجود ملوك عند أعدائهم ، ولا ملوك لهم ، ولهذا طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا يجتمعون حوله ويجمع صفهم لقتال أعدائهم ، وقد حذرهم نبيهم من تراجعهم عن هذا القتال إذا ما كتبه الله تعالى عليهم، لكنهم أصروا عليه ، وقد حصل ما حذرهم منه نبيهم حيث أحجم أكثرهم عن القتال إلا فئة قليلة صابرة محتسبة . وبيان قصة هؤلاء جاء في قول الله تعالى :
(( ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين )) ، هذه الآية الكريمة من سورة البقرة وإن كانت متعلقة بخبر الملإ من بني إسرائيل ، فإنها تعالج حالة قد تتكرر في عصور و في أمصارإلى قيام الساعة ، وذلك حين تعاني فئة مؤمنة من الاضطهاد وتخرج من ديارها ، وتفصل عن أبنائها قهرا بسبب استبداد وعتو أعداء دينها . ولقد ورد في كتب التفسير أنا الغرض من ذكر هذه القصة المتعلقة بالملإ من بني إسرائيل، هو حث المؤمنين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال كفار قريش الذين أخرجوهم من ديارهم ظلما وعدوانا بسبب تشبثهم الإيمان بربهم عز وجل . وليست العبرة بخصوص سبب نزول هذه الآية التي تسرد قصة بني إسرائيل مع نبيهم ، بل العبرة بعموم لفظها ، وبالقصد من سردها لأن أوجه الشبه أو القاسم المشترك بين ذلك الملإ الإسرائيلي ، وبين أولئك المؤمنين في مكة أنهم عانوا جميعا نفس الاضطهاد ونفس الظلم . ولن يتوقف اضطهاد وظلم المؤمنين من طرف أعداء دينهم إلى قيام الساعة ، وهذا يعني أن قصة الملإ الإسرائيلي ستتكرر حتما ، وقد تكررت زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما تكررت في أزمنة متعددة بعده ، وهي حاصلة اليوم في زماننا هذا بأرض فلسطين ، وستحصل غدا في غيرها إلى أن تنتهي فترة ابتلاء واختبار البشرية في هذه الحياة الدنيا التي جعل لها الله تعالى نهاية معلومة ثم تنتقل بعدها البشرية إلى حياة أخرى قد جعلها سبحانه حياة جزاء بعد ابتلاء الدنيا .
مناسبة حديث هذه الجمعة فرضه الظرف الذي يمر به المؤمنون في أرض الإسراء والمعراج ، وقد طردوا من أرضهم التي سلبت منهم قهرا كما يشهد بذلك التاريخ الحديث، حيث مكن الاحتلال البريطاني الصليبي البغيض لشرذمة من الصهاينة في أرض فلسطين ، فطرد منها أهلها فيما يعرف بالنكبة قبل عقود خلت ، ولا زال الكثير منهم يعيشون في الشتات ، ومن بقي منهم فيها يسومهم الصهاينة سوء العذاب تقتيلا ، وتهجيرا ، ومصادرة وتدميرا لمساكنهم وحقولهم ، و كل ممتلكاتهم ومقدراتهم ...
والدافع إلى تحرير هذا الحديث، هو التركيز على شريحة من المؤمنين أو لنقل من المحسوبين على الإيمان في كل بلاد الإسلام الذين ينكرون على الفئة المؤمنة المرابطة في قطاع غزة خوضها قتالا ضد الصهاينة المعتدين الذين حاصروهم مدة طويلة ، وسدوا كل المنافذ المفضية إليهم ، الشيء الذي حملهم على الانتفاض ، والتحرك لفك هذا الحصار الجائر عنهم عن طريق اقتحام ما يسمى بغلاف غزة ، وهو أرض محتلة أقام فيها الصهاينة مستوطنات أسكنوا فيها يهودا مهجرين من شتى أقطار العالم حيث كانوا يعيشون لفترات تاريخية طويلة .
و لقد كان ذلك الاقتحام الذي سمي طوفان الأقصى قتالا من أجل فك العزلة عن القطاع ، ومن أجل صد الصهاينة عن أطماعهم الخبيثة في بين المقدس ، وعلى رأسها استهداف المسجد الأقصى المبارك المهدد بالنسف والتدمير من أجل إقامة ما يسميه الصهاينة هيكل سليمان .
