( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا )
حديث الجمعة
من المعلوم أن الله عز وجل رحمة ببني آدم وتكريما وتفضيلا لهم على كثير ممن خلق هيأ لهم ظروف الصلة به عن طريق مرسلين مبعوثين منه أرسلهم إليهم للتعريف بذاته المقدسة ، وللكشف عن الغاية من خلقهم استهلالا ومآلا . وجعل تلك الغاية هي أن يعبد وحده دون شركاء أو أنداد من مخلوقاته على اختلاف أنواعها لتفرده وتميزه سبحانه وتعالى عنها بالخالقية . وكل معبودية لغيره هي اعتداء على خالقيته .
ولقد تكررت في العديد من آيات الرسالة العالمية الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة الله عز وجل الناس إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء والأنداد، كما تكررت فيها أخبار عن انزلاق العديد من الناس عبر تاريخ البشرية الطويل نحو أشكال من الإخلال بإخلاصهم العبودية لله تعالى عن طريق اتخاذ أنداد وشركاء له ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ ، فكان منهم من عبد الكواكب والنجوم ، ومنهم من عبد الأصنام والأوثان ، ومنهم من عبد الملوك ، ومنهم من عبد الجن ... إلى غير ذلك من المخلوقات اعتداء على خالقية الله تعالى وإخلالا بتوحيده وتنزيهه عن الشركاء والأنداد.
ولما كانت الطبيعة البشرية ميالة إلى تقليد بعضهم البعض ، فإن من آفة هذا التقليد أن يسقط البعض في الاعتداء على خالقية الله تعالى بعد استيقانها كما هو الشأن بالنسبة للسامري زمن نبوة نبي الله موسى عليه السلام ، وقد هم في غياب هذا الأخير بإيقاع قومه في الشرك بالله تعالى بعد توحيده ، وذلك بحملهم على اتخاذه العجل المصوغ من حليهم معبودا مع الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ . ويعتبر السامري نموذج الإنسان الضال بعد الاهتداء ، وهي أخطر حالات الضلال لأن من ضل ابتداء ليس كمن ضل بعد اهتداء .
ولقد تكرر النموذج السامري عبر التاريخ ، وسيتكرر إلى قيام الساعة حيث يتنكب كثير من الناس سبيل توحيد الله تعالى التوحيد الخالص إلى سبل الشرك به بعد توحديهم له عن طريق تلبيس أهل الضلال عليهم ، وتزين الشرك لهم كتزيين السامري له والذي أضل به قومه .
ودرءا لانتقال الناس بعد توحيدهم إلى الشرك تكرر في كتاب الله عز وجل التحذير من ذلك كما جاء على سبيل الذكر لا الحصر في قوله تعالى : (( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة الجن أمر إلهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ العالمين إلى يوم الدين أنه إنما يوحد حصرا الله عز وجل دون تلبيس توحيده بشرك ، وهو ما يتعين فعله على الناس جميعا في كل زمان ومكان غلى قيام الساعة .
ولقد جاء التعبير عن تخصيص الله تعالى بالتوحيد في هذه الآية الكريمة بفعل " أدعو " الذي من دلالاته النداء ، والحث ، والطلب ، والسؤال ... ودلالته في هذه الآية الكريمة تمحضت للعبودية وهي توحيد الله عز وجل أي " قل إنما أعبد ربي وأوحده " ، وقد دل على ذلك التأكيد الذي تلا قوله تعالى : (( قل إنما أدعو ربي )) وهو قوله : (( ولا أشرك به أحدا )) حيث يضادّ فعل" أدعو" فعل " أشرك ".
ولقد شدد الله تعالى في رفضه الشرك به مهما كان توعه ، وحرم من يتلبس به من مغفرته مصداقا لقوله تعالى : (( إن الله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )) ، وهذا الإثم العظيم هو ظلم كما جاء على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه : (( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )) . ولقد جعل الله تعالى الشرك أعلى مراتب الظلم وأعلى مراتب الإثم حتى أن الله يغفر ما دونه، ولا يغفره. ومما جاء في الحديث القدسي قول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " ولقد استثنيت في هذا الحديث القدسي خطيئة الشرك بالله من مغفرة سبحانه وتعالى لقبحها وشناعتها مع مغفرته ما دونها من الخطايا وإن قاربت قدر أو حجم الأرض كثرة .
