( إن هذا لهو البلاء المبين )
حديث الجمعة :
من المعلوم اعتمادا على رسالة الإسلام العالمية الخاتمة أن الله عز وجل جعل العلاقة بينه وبين خلقه من بني آدم محكومة بالبلاء بالابتلاء تمحيصا لخالص عبوديتهم ومحبتهم له . وأول من ابتلي نبي الله آدم عليه السلام ، وكان ابتلاؤه بشجرة نُهيَ عن الأكل منها ، لكنه بسبب آفة النسيان المتأصلة في الجنس البشري المجبول عليها ، أكل هو وزوجه منها، بعدما وسوس لهما الشيطان ، وزين لهما الأكل عن طريق إغرائهما بملك لا يبلى ، وبتحول من الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الملائكية،مع الخلود، كما سجل ذلك القرآن الكريم . و برحمة من الله عز وجل ،انتقل آدم عليه السلام من الجنة حيث ابتلي بالشجرة إلى الأرض ليواجه ابتلاءات أخرى ، هو وذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد وردت أخبار في كتاب الله عز وجل تدل على أنواع من الابتلاءات أو البلاء الذي ابتليت به رسل الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وكانت كلها من البلاء العظيم . ولقد ورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد الناس بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبا ، اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ، ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " .
وممن ابتلي البلاء العظيم من الأنبياء خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي أمره الله عز وجل بذبح ابنه مصداقا لقوله عز من قائل :
(( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشّرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيّا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين )).
إن في هذه الآيات الكريمة من سورة الصافات ما يستدعي الوقوف قصد استجلاء أمر البلاء المبين الذي ابتلي به خليل الله إبراهيم وابنه الغلام الحليم، إسماعيل عليهما السلام ، خلافا لما تقول اليهود بأنه إسحاق . ولقد سرد أهل العلم من الأدلة ما يؤكد أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام وليس إسحاق ، ومن ذلك أن أحد الأعراب خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " يا ابن الذبيحين " ، وهو يقصد إسماعيل عليه السلام ، وأباه عبد الله بن عبد المطلب الذي كان والده قد نذر نذرا بذبحه في الجاهلية ثم فداه بذبائح ، وقد ابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول هذا الأعرابي ، وأقره ،ولو كان مخالفا للحقيقة ما ابتسم له ، وما أقره .
وأول ما يستوقف في هذه الآيات الكريمة هو قوله تعالى ((البلاء العظيم )) ، والبلاء لغة يطلق على مجموعة أمور منها الاختبار، والامتحان ، كما يطلق على المصائب، والمتاعب، والكوارث ،والحروب ، والغم، والهم، والشدة ، والرزيئة... وهذه كلها جعلها الله تعالى اختبارا لتمحيص صدق وإخلاص عبودية ومحبة بني آدم له.
والبلاء العظيم الذي ابتلي به خليل الله إبراهيم عليه السلام ،هو أمر الله تعالى له بذبح ابنه إسماعيل الذي رزق به بعد أن كبر وشاخ مصداقا لقوله تعالى على لسان خليله : (( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء )) ، وكان الأمر الإلهي عبارة عن رؤيا رآها الخليل عليه السلام ذلك أن رؤى الأنبياء عبارة عن وحي من الله عز وجل .
ومعلوم أن الإنسان مجبول على التعلق الشديد بمن يولد له من أبناء وبنات ، وذلك مما زين له مصداقا لقوله تعالى : (( زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )) . وهذه الشهوات مما يصرف الإنسان أو يشغله عن إخلاص العبودية والمحبة لخالقه ، وتخصيصه سبحانه وتعالى بحب يفوق حبها جميعها ، وهذا ما اقتضى وجود سنة الابتلاء أو البلاء الذي به يحصل البرهان على أن حب المخلوق للخالق سبحانه هو فوق كل حب مما تتعلق به النفس البشرية مما تشتهيه في الحياة الدنيا .
ومعلوم أن ابتلاء أو بلاء الإنسان بالتضحية بما تشتهيه نفسه ، يكون عظمه بقدر قيمة المشتهى ،ذلك أنه قد يصبر على التضحية ببعض ما يشتهي من ذهب أوفضة أوخيل أوأنعام ....، لكنه إذا ما ابتلي بالتضحية بالبنين شق عليه ذلك كثيرا ، ومن هنا كان ابتلاء أو بلاء الخليل عليه السلام عظيما كما وصفه الله تعالى حين أمره بذبح ابنه الذي رزقه على الكبر بعد انصرام سنوات طويلة من عمره ، وهو يدعو ربه أن يهبه الذرية ، وكان تعلقه بابنه شديد بقدر ما مر به من سنين انتظار وتشوق إلى الذرية ، ولا شك أنه لم رزق بإسماعيل كان أعز ما يحب ، لهذا بلاه أو ابتلاه الله تعالى بذبحه لتمحيص إخلاص محبته له جل وعلا ، وإخلاص العبودية له ، علما بأن العبودية لله تعالى ومحبته مقترنتان لا تنفكان عن بعضهما ، وبقدر إخلاص العبودية يكون إخلاص المحبة .
ولقد اجتاز الخليل وابنه عليهما السلام هذا الامتحان العسير بنجاح حيث جعل كل منهما محبة الخالق سبحانه وتعالى فوق محبة بعضهما البعض ، وفوق محبة ما يشتهيان ، وما يتعلقان به ، فالخليل كان متعلقا بابنه يريد له الحياة ، وولده كان متعلقا بأبيه يريد البقاء إلى جانبه ، كما يريد الحياة أيضا ، لكنهما حينما خضعا للبلاء، جعلا تعلقهما بربهما فوق كل تعلق ، وجعلا محبته فوق كل محبة ،على ما في البلاء من شدة وعظمة . وجزاء لهما على الفوز في هذا الامتحان العسير جازاهما الله تعالى على إخلاص العبودية والمحبة له بما أثلج صدرهما معا حيث فدى الابن بذبح عظيم رفع به من قدرهما بين الخليقة ، ولا زال المسلمون يحيون ذكراهما إلى يوم الناس هذا ، وستستمر الذكرى إلى ما شاء الله تعالى حتى تقوم الساعة.
ولما كانت العبرة في كلام الله تعالى بعموم لفظه ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن الأحكام المترتبة عنه، تكون سارية المفعول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . والعبرة من سرد قصة الخليل وابنه عليهما السلام أن كل المؤمنين إذا صدق إيمانهم ، وصدقت عبوديتهم لله تعالى ، وصدق محبتهم له ، سيبتلون ، ويكون ابتلاؤهم او بلاؤهم على قدر شدة أو لين دينهم، كما جاء في الحديث الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه . ولن يبلغ المؤمنون في كل زمان أو مكان حتى تقوم الساعة البلاء الذي ابتلى به الله تعالى صفوة أنبيائه صلواته وسلامه عليهم أجمعين، لأنهم أشد خلقه بلاء كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويليهم في ذلك الأمثل فالأمثل .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين ، ونحن على موعد قريب من مناسبة عيد الأضحى الأبرك الذي يتزامن مع ذكرى قصة إخلاص الخليل وابنه عليهما السلام العبودية والمحبة لله تعالى دون ما سواه مما تشتهي الأنفس من متاع الدنيا من مال وولد .... وغيرهما. ولن يكون إحياء هذه المناسبة السنوية المتزامنة مع زمن إقامة عبادة الحج ،الركن الخامس من أركان الإسلام على الوجه المطلوب والأكمل إلا بتشرب مغزاها تشربا ، يجعل المؤمنين يؤثرون إخلاص العبودية والمحبة لله تعالى على كل ما تتعلق به نفوس المجبولة على حب الشهوات ، وذلك جريا على سنة الخليل وابنه عليهما السلام .ولن يدرك هذا الإخلاص من ظلت نفسه متعلقة بحب غير الله تعالى ، وهو ما يثلم عبوديته له جل وعلا ،وإن ادعى الإخلاص فيها بلسانه ، فيكذبه تعلقه وحبه لغيره.
وهنا لا بد من وقفة تذكير بخصوص تعامل المسلمين مع هذه الذكرى العظيمة حيث ينصرف كثير منهم إلى الانشغال بأمر الأضاحي التي قال عنها الله عز وجل : (( لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) ، ومع هذا الذي أراده الله عز وجل منا بخصوص الذبائح المقدمة له والتي تنحر باسمه الأعلى ، فإن كثيرا منا يشغلهم عن إدراك تقواه أمر هذه الأضاحي، أثمانها ،وسمنتها، وجودتها ... وقد يظهر الكثير منا ضجرا منها بسبب ارتفاع أثمانها خصوصا في هذا العام ،والموسم موسم جفاف حيث كلفت الأنعام أربابها أموالا لتوفير علفها ،وقد غلت كلفته ، فانعكس ذلك على أثمانها ، والحالة أن سواد الناس لا يستطيعون شراءها ، الشيء الذي يسبب لهم هذا الضجر الذي ينسيهم الحكمة من هذا النسك العظيم .
