النداء السادس والستون
قُولُوا قَوْلا سَدِيدًا
رضوان سلمان حمدان
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } الأحزاب70
مدخل
الأمر من الله للمؤمنين بالقول السديد يدخل في عموم الأمر بالتقوى، ولكن الله سبحانه خصَّ القول السديد بالأمر به زيادةَ عناية بتقويم الأقوال، واستقامة اللسان، فالعطف من باب ذكر الخاص بعد العام؛ لتمام العناية بالقول السديد.
وكما دلَّت هذه الآية بمنطوقها على الأمر بالقول السديد؛ فقد دلَّت بمفهومها على تحريم الأقوال الباطلة المحرَّمة أو المكروهة، وجاءت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله تنهى بمنطوقها عن أقوال الباطل والأقوال المحرَّمة، وتوجِب حفظَ اللسان والقلم من كلِّ قولٍ محرَّم.
عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِرْوَةِ سَنَامِه"، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سَنَامِه الجهاد"، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟"؛ قلتُ: بلى يا رسول الله. قال: فأخذ بلسانه، قال: "كُفَّ عليك هذا". قلتُ: يا نبي الله، وإنَّا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟! قال: "ثَكِلَتْكَ أمُّكَ، وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم - أو على مناخِرهم - إلا حصائد ألسنتهم!!"[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال: “إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة، ما يتبيَّن ما فيها - يذلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب” [2].
وعن أبي هريرة أيضًا، عن النبي - قال: “إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة، لا يرى بها بأسًا - يهوي بها سبعين خريفًا في النار”[3].
ومما نهى الله عنه: قول الزُّور؛ قال عز وجل: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : “ألا أخبركم بأكبر الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور” فما زال يكررها؛ حتى قلنا: ليته سكت[4].
ومما نهى الله عنه: لَبْسُ الحقِّ بالباطل؛ لتزيين الباطل ومدحه، وتحبيبه إلى النفوس، أو التنفير من الحق وخذلانه وذمِّه، والنيل منه أو من أهله؛ قال تعالى عن أهل الكتاب أيضًا: ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 71]، والنهي نهيٌ لنا؛ لأننا نُهينا أن نتشبَّه بهم.
وإذا اقترن باللَّبْس سوء نيَّة المتكلِّم؛ فقد عظم العقاب، ووقع الفساد؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وأنفع شيءٍ للإنسان: بيان الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال.
ومما نهى الله عنه: الغيبة والنميمة، وفي الحديث: “لا يدخل الجنة قتَّات”؛ أي: نمام، والشتم والاستهزاء والسخرية والكذب من الكبائر، ومن آفات اللسان، فامتثال الأمر في القول السديد لا يكون إلا بفعله، وبترك ما يضادّه من الأقوال الباطلة. فيا مَنِ اتقى الله وقال قولاً سديدًا، أبشر بأعظم الثواب والأمن من العقاب، فالربُّ لا يخلِف الميعاد، ولا يظلم مثقال ذَرَّة، وقد بشَّر ربنا على التقوى والقول السديد بصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70 – 71[
أرأيتم
التأمين على الحياة، والتأمين على التجارة، والتأمين على المؤسسات! تقوى الله
والقول السديد هو الذي يؤمِّن الله به مستقبل الإنسان، هو الذي يحفظ الله به العبد
في تقلُّباته وأموره كلها، هو الذي يُصلِح الله به الدنيا والآخرة، هو الذي يُزكِّي
الله به الأعمال، ويبارك فيها ويحفظها.
ومَرَدُّ هذا الإصلاح والثواب ومغفرة
الذنوب وحسن الرعاية من الله: أن الله تعالى أخبر أنه مع المتقين، ﴿وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].
المعاني المفردة[5]
قَوْلاً سَدِيداً: صواباً. والقول السديد: القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق، من قولهم: سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمىّ ولم يعدل به عن سمته. مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
الإعراب[6]
اتقوا اللّه فعل أمر وفاعل ومفعوله وقولوا فعل أمر وفاعل وقولا مفعول مطلق وسديدا نعت.
مناسبة الآية في السياق
بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول اللّه بقول أو فعل، أرشدهم إلى ما ينبغى أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سبباً في الفوز والنجاة في الدار الآخرة، والقرب من اللّه سبحانه والحظوة إليه.
في ظلال النداء
يوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه ؛ ومعرفة هدفه واتجاهه ، قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه ؛ وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث . ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح . فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد . والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون . ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير .
{ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } . .
والطاعة بذاتها فوز عظيم . فهي استقامة على نهج الله . والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة . والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته ، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه . وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم ، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم . أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة . فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل . والله يرزق من يشاء بغير حساب .
هداية وتدبر[7]
1. يا أيها الذين آمنوا خافوا عقاب الله إذا عصيتموه، وقولوا قولا مستقيماً لا اعوجاج فيه.
2. هذه هى صفات المؤمنين حقّا ، وذلك هو منطقهم، وتلك هى سبيلهم .. إنهم على إيمان وثيق باللّه ، قد امتلأت قلوبهم بتقواه ، وخشيته ، فلا يقولون زوراً ، ولا ينطقون بهتاناً ، وإنما قولهم الحق ، ومنطقهم الصدق . . وبهذا يصلح اللّه أعمالهم ، ويتقبلها منهم ، ويغفر لهم ذنونهم . . وهذا لا يكون إلا لمن أطاع اللّه ورسوله: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ . . إذ إنه لا فوز أعظم من النجاة من عذاب اللّه ، والفوز بدخول الجنة : ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾]آل عمران185[.
3. أمر سبحانه المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال ، والخير فى الأفعال ، وبذلك يكونون قد اتقوا اللّه وخافوا عقابه ، ثم وعدهم على ذلك بأمرين : 1- إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل ، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالداً فيها أبدا. 2- ومغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.
4. القول السديد هو لا إله إلا الله وهو القصد الحق ، وهو الذي يوافق ظاهره باطنه ، وهو ما أريد به وجه الله دون سواه وقيل : هو الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض والقول السديد الصائب يعم الخيرات فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك.
5. أوجب اللّه تعالى الخير في الأفعال أو التقوى ، والصدق في الأقوال وهو ما يقابل الأذى المنهي عنه بالنسبة للرسول والمؤمنين . ووعد اللّه تعالى أنه يجازي على القول السديد ، وتقوى اللّه بإصلاح الأعمال (أي قبولها وجعلها صالحة لا فاسدة بتوفيقهم إليها) وغفران الذنوب ، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة . ومن يطع اللّه ورسوله فيما أمر به ونهى عنه ، فقد نجا من النار وفاز بالجنة ، أو وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.
[1] . رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، من حديثٍ طويلٍ.
[2] . رواه البخاري ومسلم.
[3] . رواه الترمذي.
[4] . رواه البخاري ومسلم.
[5]. تفسير الجلالين - المحلي والسيوطي. تفسير المراغي/ أحمد مصطفى المراغى.
[6] . إعراب القرآن وبيانه/ محي الدين درويش.
[7] . تفسير المنتخب/ لجنة من علماء الأزهر. تفسير المراغي/ أحمد مصطفى المراغى. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري. التفسير القرآني للقرآن/ الدكتور عبد الكريم الخطيب. الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي. التفسير المنير/ الزحيلي.