( ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب )
حديث الجمعة :
يقوم التوجيه الرباني للناس من أجل استقامتهم لربهم على أساسين غالبا ما يترادفان في القرآن الكريم ، وهما : الترغيب، والترهيب ، ويكون المُرغَّب فيه، والمُرهَّب منه في الدنيا ، كما يكون في الآخرة. والنفس البشرية مجبولة على الرغبة والرهبة، إذ تميل ميل تعلق شديد بالراحة والسعادة ، وحب الخير، وتنفر نفورا شديدا من العذاب، والشقاوة ونكره الشر، ولا يمكنها لأن تستوي على الصراط المستقيم في الحياة الدنيا إلا بحدوث توازن بين رغبتها ورهبتها ، ذلك أن الرغبة دون رهبة قد تفضي بها إلى المبالغة في الأمل ، كما أن الرهبة دون رغبة قد تفضي بها إلى المبالغة في اليأس والقنوط ، بينما التوسط بينهما هو الحال الأمثل مصداقا لقوله تعالى في وصف حال من اصطفاهم من المرسلين صلواته وسلامه عليهم أجمعين : (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) ، والملاحظ في هذه الآية الكريمة من سورة الأنبياء أن مسارعتهم عليهم السلام في الخيرات رغبا في الجزاء ، لم تثنهم عن استحضار الرهب من العقاب. وإذا كان هذا حال المرسلين وهم المعصومون ، فأولى ببقية الخلق، وهم بلا عصمة أن يكونوا أشد رغبا وأشد رهبا منهم .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الترغيب في أمور شتى ، والترهيب من أمور شتى . ومما رهَّب الله تعالى منه الظلم ، وهو وضع الأمور في غير ما أراد لها سبحانه. والظلم سلوك عدواني يصدر عن الخلق إنسا وجنا ، وقد يكون فيما بينهم إذ يتظالمون ، كما أنهم قد يسيئون به إلى أنفسهم إن هم لم يقدروا خالقهم حق قدره تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كأن يتخذوا من دونه شركاء وأندادا له من خلقه يحبونهم ، وهو سبحانه وتعالى وحده المخصوص بالمحبة .
وإذا كان الظلم على اختلاف أنواعه وأساليبه ممقوتا عند الله عز وجل ، فأعظم الظلم ما كان شركا بالله تعالى كما جاء في كتابه على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه إذ قال سبحانه: (( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )) . والمشرك بالله ظالم لخالقه أولا، لأنه يجعل عبوديته لغير من يستحقها من الخلق ، وهو بذلك يضعها في غير ما وضعت له ، كما أنه ظالم لنفسه أيضا إذ يمتهن عبوديتها حين يجعلها لغير الله تعالى .
وإذا كان الشرك بالله عز وجل هو أعظم الظلم ، فإن ذلك لا يعني الاستهانة بأنواع الظلم الأخرى مهما بدت هينة في تقدير الخلق ، ذلك أنها في الحقيقة تمت بصلة مباشرة إلى أعظم الظلم عند التأمل ، فالمخلوق إنسا كان أم جنا حين يظلم غيره مهما كان نوع الظلم بدء بقتله ، ومرورا بكل أنواع الظلم المختلفة ، وانتهاء بما يعتقد أبسط سلوك ، وهو الكلمة السيئة التي يفوه بها دون وجه حق في حق غيره ، فإنه يأتي بذلك أفعالا أو أقوالا لا تقدر الخالق سبحانه حق قدره ، وذلك بالاعتداء على خلقه ، وهم عياله سبحانه وتعالى ، وفي ذلك إخلال صارخ بالعبودية .
ولقد توعد الله تعالى الظالمين بعذاب مزدوج يكون شطر منه في الحياة الدنيا ينتهي بزوالها ، والشطر الآخر في الآخرة يدوم بدوامها ، وهو الأشد والأبقى . ويختلف تحذير الله تعالى من العذاب المترتب عن جرائم الظلم في كتابه الكريم حسب حجم الظلم ونوعه ، ومما ورد في ذلك قوله تعالى : (( ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أشد وعيد يعكس مدى تحذير الله عز وجل الشديد من جرم الظلم الذي هو اعتداء على سلطانه عز وجل ، وبيانه أنه تعالى أشار إلى شدته بشدة ما يقابله من عذاب يكون صادر عن ذي قوة لا يعتد بأية قوة معها، بل ليس معها قوة ،لأن القوة لله جميعا ، وشدة عذابه لا مثيل لها . ولقد خفي في هذه الآية الكريمة جواب " لو " الذي يقدر بما أعقبها وهو قوله تعالى : (( أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب )) ، ويكون التقدير لرأوا أشد العذاب من ذي القوة جميعا سبحانه وتعالى . وقد رأى أهل البلاغة أن حذف جواب " لو" في كتاب الله عز وجل هو أبلغ من ذكره ، لأنه يجعل المتلقي يبذل كل ما في علمه أوسعه لتمثل أو لإدراك المحذوف ، ويكون هذا التعبير غالبا في حالات التهويل من أمور عظيمة .
