عيسى بن مريم عليه السلام أبر الناس بوالدته

عبد الرحيم بن أسعد

الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، لقد قال الله تعالى "فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ، فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"-مريم17: 25- وبعد:- فالشرح: لقد اتحذت مريم بنت عمران عليهما السلام ستراً من جدران أي حجرة تقع في شرق بيت المقدس حتى تعبد الله تعالى بطمأنينة وخشوع، بعيداً عن أعين أهلها، حتى لا يدخل الرياء في العبادة، وكان مكان عبادتها في ناحية من بيت المقدس تقع شرق المكان الذي يعيش فيه أهلها، لأن بذلك تطلع عليها الشمس أولاً، فتتنبه أولاً إلى بداية النهار، لكي تكون أول من يخرج من أهلها إلى رعاية بيت المقدس، ولكي لا يعلم أحد من أهلها أنها كانت تتعبد الله في جوف الليل، فلو كانت حجرتها غرب بيت المقدس لجاءها من يستعجلها ممن يسكن شرق البيت للخروج إلى رعاية البيت قبل أن يصل شعاع الشمس إلى حجرتها ولوجدها تدعو الله وتذكره ولعرف بعدها أنها كانت قانتة لله تعالى، فقد قال الله تعالى "إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أعلم بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"-آل عمران35 ، 36-، "رُوحَنَا": جبريل عليه السلام {"نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ"-الشعراء193-}،(«عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حَتَّى قَالَتْ: "إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا"») صحيح البخاري، ثم قالت مريم رضي الله عنها لجبريل عليه السلام هل تبشرني أيها الملك بمعجزة؟ فلم يمسسني رجل من قبل أي لم أتزوج بعد، ولم أكن باغية في الأرض بغير الحق ألتمس الولد من غير الزواج، الذي أحله الله تعالى، وكانت مريم رضي الله عنها تعلم من بشرى الملائكة لها من قبل أنها سترزق بولد يكون معجزة للناس ولكنها لم تظن أن ذلك سيكون من غير أب، فهي قد عاينت مولد يحيى عليه السلام الذي ليس له في الأرض من قبل مولده مثل أو شبيه، وكان مولده معجزة من أب عجوز قد رق عظمه وتجاوز في الكبر، ومن أم عاقر وهي عجوز كذلك {"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ"-آل عمران45-}، (عَنْ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ"»، وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ، كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ») صحيح البخاري، ثم نفخ جبريل عليه السلام في مريم {"فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا"(الأنبياء:91)}، فوصلت النفخة وفيها روح من الله تعالى إلى جيب قميصها، ثم بعدها وصلت النفخة وفيها الروح إلى فرجها فولجت النفخة وفيها الروح إلى رحمها {"وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا"(التحريم:12)}، وهذه الروح التي تحيا بها النفس هي التي قدرها الله تعالى لتكون روح عيسى عليه السلام، وكان الله تعالى قد ألقى إلى رحم مريم كلمته وهي قولة "كُنْ"(مريم:35) من قبل أن تصل الروح إلى داخل الرحم فكان عيسى مخلوقاً بشراً في رحم مريم، ثم التصقت الروح بالجسد فصار عيسى حياً في رحم أمه، فما كان من بعد نفخ جبريل عليه السلام من أمر إلا أن حملت مريم بعيسى عليه السلام طفلاً حياً مكتمل الخلقة ينتظر إذن الله تعالى بالوضع {"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(آل عمران:59)، "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي"(الحجر:29)}، بمعنى أنه لم يكن في أمر خلق عيسى عليه السلام أن يمكث في بطن أمه تسعة أشهر أو ما شابه ذلك ليتغذى بغذائها حتى يكتمل خلقه كما لم يكن ذلك لآدم عليه السلام. ("فَانْتَبَذَتْ": «اعْتَزَلَتْ»، ’’قَصِيًّا‘‘: «قَاصِيًا» {أي بعيداً ومرتفعا عن الحجرة التي كانت تتعبد فيها، والتي رأت فيها جبريل عليه السلام بصورة بشر فنفخ فيها من روح الله تعالى بعد أن بشرها بأن الله تعالى أرسله ليهب لها غلاماً زكياً}) صحيح البخاري. فائدة: يدل اعتزال مريم حجرتها وقومها إلى مكان بعيد ومرتفع عن بيت المقدس لوضع الحمل على التالي: (1) أن مريم بنت عمران قد أحصنت فرجها عن الناس جميعاً، (2) أنها قد رأت انتفاخ بطنها لحملها بعيسى عليه السلام مباشرة بعد النفخ، وعلى أنها قد أحست بثقل الحمل مباشرة، وأنها أدركت أن ليس لديها طاقة كافية على الحمل الذي لم تعتاده حتى يكون لديها طاقة على الحديث مع غيرها في هذا الشأن، ولو كان انتفاخ بطنها ليس لحظياً لكان لديها الوقت والجهد الكافي لإخبار زكريا عليه السلام {"وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا"(آل عمران:37)}، وهو القائم على بيت المقدس بحديثها مع جبريل عليه السلام وما تبعه من أمر فهذا لابد له أن يحصل لأنه من أمور الدين، "فَأَجَاءَهَا": «أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ: أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا» صحيح البخاري، "الْمَخَاضُ": وجع الولادة، "يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا": إنما قالت مريم بنت عمران عليهما السلام هذا الكلام لشدة آلام المخاض، وليس لشيء غيره من خوف من الناس فهي ممن كمل من النساء، ’’نِسْيًا‘‘: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ: الحَقِيرُ» صحيح البخاري، ثم ناداها الملك جبريل عليه السلام، ولم تكن مهمته وهي "لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا" قد انتهت بعد، فإنها لن تنتهي إلا بعد أن تقر عينها بالمولود وهو في حضنها، وحتى يتم لها ذلك لا بد لها أولاً من أن تطمئن وترتوى وتشبع خصوصاً بعد رحلة اعتزالها حجرتها إلى مكان لا يراها فيه أحد وهي تضع حملها، لأنها اعتادت على أن تحصن فرجها {"وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا"(الأنبياء:91)}، وكان جبريل عليه السلام بعيداً عن مريم بنت عمران على صعيد من الأرض يقع أسفل الصعيد الذي يحمل مريم وابنها، وهذا من رحمة الله تعالى بها حتى لا توجل من الملك كما وجلت منه المرة الأولى، فتطمئن لقضاء الله تعالى، وكذلك لتعلم أن الله تعالى يجازي على الحسنى بالأحسن منها فإذا كانت مريم بنت عمران قد "أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا" عن أن يراه الناس فإن الله تعالى قد أحصن فرجها عن أن يطلع عليه ملائكته، ثم دلها الملك من بعيد بالنداء على أن الله تعالى قد أوجد لها جدولاً من ماء طيب أي نهر صغير بجوارها لترتوي منه، ثم دلها من بعيد على أن تهز جذع النخلة التي كانت تستتر به عن أعلى الربوة، ليتساقط عليها الرطب الطيب لتشبع منه، فعَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ، ابْنَيْ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» صحيح مسلم، فائدة: لأن الملك جبريل عليه السلام كان على صعيد من الأرض يقع أسفل الصعيد الذي كان يحمل مريم وابنها، فهذا يدل على أن مريم بنت عمران اعتزلت مكان قومها بأن جعلت بينها وبينهم سترا من صعيد أعلى الربوة ثم إضافة إلى ذلك جعلت بينها وبين أعلى الربوة سترا من النخل وبينها وبين النخل سترا من جذع النخلة، وذلك من تمام إحصانها لفرجها {قال الله تعالى "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ"-المؤمنون50-}. "سَرِيًّا": «نَهَرٌ صَغِيرٌ» صحيح البخاري. فائدة: قد يدل كون الملك قد دل مريم بنت عمران على أن الله تعالى قد جعل الماء يسرى من تحتها بجوراها على أن الوقت كان ليلاً، و على أنها ارتوت و شبعت ثم قرت عينها برؤية ابنها عيسى عليه السلام عند طلوع الشمس، ويدل ذلك على أنها اعتزلت بعد حملها إلى مكان يقع شرق حجرتها التي تقع شرق بيت المقدس. فائدة: أخطأ البعض خطأً كبيراً عندما زعموا أن الذي نادى مريم بنت عمران هو ابنها عيسى عليه السلام وذلك للأسباب التالية: (1) لا يمكن لمريم أن تطرح ابنها أرضاً وتحتها وبعيداً عنها وهي التي كمل عقلها من النساء، (2) لا يمكن لعيسى عليه السلام أن يقول لأمه مباشرة بعد الوضع كلي واشربي وهو الذي يحتاج عنايتها لكي تخلصه من حبل المشيمة ومما علق به من الحجاب {غشاء المشيمة}، (3) لا يمكن لمريم أن تترك ابنها عيسى عليه السلام لتشرب أو تأكل إلا بعد أن تلفه بالقماش وتضمه إلى حضنها لأنها احدى المرأتين اللتان كمل عقلهما من نساء العالمين، (4) لماذا ينادي عيسى عليه السلام أمه وهي بجواره ترعاه؟ لماذا لا يكلمها أو يناجيها؟، (5) لا يمكن لعيسى البار بأمه أن يناديها ثم بعدها يكلم قومه في المهد من غير نداء {"قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا"(مريم:29)}، (6) ثم إن كلام عيسى عليه السلام في المهد معجزة والمعجزات تأتي كاملة لتدل على قدرة الله تعالى، وعلى هذا فإن كان هو الذي أرشد أمه للشرب والأكل لقال الله تعالى عنه فكلمها أو فناجاها أو فهمس إليها ليتحقق بذلك أنه بار بوالدته على أكمل ما يكون بر الوالدة {"وَبَرًّا بِوَالِدَتِي"(مريم:32)}، (7) استحالة منادة عيسى عليه السلام لأمه لأنه لم يتجاوز عمره حينها ليلة واحدة ولأن النداء يستلزم طاقة كبيرة يعجز أن يمتلكها الرضيع فكيف بالمولود تواً، وكذلك لأن نداءه حينها سيكون معجزة أكبر بكثير من كلامه مع قومه بعد أن أمضى ليلة كاملة من عمره {في الغد} وذلك لأن الكلام يستلزم طاقة هي أقل بكثير من ما يلزم للنداء، ولقد ذكر الله تعالى معجزة كلامه في المهد مع قومه في القرآن ثلاث مرات {"وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ"(آل عمران:46)، "تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ"(المائدة:110)، "كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا"(مريم:29)} ولم ينزل ولا حتى مرة واحدة في أنه هو الذي نادى أمه، وهذا يدل بوضوح على أن النداء المذكور في الآية إنما هو استكمال للحديث الذي جرى بين الملك جبريل عليه السلام وبين مريم بنت عمران، ولكن بعد تغير المكان في نفس الليلة وقبل صعود الملك إلى السماء بعد انتهاء مهمته، ’’وَقَرِّي عَيْنًا‘‘: متعي نظرك برؤية ابنك عيسى عليه السلام بعد أن ترتوي ويذهب جوعك، ولن تكتمل قرة عينها بالنظر إلى ابنها إلا بعد أن تصلي الفجر وتشرق الشمس، فتبصره تمام الإبصار فالصلاة نور، ’’صَوْمًا‘‘: إمساكاً عن الطعام والكلام المؤدي إلى الجدال أو الجهالة أو الشتم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» صحيح البخاري، ’’فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا‘‘: لن تكلم مريم بنت عمران أحداً من البشر في شأن ابنها عيسى عليه السلام من شروق الشمس إلى المغيب ودل على هذا الوقت كلمة "الْيَوْمَ"، ثم إن الملك أخبرها أن تشير إلى إبنها إذا حدثها قومها بشأنه لقول الله تعالى "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ"(مريم:29)، فائدة: كان عيسى عليه السلام في جوار أمه بآمان وسلام حينما كانت أمه ترتوي من الماء السري وعندما كانت تأكل من الرطب الجني، ولم يمسه الشيطان عند الوضع حتى يخرج من رحم أمه باكياً فتنشغل به عن حاجتها للماء والطعام بعد رحلة اعتزال شاقة ومعاناة آلام الوضع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَابِ» صحيح البخاري، فائدة: قد تكون مريم بنت عمران عليهما السلام قد شهدت ولادة يحيى عليه السلام، فتعلمت من هذه التجربة كيف تتصرف مع مولودها الجديد عند أول الوضع، وتعلمت ما تلى ذلك من رعاية الجنين من دون الحاجة إلى تعليم الملك لها، فبهذا يكون اعتزالها قومها عند حملها ليس عن جهالة في تقديرها، بل ظنت أنها قادرة على تحمل وجع الولادة لوحدها لأنها شابة ولأن تجربتها مع خالتها وهي امرأة زكريا عليهما السلام أنها تحملت وجع ولادة يحيى عليه السلام وهي عجوز، والله أعلم.، فسبحان الله رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 1082