ومما يزيد من ضجر بعض المسلمين أو أغلبهم أن أثمان الأنعام يعبث بها المضاربون ، الشيء الذي جعلها ترتفع هذا العام ارتفاعا فاحشا قد خلق نوعا من الاستياء بين الناس ، وهو ما لم يجب أن يكون إجلالا للمناسبة الدينية العظيمة ،والتي يقابل الله تعالى أداء نسكها على الوجه الذي يرضيه بالأجر العظيم كما قابل طاعة الخليل وابنه عليهما السلام بإحسان في مستوى إحسانهما ، وهو القائل سبحانه وتعالى : (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )) .
ومن المؤسف أن كثيرا من المؤمنين، ونحن في زمن رقة الدين بامتياز إلا من رحم الله تعالى، يستكثرون أثمان الأضاحي الخاصة بهذه المناسبة، مع أنهم لا يستكثرون غيرها التي تنحر في مناسبات الزفاف أو العقائق أو الختان أو العزاء ...أو غيرها، وقد يختارون لمثل هذه المناسبات الغالي من الأنعام ، وبعضهم قد يفاخر بها حيث تحمل في مركبات ، وتطلى جباهها بالحناء ، ويطاف بها في الشوارع ، وتصاحبها أنغام المعازف ودقات الطبول ، والرقص الذي يختلط فيه الذكور بالإناث ، ولا يبالون بما ينفق عليها ، وعلى ما يصاحبها من تكاليف ، ولكنهم مقابل ذلك يتبرمون ، ويشتكون من أثمان أضاحي العيد، وهم في مرحلة بلاء وابتلاء لتمحيص إخلاص العبودية والمحبة لله تعالى . وقد يشيع بعض السفهاء بعض الأحاديث عن تكلفة الأضاحي، وهم يريدون بذلك تنفير الناس من هذا النسك أو على الأقل التبرم منه ، الشيء الذي يفسد عليهم نيتهم وتدينهم . ومن السفهاء أيضا من يستنكفون عن أداء هذه الشعيرة ، فيسافرون في فترة العيد، وينزلون في فنادق فخمة أو في منتجعات اصطياف اجتنابا لذبح الأضاحي ،وهم أهل يسار، يستخفون من النسك الذي ابتلى به الله تعالى عباده المؤمنين .
ومن الناس من يبخس مربي الأنعام سلعتهم ، ومن هؤلاء من يبالغ في إغلاء أثمانها ، فلا هؤلاء، ولا أولئك يدركون قيمة وعظمة هذا النسك ، والغاية التي أرادها الله تعالى منه .
ولن تفوتنا فرصة الإشادة بصبر إخواننا في فلسطين ، وتحديدا في قطاع غزة ، وقد ابتلى الله تعالى الآباء والأمهات في فلذات أكبادهم الذين أبادهم الإجرام الصهيوني إبادة جماعية ، وصبروا على فقدانهم محتسبين وراضين بما أصابهم ، وهم لا يقولون إلا ما يرضي الله عز وجل ، بل منهم من يسألون ربهم أن يقبل منه الولد ،والولدين، والأولاد شهداء عنده ، ويتمنون أن يلحقهم بهم شهداء بصبر منقطع النظير، قد احتار له الناس في العالم . ولا شك أن ابتلاء هؤلاء جاء على قدر شدة دينهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا يجب أن يتأسى المسلمون في كل المعمور بصدق عبودية ومحبة هؤلاء لله تعالى والرضا ببلائه العظيم ، وهم في ظرف قصف، وحصار، وتجويع ، وتهديد بالتهجير والترحيل القسري . فأين المسلمون الآمنون في أوطانهم من بلاء هؤلاء ؟ وكيف يستسيغ بعض المسلمين التبرم من غلاء الأضاحي حبا للمال ، وغيرهم يقدم فلذات الأكباد لله تعالى بصبر واحتساب ، وبنفوس راضية ومؤثرة لمحبة الله تعالى عن محبة غيره، وإن كانوا من أعز أحبتهم ؟
وأخيرا نتساءل هل فكرالمسلمون في كل المعمور، وهم سيذبحون أضاحيهم في إخوانهم الجياع في غزة والقطاع ؟ وما الذي فعلوه من أجل مواساتهم ؟
اللهم ارحم من لا راحم له . اللهم ربنا لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا بتقصيرنا في العبودية لك وفي محبتك ، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا . اللهم الطف بنا لرقة ديننا في هذا الزمن ، ولا تبتلينا بما لا طاقة لنا به، وارحمنا ،وأنت خير الراحمين . اللهم تقبل منا نسكنا، وأنت راض به، وراض عنا .
اللهم اربط على قلوب إخواننا المجاهدين في فلسطين ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك العظيم ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل للصهاينة عليه سبيلا . اللهم ارحم شهداءهم ، اشف جرحاهم ،ومرضاهم ، واطعم جياعهم ، وآمنهم من خوف ، وعجل اللهم لهم بنصر قريب من عندك، فأنت نعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1080