( تنزيل من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص )

حديث الجمعة :

من المعلوم أنه لا يصح إيمان بالله تعالى إلا بتوحيده التوحيد الخالص من كل شائبة شرك تشوبه . وقوام توحيده الخالص يكون إقرارا لا يخامره أدنى ريب بألوهيته، وربوبيته ، وخالقيته ، وبما سمى به ذاته المقدسة من أسماء حسنى ، وما وصفها به من صفات مثلى، تنزيها لا يخالطه تشبيبه بصفات المخلوقات، وهو الذي ليس كمثله شيء ، ويدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار .

ولقد تعبّد الله سبحانه وتعالى الخلق بدين الإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل بالرسالة العالمية الخاتمة للناس كافة إلى قيام الساعة ،وهو وحده الدين عنده لقوله تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام ))، والذي لا يقبل غيره دينا لقوله تعالى : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) . ولما كان هذا هو شأن الدين عنده سبحانه وتعالى ،وقوامه طاعته في كل ما أمر وما نهى ، اشترط فيها أن تكون خالصة له كخلوص توحيده ،لا تشوبها شوائب من شرك أو من رياء أو غيرهما .

ولقد خاطب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم  المبعوث للناس كافة بين يدي الساعة  ، ومن خلاله خاطبهم جميعا بقوله تعالى : (( تنزيل من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله  مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه مختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كَفَّار ))، ففي هذه الآيات الثلاث التي افتتحت بها سورة الزمر، أخبر الله تعالى بأن القرآن الكريم، وهو الرسالة الخاتمة إنما هو تنزيل من عنده  سبحانه وتعالى إلى العالمين ، وفي هذا نفي ودحض لكل تكذيب بتنزيلها من عنده ، وإفحام لكل مشكك في ذلك . ولقد ذيل هذا الإخبار بصفتين من صفاته المثلى وهما :العزيز والحكيم ، علما بأن صفة  العزة كما جاء في مؤلف الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى" المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى"  لا تتأتي إلا بمعان ثلاثة  ذلك أن العزيز يكون  خطيرا،ويقل وجوده ، ويصعب الوصول إليه . ومعلوم أن ما يميز صفات الله تعالى الكمال والجمال والجلال ،لهذا فعزته كاملة . وأما  صفة الحكمة، فهي معرفة  أفضل الأشياء بأفضل العلوم كما قال أبو حامد ، وهي المعرفة المطلقة الأزلية  التي اختص بها سبحانه وتعالى. ولقد ثنى الله تعالى بصفة الحكمة بعد صفة العزة ، لأن ما في عزة الله عز وجل من قوة، وخطورة، ومناعة يبعث على الخوف والوجل منها  في نفوس الخلق ، لهذا ساق  سبحانه بعدها صفة الحكمة الباعثة على الطمأنينة، وحكمته  جل في علاه مصاحبة لعزته لا تنفك عنها لطفا بالخلق . ويصف الله تعالى بعد ذلك بأن الكتاب المنزل من عنده  إنما هو كتاب حق لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويترتب عن هذا أن ما فيه واجب التصديق والعمل  به  لزوما ، لهذا جاء بعقب ذلك أمره تعالى نبي عليه الصلاة والسلام  ومن خلاله العباد بالعبادة، وهي  ممارسة دين الإسلام في شكل طاعة يطاع بها سبحانه وتعالى فيما أمر وما نهى  وبشرط الإخلاص في ذلك أي  تخصيصه سبحانه وتعالى بتلك العبادة أو الطاعة دون إشراك غيره معه فيها، بحيث لا  يمكن أن يطاع سبحانه  في أمر أمر به ومعه  طاعة غيره تلابسه  . و حتى لا يعترض معترض على هذا ،فلا بد هنا من التذكير بأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله عز وجل التي أقرها وأمر بها في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )) ، أما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلأنه هو من خّص بتبليغ الرسالة الخاتمة عن ربه عز وجل ، فلو أنه عُصي في أمر أمر به عليه الصلاة والسلام ، ولم يطع لكان ذلك تكذيبا برسالته . وهنا لا بد من الإشارة إلى الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين، والذين يدعون أنهم يقرون بصدق القرآن المنزل على الرسول الأعظم  ، و هم لا يقرون بصدق أقوال ،وأفعال ،وتقريرات  أو يشككون فيها، وهم بذلك يشهدون على أنفسهم بالتناقض الصارخ إذ يصدقون القرآن الكريم ، ويشككون أو يكذبون بالسنة النبوية المشرفة ، ويقيمون بذلك حجة على  تكذيبهم من يصدقونه في القرآن ويكذبونه فيما أوتي معه من حكمة . وأما طاعة أولي الأمر ،وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العلم ومعهم  ولاة الأمور، وقد يكون منهم من هم من أهل العلم أيضا يسوسون الناس بهدي الله تعالى، وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم عن علم بهما يعلمونه أو يأخذونه عن أهل العلم بهما. وليس في هذه الطاعة ما يمكن أن يُحمل على أنه نفي للإخلاص فيها ،لأنها مما أمر به الله عز وجل في كتاب أنزله  بالحق ، ودون طاعة ولاة الأمور شرط معلوم أو قيد يقيد طاعتهم ،وهو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .

و لقد بيّن الله تعالى بعد ذلك  معنى خلوص الدين له، حيث أشار إلى شائبة الشرك التي كان يقع فيه المشركون حين يدعون مع الله عز وجل شركاء ، ويبررون شركهم بأن هؤلاء الشركاء إنما اتخذوهم كذلك تزلفا أو تقربا إلى الله تعالى الذي لا يقبل زلفى ولا وسائط في عبادته وطاعته ، وحكى لنا قول هؤلاء المشركين الذين أوقعهم شركهم في الكفر بقوله : (( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار )) ، وعقب  سبحانه على قولهم  هذا بوصفهم بالكاذبين والكُفّار والضّالين ، وتوعدهم بحساب يحاسبون به  يوم العرض عليه ،وهو يوم يحكم بينهم في ما كان منهم من شرك هم وشركاؤهم على حد سواء .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله تعالى، وهو الرسالة الخاتمة الموجهة إلى  العالمين إلى قيام الساعة ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن كل ادعاء تزلف إلى الله عز وجل  من خلال شركاء يشمله حكم ما جاء في هذه الآيات من  وعيد  مهما كان نوع الشركاء أصناما أو أوثانا من حجر أو بشر... أو غير ذلك.  وعليه لا تصح ولا تقبل طاعة لله تعالى يدعو فيها أحد معه شركاء ، وهو يدّعي أنه يتزلف أو يتقرب بهم إليه .

والذين يدعون شركاء مع الله تعالى في عبادته صنفان : صنف يتذرع بذريعة التزلف بهم إليه كما كان حال مشركي مكة الذين عبدوا الأصنام ، وصنف يقع فيما يفسد عليه خلوص طاعته لله تعالى بسبب رياء أو غيره ، فينقض بذلك إخلاصه في الطاعة . ولقد استثنى أهل العلم من ذلك ما يخطر من خواطر للإنسان مما يوسوس به الشيطان،  وهو صادق النية في طاعة من الطاعات ، فإن ذلك لا يؤثر في إخلاصه العبادة لله، لأن تلك الخواطر مما لا تستطيع النفس البشرية دفعه، خصوصا وأن الشيطان قد سُلِّط على بني آدم، وهو مما ابتلاهم وامتحنهم به الله تعالى  في الحياة الدنيا، وهي دار ابتلاء  تعقبها دار جزاء.

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين مما حذر منه الله تعالى من فساد  يفسد إخلاصهم في عبادته من خلال إلباس طاعته بشرك لا يشعرون به أو ربما شعروا به وتعمدوه حين يقحمون في عبادتهم شركاء له ، ويزعمون أنهم إنما يتخذونهم زلفى إليه أو شفعاء لديه ، وذلك من خلال التوجه إليهم بدعاء لا يجب أن يُتوجه به إلا له عز وجل . وكثير من الناس يفسدون إخلاص عبادتهم بمثل هذا التوجه وهم يعتقدون جهلا أو تجاهلا قدرة غير الله تعالى من البشر في فعل ما اختص به سبحانه وتعالى وحده دون شركاء . وعليه فمن طلب من غير الله تعالى ما لا يُطلب إلا منه فقد زل به لسانه ، وأوقعه في المحظور. لهذا  يلزم المؤمنين الحذر الشديد من ذرائع التزلف إلى الله تعالى بالتوجه إلى غيره في العبادة والطاعة، والدعاء، والسؤال ،ذلك أن من دعا وقال : يا فلان أسألك كذا وكذا، فقد سأل مع الله عز وجل من لا يعطيه ، ولا ينفعه ولا يضره  .

ولقد اقتضى هذا التذكير ما تعرفه بلادنا من مواسم  تنسب لمن يسمون أولياء الله أعلم بهم ولا نزكيهم عليه  ، وهي مواسم  تحسب على الدين ، فتذبح فيها الذبائح عند أضرحة ، وتقام فيها الولائم  المصحوبة باللعب واللهو، ويستسقى بها الغيث ، ويرجى من ورائها الخصب والرزق مع أن كل ذلك من اختصاص الله عز وجل لا يُشرك معه فيها أحدا من خلقه مهما كانت درجة صلاحه الذي علمه عنده وحده سبحانه ، والذي لا يُزكى عليه أحد  .   

اللهم إنا نبرأ إليك من كل ما يفسد علينا إخلاصنا في عبادتك وطاعتك ، ونعوذ بك أن يقع منا شيء من ذلك  عمدا أو سهوا أو جهلا.

اللهم إنا نسألك أن تربط على قلوب إخواننا في فلسطين ، وتثبت أقدامهم ، وتسدد رميهم ، وتمدده بمددك الذي لا يغلب ولا يقهر  ، وتحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل للكافرين عليهم سبيلا ، وعجل لهم اللهم بفرج ونصر قريب غير بعيد من عندك تنصر وتعز به دينك ، وتذل به أعداء دينك حيثما وجدوا  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسوم: العدد 1096