ذكريات الحج الأكبر

هايل عبد المولى طشطوش

[email protected]

عندما أرى قوافل الحجيج وقد شدها الحنين إلى بيت الله الحرام ،تهفو نفوس الراكبين والماشين وكل  الراحلين فيها  إلى حيث القداسة والطهارة ونقاء الروح إلى حيث الديار المقدسة ،وقد اشرأبت أعناقهم يتوقون إلى لقاء الله وقد وفدوا إليه من كل فج عميق  لأداء الطاعات وتقديم القربات ،عند كل ذلك تعود بي الذكرى إلى أيام قد مضت وكنت فيها احد الوافدين إلى الله في موسم الحج الأكبر ، عندها  تتأجج الكلمات في أعماق ذاتي فأسجل عند كل موقف ومشهد وببساطة التعبير اكتب فأقول:

تقودنا المراكب في أوقات من الزمن وبنفوس مشاقه ألى تلك الديار المقدسة حيث صفاء النفس وطهارة الروح ومناجاة ألاحبة وتنسم عبق التاريخ والأمجاد تقودنا الخطى في رحلات الحج والعمره إلى بيت الله العتيق لنلقي بأحمالنا التي أثقلت الكواهل ونعود ألى طهر الروح وصفاء النفس ، فما أن تحط بك الرحال في تلك الديار اليثربيه لزيارة خير البشرية تهتز منك مشاعرا" ليست كالمشاعر ،وتتحرك في نفسك أحاسيسا" ليست كالأحاسيس، وتجول في خاطرك أفكارا" لم تخطر ببالك من قبل ، أنوار نبوية وروائح أيمانيه يختلط فيها عبق النبوة مع التاريخ ليشكل أمامك قدسيه لم تألفها من قبل ولم تشاهدها ناظريك ، تقودك الخطوات الخاشعة ألى حيث مقام النبوة المقدس ، أمام ذلك القبر الخالد الذي ضم بين جنباته اشرف خلق الله ، فتنسكب منك العبرات وتخرج منك الكلمات لعلها تعبر عن جزء من جلال الموقف وهيبته ، فالتاريخ  والنبوة هنا يختلطان بلوحة فيها من القداسة ما فيها .

في أفياء طيبة الطيبة تبحر النفس في أجواء عامرة بالإيمان والطهر والنقاء ، فتخرج من روتين حياتك وضجرها ويرتاح الجسد المتعب ويرتمي في أحضان النبوة العظيمة مستذكرا" أهل البقيع بفاتحة الكتاب ودعوة من قلب صادق.

وبعد أيام ليست بالطويلة يشدك الحنين ألى ذلك البلد الآمين ، فهناك الموعد المقدس مع التاريخ الأول والدين العظيم ،تقودك الركائب ألى مكة المكرمة ، وما أن تطالعك أبياتها العتيقة حتى لتشتم منها رائحة الإيمان ، مخترقا" أذنيك صوت الآذان الرخيم ، فكأنك تنظر ألى بلال ابن رباح يعلو الكعبة مرددا" ذلك النداء الخالد ، الله اكبر الله اكبر ......، فتستشعر في هذا المكان ملائكة الرحمن وهم يبنون كعبة الله المشرفة ، وكأنك ترى إبراهيم الخليل يرفع قواعد البيت العتيق فتصيبك الرهبة ويدهشك جلال الموقف وأنت تنظر بجلال وخشوع ألى علو الكعبة وارتفاعها فتحس أنها تطاول السماء بجلال وقداسة ،فتهفو نفسك ألى زمزم فيخال إليك أنها تنبجس من بين أصابع إسماعيل أبن هاجر فتنسكب في جوفك مطفئة كل ما يختلج النفس من شرور الدنيا وهمومها ، ثم تهوي نفسك ألى الصفا لكي تصفو بها الروح فتهرول بها مرورا ألى المروة مستذكرا" كيف ضاقت الدنيا بهاجر وهجرتها هي وأبنها وزوجها ألى الله طالبين النجاة والغفران .

وتمضي بك الأيام سريعة الخطى ألى عرفات الله وما أدراك ما عرفات أنها سحائب الرحمة والغفران يتنزل بها الملك الديان فينشرها رحمات كثيرات تظل عبادة التائبين الخاشعين جأءوة شعثا" غبرا قد أضناهم التعب وهدهم الرحيل ولكنهم يرجون ربا" ليس ببخيل ، .... وتراق دماء القرابين في يوم عيد ليس كمثله عيد ،  أنها فرحة التائبين الطاهرين أجسادهم ونفوسهم عادت نظيفة من الادناس كما يخرج من أحشاء أمة الجنين .

ويسترعيك في تلك الديار المعمورة أنها مقصد الناس أجمعين من كل بقاع الدنيا يحجون أليها ويطوفون ببيتها العتيق تلك الياقوتة الإلهية ، أبوابها من الزمرد الأخضر حجرها من حجارة الجنة التي أعدها الله للطائفين والعاكفين والركع السجود ، أنة أول بيت ووضع للناس في صحراء قفراء بين جبال سوداء جرداء صلداء صماء في ارض قاسية ليس فيها شجر ولا ماء لتكون عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .    

إنها ذكريات الركب المقدس الذي حملني إلى تلك الديار العظيمة ، إلى حيث ترى مالا كنت تتوقع أن تراه  في حياتك ،إنها راحة الروح والجسد وترنيمه الخلود التي تجعل النفس مطمئنه ،انه صفاء ما بعده صفاء وقداسه ما بعدها قداسه ، فهنيئا للطائفين والعاكفين والركع السجود في رحاب بيت الله العتيق حيث موضع أقدام إبراهيم الخليل تربط الحاضر بالماضي لتعلن أن تاريخ هذة ألامه موصول بالقداسة والاصالة والخلود.... ليعلن أن الدنيا ها هنا.... وان حضارتنا خالدة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .