( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )

حديث الجمعة :

يصنف الله تعالى  في محكم ذكره عباده إلى ثلاثة أصناف : صنف المؤمنين الظاهر إيمانهم  والصادق ، وصنف الكفار الظاهر كفرهم ، وصنف المنافقين الخفي كفرهم .وإذا كانت خطورة الكافرين البينة كراهيتهم للمؤمنين شديدة ، فأشد منها خطورة المنافقين عليهم ،لأنهم  يبدون لهم مودة كاذبة ،وولاء زائفا ، ويبطنون كراهية شديدة لهم.

ولقد جاء في الذكر الحكيم تفصيل لأحوال ضنف المنافقين زمن النبوة ، حيث كانوا خليطا من يهود ومن مشركي يثرب ، فضلا عن مشركين من قبائل أخرى .

ومن أحوال هؤلاء المنافقين ما أخبر به الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله أخبر كل عباده المؤمنين إلى قيام الساعة ، وذلك باعتبار الرسالة الخاتمة موجهة إلى العالمين  في قوله عز من قائل : (( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )) ، سورة البقرة، الآيات من 204 إلى 206، ففي هذه الآيات الثلاث اختصت الأولى بذكر ما يظهره المنافقون  للمؤمنين من ود وخير، وما يبطنوه لهم من شر كبير ، واختصت الثانية بذكر إفسادهم في الأرض ، بينما اختصت الثالثة بذكر عنادهم وإصرارهم على قبول النصح والوعظ ، وبذكر ما ادخر لهم الله تعالى من عذاب في الآخرة .

ولقد جاء في كتب التفسير أن هذه الآية نزلت في المنافق  الأخنس بن شريق الثقفي ، وكان ينتسب بالولاء  إلى بني زهرة من قريش، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ،وكان يظهر له المودة  الكاذبة ، ومن شدة عداوته للمؤمنين أحرق زروعهم، وقتل مواشيهم  ودوابهم كي يلحق بهم الأذى ، وقيل إنه فعل ذلك بقومه ثقيف . ومهما يكن  ضحاياه ، فهو غدّار ومفسد في الأرض .  وليس الأخنس المنافق الوحيد الذي غدر وأفسد، بل كُثْرٌ هم المنافقون الذي فعلوا مثل  فعله .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، لا يخصوص سببه ، فإن كل منافق يسعى في الأرض فسادا مهما كان نوعه إلى قيام الساعة، ينزل منزلة الأخنس وأمثاله من المنافقين المفسدين  في الأرض . 

 وبيان ما جاء من وصف الله تعالى للمنافقين في هذه الآيات الثلاث أنهم يخادعون المؤمنين وهم يتظاهرون أمامهم بصلاحهم،  وبإصلاحهم في الحياة الدنيا ، ويختارون لذلك  معسول الكلام يحسنون صياغته كي يثير الإعجاب بهم ، ومن ذلك الكلام التعبير عن مودتهم  الكاذبة للمؤمنين ، وفي المقابل يضمرون لهم أشد العداوة  والبغضاء، وفي هذا أشد الخطورة عليهم حين تعجبهم أقوالهم ، فينخدعون بها ، وهم في غفلة عن لَدَدِهم  أوشدة خصومتهم ، وهم في حقيقة أمرهم منافقون فاسدون ، ومفسدون  في الأرض  ليلحقون بالمؤمنين  بالناس أجمعين الأضرار في كل ما يملكون من زروع ، ومن أنعام ، ومن داوب ... غير ذلك مما تقوم به الحياة، وتستمر ،وتستقيم . ومما  جاء في تفسير قوله تعالى : (( وإذا تولى )) أنه إذا وَلِيَ أمرا أو مسؤوليبة في الأرض ، أفسد فيما وُليَّ عليه أو فيما أوكل إليه من مسؤولية. وقول الله تعالى تعقيبا على فساد المفسدين من المنافقين : (( والله لا يحب الفساد )) ، هو براءته سبحانه من أفعالهم ، وتعريض بشناعة فعلهم ،ووعيد، وتهديد منه لهم لكراهته سبحانه إتلاف ما  خلق ، وجعله قوام الحياة السوية .

ومن أحوال المنافقين المفسدين أنهم إذا انكشف فسادهم ، وُعظوا  بتركه والتخلي عنه ، ودعوا إلى الاقلاع عنه ، فيرفضون ذلك ، ويعاندون  وبصرون على التمادي في الإفساد  راكبين غرورهم ، معتزين بأنفسهم ، وبمكانتهم ، وهم يعتقدون أنه لا قدرة ولا سلطة لأحد عليهم  ، وبذلك ينكشف نفاقهم للمؤمنين الذين كانوا غافلين عن لَدَدِهم ، وقد فضحهم الله تعالى   من خلال رفضهم الوعظ والنصح ، مع الإصرار على مواصلة التمادي في إثم الإفساد ، وهو ما يبوءهم مهادا أو مضجعا  في جهنم، وهي حسبهم وساءت مصيرا .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما يضمره لهم كثير من منافقي هذا الزمان  من لَدَدِ الخصام ،ومن شدة العداوة ، وهم كُثْرٌ خفيةٌ عداوتهم ، ومغريةٌ أقوالهم المعسولة ، ومدسوسةٌ سمومها القاتلة ، ومصدقةٌ مودتهم الكاذبة عند المؤمنين ، وهم في غفلة عما يضمرون لهم من شر مستطير، وقد حالفوا أعداءهم الظاهرين كفعل أسلافهم  زمن النبوة .

وتتعدد في هذا الزمان طرائق وأساليب المنافقين لتضليل المؤمنين واستغفالهم ، ومنهم من يتولون مسؤوليات جسيمة لا يشعر المؤمنون بأدنى شك  فيما يدّعونه من صلاح ، بل من  المؤمنين من يرفعونهم إلى أعلى الدراجات ويخاصمون عنهم شديد الخصومة  كل من ينبههم إلى  كذب ما يدّعون ، ومن المؤمنين من يسارعون في الانتساب إلى  توجهاتهم العقدية والفكرية المريبة ،  وقد اقتنعوا بذلك قناعة راسخة وهم غافلون عما يضمرون لهم من شرور ، بل يحاكونهم في رفض النصح والوعظ  الفاضح لهم  ، وفي المكابرة  والإصرار على آثامهم البينة  الصارخة التي لا تخفى إلا على جُهَّال أو مُغفلين .

ولقد جاء في  الذكر الحكيم وصف هؤلاء المنافقين الذين لن يخلوَ  منهم زمان أو مكان إلى قيام الساعة ، وفيه ما يبشر المؤمنين بحتمية افتضاح أمرهم ، وذلك حين  يدعون إلى القطيعة مع الآثام والشرور والفساد ، فيبدون  العناد في الرفض والامتناع عن ذلك بإصرار . وحسب المؤمنين وعيا بفسادهم وإفسادهم أن ينتبهوا إلى  إصرارهم  على ترك المفاسد والآثام ، وهي كل ما نهى عنه الله تعالى في محكم تنزيله ، وكل ما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته أقوالا، وأفعالا، وتقريرات .

 وعلى المؤمنين أن يحذروا من الوقوع في النفاق عياذا بالله منه وهم لا يشعرون ، وذلك  من خلال إعجابهم بأقوال المنافقين المعسولة ،والمدسوس فيها سما زعافا.

اللهم  إني قد بلغت ، فاشهد .

اللهم إنا نعوذ بعزتك من  كل ما يقربنا من وبال النفاق ، ونعود بك أن نوالي  المنافقين المفسدين في الأرض والحاقدين على عبادك المؤمنين ، ونحن غافلون. اللهم نبهنا من كل غفلة تعترينا ، وتجعلنا صيدا لِشَرَك المنافقين الموالين لأعداء دينك من الكافرين  والمتآمرن معهم على عبادك المؤمنين . اللهم الطف بأمة الإسلام لطفا يوقظها من سبات طال بها ، ومن غفلة استحكمت بها  ، فحذت حذو من  يعاديها من الكافرين والمنافقين  شبرا بشبر، ودخلت جحور الضباب وراءهم، وهم يتربصون بها الدوائر.

اللهم إن لك عبادا في أرض الإسراء والمعراج، يذودون عن حمى مسرى نبيك الكريم عليه الصلاة والسلام بقلة عدد، و قلة عتاد، و هم تحت حصار خانق ضربه عليهم عدو شرس  ، وحرمهم الطعام والشراب والدواء ، وقتّلهم تقتيلا ، وأنت أعلم بحالهم  يا رب العالمين ، اللهم اربط على قلوبهم ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك الذي لا يغلب ولا يقهر ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل  اللهم لأعدائهم الظاهر منهم والخفي عليهم سبيلا . اللهم نبههم إلى  كل مكر يمكره أعداؤهم ما ظهر منه وما خفي ،وأنت سبحانك حسبهم  ونعم الوةكيل ، ووليهم وناصرهم ، وعليك المعول بدءا وانتهاء ، ولك الحمد في الأولى والآخرة . اللهم ارحم شهداءهم ، وشافي وعافى جرحاهم ، ومرضاهم ، واطعمهم واسقهم يا جواد يا كريم ، وسخر لهم من عبادك المؤمنين من يشفقون عليهم ، ورقق اللهم لهم القلوب القاسية من المحسوبين على الإسلام الذين خذلوهم ، واخذل اللهم من خذلهم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

وسوم: العدد 1097