وأقبح الشرك ما طرأ على الإنسان بعد توحيده ، فهو من سنخ الشرك السامري . وقد يقع كثير من الموحدين في عدة أنواع من الشرك قد لا يلقي إليها بعضهم بالا ، فيستهينون بها ،وهي آثام عظيمة عند الله عز وجل ، ويرجع السبب في الوقوع بها من طرق قد يُظن أنها من التدين ، ومن التقرب إلى الله تعالى مثل توقير أشخاص ممن يعتقد فيهم الصلاح أمواتا أو أحياء ، فيتطور هذا التوقير إلى درجة الاعتقاد بأنهم يفعلون ما استأثر بفعله الله تعالى وحده من منع أو عطاء ... أو غير ذلك ، وهو ما حذر منه سبحانه وتعالى في قوله : (( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون )) . وقد يبرر بعضهم التوجه إلى هؤلاء بمطالبهم ويقولون إنما نتوسل بهم إلى الله مع أن الله تعالى قد أمر بالتوجه إليه مباشرة دون وسطاء من خلقه فقال : (( وإذا سالك عني عبادي فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) . والذين يدعون غير الخالق سبحانه وتعالى من البشر وهم يعتقدون فيهم القدرة على فعل ما اختص بفعله سبحانه وتعالى ، يقعون في الشرك وهم إما ممن لا يشعرون ولا ينتبهون ، وهؤلاء من السذج الذين يضللون باسم الدين ،وإما ممن يظنون اعتقادا أنهم على صواب وأنهم مهتدون .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تنبيه المؤمنين من السقوط في أنواع من الشرك قد لا يلقون لها بالا خصوصا في ظرف إقامة المواسم أو الوعدات في بلادنا، وقد جرت العادة أن تقام في فصل الصيف من كل عام ، وهي غالبا ما تقام في محيط أضرحة يرقد بها من يوصفون بأولياء الله الصالحين ، ويكون الغرض منها الاستسقاء من أجل موسم فلاحي جيد . وبالرغم من أن الاستسقاء في ديننا له صلاة خاصة به يستغنى بها عن مثل هذه المواسم والوعدات ، فإن الناس عندنا يؤثرون العادة على العبادة ، الشيء الذي يوقع كثيرا من العوام في شرك لا ينتبهون إليه ، ولا ينبّههم إليه من تقع عليهم مسؤولية تسديد التبليغ .
ومما يحدث في مثل هذه المواسم أو الوعدات إقامة الولائم وإطعام الطعام ، وهو أمر محمود إذا كان الهدف من ورائه إطعام المحاويج ، ولم يكن حكرا على من استغنوا عنه ،بل هو مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويتوسل به إليه طلبا للسقيا إلا أن مما قد يفسده ، ويوقع في شرك عند العوام هو الحرص على نحر الأنعام في محيط أضرحة الأولياء ، الشيء الذي يجعلهم يعتقدون باطلا بأن لأصحاب هذه الأضرحة نصيب من التوجه يتوجهون به إليهم عوض الاقتصار على التوجه إلى الله تعالى وحده دون شركاء . وكثيرا ما يسمع من بعض هؤلاء العوام أنهم يربطون نزول الغيث بالتوسل إلى أصحاب تلك الأضرحة . ولو أن ما ينحر في محيط تلك الأضرحة من الأنعام ينحر في غيره، لكان ذلك احترازا من إيقاع أولئك العوام في مثل هذا الشرك الملتبس عليهم .
ومما يحدث في بعض تلك المواسم أو الوعدات أن تخالطها أنواع من اللهو واللعب كالفروسية، و بعض الألعالب ، وعزف الموسيقى، والغناء، والرقص ... فضلا عن أشكال مختلفة من الدجل ، والمؤسف أن يكون ذلك مصاحبا لتلاوة القرآن الكريم ،و لبعض الأذكار التي منها ما يخرج عما ورد في السنة النبوية الشريفة مما يبتدع ابتداعا ،ومن الأمداح ما يشاد فيه بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب تلك الأضرحة .
ولقد كان من الواجب على الجهة الوصية على الشأن الديني في بلادنا التي تبنت ما سمته بخطة تسديد التبيلغ أن تنبري لمثل هذه المواسم أو الوعدات عن طريق تجنيد علماء ، وخطباء، ووعاظ، ومرشدين يأخذون بأيدي الناس خصوصا العوام من الوقوع في شَرَك الشّرك وهم لا يعلمون أو لا يشعرون .
اللهم رد بنا إلى صراطك المستقيم ، واهدنا سبل السلام ، اللهم إنا نعوذ بك من الضلال ومن سوء المرد والمآل ، ونعوذ بك من سخطك ، ومن النار، ونبرأ إليك من أفعال السفهاء ، ربنا لا تؤاخذوا بما يفعلون .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1090