ولقد سبق هذا الوعيد الشديد قوله تعالى : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله )) ، وهذا يعني أن الوعيد الإلهي الشديد الذي تلا قوله هذا يتعلق بأعظم الظلم الذي هو الشرك بالله عز وجل ، ولكن هذا لا يعني عدم دخول أنواع الظلم الأخرى تحت هذا الوعيد الشديد . ومعلوم أن اتخاذ أنداد لله تعالى عن الندية والشركاء هو اعتداء على وحدانيته وربوبيته وألوهيته أولا ، وهو اعتداء على الأنداد أنفسهم ، فضلا عن اعتداء من يتخذونهم على أنفسهم وهم غافلون عمن هم فيه من ضلال ، كما هو شأن من اتخذوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إلها ندا لله تعالى أو شأن الذين اتخذوا آلهة معه من ملائكة أو بشر أو جن أو حجر أو كواكب ...أو غير ذلك من المخلوقات . ومن ذلك ما ورد في كتاب الله عز وجل مثل ود ، وسواع، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وقد ورد في كتب التفسير رواية عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم نواح عليه السلام ، فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل، فعبدوها من دون الله عز وجل . وقد قيل أيضا أن صنم اللات كان رجلا يلتّ السويق للحجيج، أي يبلل أو يعجن لهم دقيقا من حنطة أو شعير ، وسمي بذلك لاتّا ، فلما مات جعلوا لهم صنما وعبدوه . ومثل هؤلاء كل من يتخذون أندادا لله في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ، لأن العبرة في كتاب الله تعالى بعموم لفظه ، لا بخصوص أسباب نزوله . و كل هؤلاء الذي جعلوا أندادا لله تعالى أو يُجعلون له قد ظلموا حين أحبهم متخذوهم من دون الله تعالى ، وسيسألهم سبحانه وتعالى جميعا يوم العرض عليه عن ذلك، فيتبرءون ممن جعلوهم أندادا له كما هو شأن نبي الله عيسى ابن مريم عليهما السلام كما ورد في قوله تعالى : (( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميَ إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد )) . وسيتبرأ يوم القيامة كل من اتخذوا أندادا لله تعالى ممن اتخذوهم كذلك سواء كانوا من رسلا، أو ملائكة ،أو بشرا، وجنا ... أو غيرهم كما تبرأ المسيح عليه السلام ممن ألهوه .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه المؤمنين إلى الوقوع غفلة منهم في أعظم الظلم الذي هو الشرك بالله تعالى من خلال نسبة أفعاله لبعض الخلق، وسؤالهم ما لا يسأله إلا هو عز وجل ، وطلب ما لا يطلب إلا منه ، لأن في ذلك نسبة أفعاله سبحانه وتعالى للخلق وقدرتهم عليها، كما يفعل بعض من ينادون ويسألون الأموات من الخلق النصرة ،والعطاء ... وغير ذلك، وهم لا يسمعونهم ، ولا يجيبونهم ، وما ينبغي لهم وما يستطيعون ، وهذا ظلم لهم ، وظلم للسميع، البصير، المجيب، القادر ،المعطي، والمانع... سبحانه وتعالى، وبهذا يقعون في ما حذر منه الله تعالى أشد التحذير ، وتوعد من يفعله بأشد العذاب . ولهذا يجب على المؤمنين ألا يسألوا غير الله تعالى ، ولا يطلبوا شيئا من غيره، مهما كان هذا الغير ملكا، أو رسولا، أو ذا قرابة منهم، أو كل من يُزكّى على الله عز وجل أو يعتقد فيه الصلاح، والله وحده أعلم به ، ولا حجة لهم على تزكيته أو صلاحه . وإذا كان جواب المسيح عليه السلام حين يسأل عن الذين ألّهوه كما جاء في كتاب الله عز وجل ، فما دونه ممن تنسب لهم أفعال الله تعالى ، لن يكون لهم غير جوابه . وعلى كل من سمع مؤمنا يستجير بغير الله تعالى أو يطلبه أو يسأله أن ينبه إلى ذلك ، ويحذره منه ، وينصح بالتوجه إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلم، ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد ،فهو سبحانه وحده المعطي، والمانع الذي يجيب المضطر إذا دعاه مصداقا لقوله تعالى : (( أم من يجيب المضطر إذا دعاه )) وهو القائل أيضا : (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) ، وما الرشد، والسداد سوى التوحيد الخالص لله تعالى من كل شوائب الشرك به، أو نسبة الندية له سواء كان ذلك تصريحا أم تلميحا ، تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
وبقي أن ننبه إلمؤمنين إلى ما يحل بكل الظالمين في هذه الحياة الدنيا من عذاب الله عز وجل في الدنيا ، ويكون ذلك بسبب ما كسبت أيديهم مما يعرفه الناس معرفة يقين ، وقد أقاموا على أنفسهم حججا دامغة ، ويكون لهم أشد العذاب بعد رحيلهم عن هذه الدنيا ،خصوصا الذين كانوا يُزكَّون ،وهم ظالمون لاغبار على ظلمهم ،وهم واعون به كل الوعي ، والمظلومون شهود عليهم بذلك في الدنيا، ويوم القيامة .
اللهم إنا نعوذ بك من كل أنواع الظلم أفعالا أو أقوالا مما تعمدناه ، ومما غفلنا عنه، ولم نتعمده . اللهم أنت ربنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحدا ، لك نخلص التوحيد، والمحبة، والعبودية، فاقبل منا وارض عنا . اللهم إنا نبرأ إليك ممن يؤثرون حب غيرك على محبتك ، ومن يسألون غيرك ما لا ينبغي لهم ،وما يستطيعون شركا منهم وهم يعلمون ، وهم مصرون على ذلك إصرارا ممن يحسبون أنفسهم من عبادك المهتدين ، وهم ضالون ومضلون .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1081