( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)
حديث الجمعة :
من تكريم الله عز وجل لبني آدم ، وتفضيلهم على كثير ممن خلق، إنعامه عليهم بملكة العقل التي بها يحصل لهم الفهم، والتمييز ،والاكتشاف ، والتدبر... وأهم ما تمدهم به هذه الملكة معرفة حقيقتهم الوجودية المتمثلة في مخلوقيتهم الدالة بالضرورة على خالقهم ، وهي معرفة تدعمها الأدلة والبراهين الدامغة التي لا يرقى إليها شك . ولم يقف فضل الله تعالى وإنعامه على بني آدم عند حد تفضيلهم بتلك الملكة فقط، بل تعهدهم جل شأنه عبر العصور برسالاته التي كان يكلف رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين بتبليغها عنه للناس ، وفيها توجيهاته التي بها يسعدون في دنياهم وفي آخرتهم .
ومعلوم أن بني آدم باستخدامهم ملكة العقل ، واتباعهم التوجيهات الإلهية تتحقق إنسانيتهم المكرمة ، وأفضليتهم على كثير من الخلائق ، كما أنهم بتعطيلهم لتلك الملكة، وإعراضهم عن التوجهات الإلهية ،يفقدون إنسانيتهم المكرمة المفضلة .
وحرصا على صيانة إنسانيتهم ،لم يرض الله تعالى لهم الإقرار لغيره بالألوهية والربوبية ،لأن في ذلك امتهان لإنسانيتهم حين يعطلون عقولهم التي تدلهم على حقيقتهم الوجودية ، وتوصلهم بالبرهان القاطع إلى الإيمان بالألوهية والربوبية ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : (( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم )) .
وبالرغم من اجتماع ملكة العقل مع التوجيهات الإلهية في الطبيعة البشرية ، فقد انحرف كثير من بني آدم عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى ، ورضوا بالكفر باتخاذ شركاء له في الألوهية والربوبية ، وهو ما لم رضه لهم الله تعالى. ومن الأمم من بدلت وحرفت ما أنزل الله تعالى إليها ، ففسد بذلك إيمان أهلها بسبب شوائب الكفر والشرك . ومن هذه الأمم أهل الكتاب من يهود ونصارى كما جاء في الرسالة الخاتمة التي حذر فيها الله تعالى عباده المؤمنين من اتباع هؤلاء فيما بدلوا وما حرفوا ، كما حذر من مولاتهم تفاديا للسقوط في انحرافهم عن صراطه المستقيم ، وذلك في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) ، ففي هذه الآية الكريم ،وهي الواحدة والخمسين من سورة المائدة، ينهي الله تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين يجمع بينهم الانحراف عن صراطه المستقيم ، وهو ما جعلهم يعادون المؤمنين لاستقامتهم على صراطه . ولقد وقف المفسرون عند طبيعة هذا الولاء ، فقالوا إنه يتراوح بين تقليدهم في انحرافهم عن صراط الله المستقيم ، وهو التحول من ملة الإسلام إلى ملتهم ، وبين مودتهم ونصرتهم . وقد أولوا قوله تعالى : (( ومن يتولهم فإنه منهم )) بأنه مثلهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم من الله عز وجل . واستثنوا بعض المعاملات معهم كتلك التي كانت بين بعضهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المدينة المنورة قبل أن يتألبوا عليه، ويتآمروا عليه مع المشركين ، الشيء الذي أنهى ما كان بينه وبينهم من تعامل .
ولقد أشار الله تعالى بعد نهي المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى إلى فئة المنافقين التي كانت محسوبة على المسلمين إلا أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وهم يبطنون الكفر، الشيء الذي جعلهم يتولون اليهود والنصارى فقال جل شأنه : (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة )) ، ففي هذه الآية الكريمة يصف الله تعالى المنافقين بمرضى القلوب ، علما بأن المرض هو نقيض الصحة ، وهو مرض معنوي مقصود به النفاق، لأن صحة القلوب هي أن تتشرب الإيمان ، وتكون متمحضة له ، بينما مرضها هو أن تتلبس بالكفر باطنا ، ويدعي أصحابها الإيمان كذبا في الظاهر. ولما كان المنافقون على هذه الحال من المرض ، فقد نشأ بينهم وبين اليهود والنصارى ولاء سببه التقارب بينهم في بغض المؤمنين . ولقد كانوا يحاولون التمويه على هذا الولاء بذريعة الخشية من دوائر السوء عليهم ، لذلك كانوا يسارعون فيهم ، ويجدّون في موالاتهم ونصرتهم . وقد كان من هؤلاء زمن نزول الوحي المنافق أو رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ، وقيل إن هذه الآية نزلت فيه ، وقيل نزلت فيه، وفي غيره ممن أسروا في أنفسهم موالاة اليهود والنصارى إلى أن كشف الله تعالى ما كانوا يسرون . وابن سلول هو نموذج قد تكرر أمثاله في عصور متتالية بعد الإسلام ، وسيتكرر وجودهم إلى قيام الساعة، والعبرة بعموم لفظ الآية الكريمة، لا بخصوص سبب نزولها .
ولقد فند الله تعالى ذريعة هؤلاء المنافقين بقوله عز من قائل : (( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )) ، ففي هذه الآية الكريمة تأكيد لما أسره المنافقين في أنفسهم ، كما أن فيها صرف للمؤمنين عن نهج أسلوب المنافقين في مولاة اليهود والنصارى ، والمسارعة فيهم بذريعة الخوف من دوائر السوء ، ذلك أن الله تعالى وعد المؤمنين بأحد أمرين : إما فتح يكون لهم فيه دور، والفتح عند بعض المفسرين يدل على الحكم ، وإما أمر يختص به الله سبحانه وتعالى دون أن يكون فيه دور لهم . ولقد اعتبروا التعبير" بعسى " في الآية الكريمة دالا على وعد مؤكد ناجز من الله عز وجل، خلاف تعبير البشر بها عما يتمنونه دون أن يكون ما يتمنونه في حكم المؤكد كما هو الشأن في هذه الآية الكريمة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى نهي الله تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، وتحذيرهم من السقوط في النفاق بموالاتهم عن طريق تبرير ذلك بذرائع الخوف من الدوائر، مع وعد الله الناجز بفتح أو بأمر من عنده خصوصا ونحن نعيش ظرف تسلط اليهود الصهاينة على المؤمنين في أرض فلسطين المحتلة، وقد أبادوا منهم خلقا كثيرا ، ولا زالوا يقتّلونهم تقتيلا ، ويجوعونهم ، ويخرجونهم من ديارهم قسرا في الوقت الذي يوالي كثير من المسلمين الصهاينة المعتدين ، وهم يبررون مولاتهم بمثل ما برر به مرضى القلوب من المنافقين موالاتهم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت الذرائع والمبررات دون أن تستيقن قلوبهم ما وعد به الله تعالى عباده المؤمنين من فتح أو من أمر من عنده إذا ما حصلا ، فإنهم سيصبحون على ما أسروا أو على ما أعلنوا من موالاة للصهاينة نادمين لا محالة . ولا شك أن الله تعالى قد ابتلى المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج بأعدائهم الصهاينة كي يمحص أولا إيمانهم ، وفي نفس الوقت كي يكشف النقاب عمن يخالفون أمره بمولاتهم لليهود الصهاينة والنصارى وبالمسارعة فيهم مع أنهم اجتمعوا جميعا لمحاربة المسلمين في أرض الإسراء والمعراج المحتلة ، وتبرير ذلك ، والتذرع بمختلف الذرائع . ، وقد يئسوا من وعد الله تعالى إما بفتح ا أو بأمر منه ، مع أنه وعد ناجز لا محالة إذا صدق الإيمان ودام الثبات عليه .
اللهم ثبت أقدام عبادك المؤمنين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ، واربط على قلوبهم ، سدد رميهم ، وامددهم بمددك العظيم ،وعجل اللهم لهم بفتح قريب أو بأمر من عندك . ورد اللهم إلى صراطك المستقيم من استزلهم الشيطان بموالاة من نهيت عن موالاتهم ، وعجل اللهم لهم بتوبة نصوح حتى لا تدركهم ساعة الندم كما أدركت من كان قبلهم ، ولات حين مندم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1088