وإذا قارنا حال المرابطين في قطاع غزة اليوم مع ما جاء في قصة الملإ الإسرائيلي ، نجده يشبه الفئة المؤمنة القليلة التي خاضت الحرب مع الملك طالوت ضد الطاغية جالوت ، مقابل فئة من شريحة عريضة تحاول تثبيط عزيمة أولئك المرابطين ، وتصفهم بالتهور، علما بأنها كانت دائما تعبر عن رغبتها في استرجاع ما ضاع من بلاد الإسلام في أرض فلسطين، وما ضاع من مقدساتها ، ولسان حالها ومقالها أيضا ما حكاه الله تعالى على لسان الملإ الإسرائيلي المضطهد من قبل الملك الطاغية جالوت قبل أن يكتب عليهم القتال . وليست الطغمة الصهيونية المستبدة اليوم في أرض فلسطين سوى نسخة مكررة للطغمة الجالوتية الظالمة ، وليست الفئة المثبطة اليوم للمرابطين في قطاع غزة، وفي عموم فلسطين سوى نسخة مكررة لتلك التي قالت (( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )) ، وهذه الفئة توجد في عموم بلاد الإسلام شرقا وغربا ، وهي تسوق هذا التثبيط عبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار . والمؤسف أن بعض من يحسبون على العلم والوعظ يساهمون في نشر هذا التثبيط بشكل أو بآخر إرضاء لحكامهم الذين خذلوا القضية الفلسطينية ، و يوجد في هؤلاء المحسوبين على العلم من سكتوا سكوت الشياطين الخرس ، وقد كانوا من قبل طوفان الأقصى يملأون الدنيا ضجيجا ، ويتباكون على أرض فلسطين ومقدساتها ، فما حان وقت الدفاع عنها سكتوا حيث لا يحسن السكوت ، وانصرفوا إلى أحاديث أخرى ، وتقاعسوا عن مجرد نصرة المجاهدين في فلسطين بألسنتهم وهم في منزلة القدوة . وليست الفئة التي ترابط اليوم تحت أنفاق غزة ، وتخرج للقتال كرا وفرا ، وتكبد الصهاينة الخسائر الفادحة في جندهم وعتادهم بأقل عتاد إذا قورن بترسانة العدو الصهيوني سوى نسخة مكررة لتلك التي الفئة التي قال الله تعالى عنها : (( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )) .
وعلوم أن الله تعالى قد بطوفان الأقصى كل من كان يتباكى على ضياع أرض فلسطين ، ويندد باحتلال الصهاينة لها ، فها قد جاءت ساعة نصرة المرابطين فوقها ، ولا ناصر ، ولا معين، بل أكثر من ذلك ينعق المثبطون بانتقادهم مع أنهم لا يقدمون لهم شيئا ، وإنما يخدمون بذلك العدو الصهيوني ، ويريدون ترجيح كفته في القتال ، وقد كذب هذا الموقف المتخاذل منهم ما كانوا يدعونه من أسف وحسرة على ضياع فلسطين ومقدساتها .
وفي الأخير ، نشير إلى أن الله تعالى ما ضمن ذكره الحكيم قصة الملإ الإسرائلي للتسلية بل للعبرة ، وللتدبر، فهل من معتبرين ، ومن متدبرين ، وقد استعرضنا جميعا هذه القصة في شهر الصيام ، و لكننا مررنا بها مرور اللئام ، وفينا من لا زال مصرا ومتشبثا بتثبيط المجاهدين المرابطين في القطاع وغيره بكل وقاحة ، وبلا خجل ، وكان الأجدر به أن يصمت على الأقل ، وقد كتب عليه أن يدعم قتالهم بكل ما يمكنه ، و بكل ما يستطيعه، ولكنه لم يفعل متعمدا ، وعن سبق إصرار ، وهو الذي يسأل الله تعالى دائما أن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وقد يذهب بعيدا، فيسأله ألا يحرمه الشهادة في سبيله تماما كما يطلب عرض الدنيا الزائل الذي يتشبث به أيما تشبث ، ولما حان وقت الابتلاء، صار يردد مقولة الملإ الإسرائيلي الذي قص الله تعالى خبره للعبرة ، وليس للتسلية ، أوتزجية الوقت .
اللهم إنا نبرأ إليك من كل من أساء إلى عبادك المؤمنين المرابطين في سبيلك بأرض الإسراء والمعراج، ومن كل من خذلهم ، وتخلف عن نصرتهم ، وعن إطعامهم وقد جاعوا تحت حصار رهيب ، ولم يحم صبيتهم، ونساءهم ، عجزتهم، ومرضاهم ، وجرحاهم من التقتيل، والتهجير، والتنكيل بكل أشكاله وأساليبه الوحشية والنازية .
اللهم انصرهم نصرك الموعود التي وعدت به الفئة المؤمنة القليلة الصابرة التي تواجه الفئة الكثيرة الكافرة الظالمة في كل زمان ، وفي كل مكان ، وجعلت ذلك قدرا ، وسنة ماضية في خلقك إلى يوم القيامة .
والحمد لله التي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1076