عشر ذي الحجة رؤية حضارية
وائل بن إبراهيم بركات
عشر أيام تأتي في شهر عظيم مبارك شهر ذي الحجة ، وهو من الأشهر الحرم التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بعدم الظلم ، بكافة أنواعه وأشكاله قال تعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (التوبة : 36)
وأنواع الظلم ظلم الإنسان لربه وذلك بكفره أو شركه { إن الشرك لظلم عظيم } (لقمان : 13)
وظلم الإنسان لنفسه ، بالشرك والمعاصي ، فكل معصية هي ظلم من الإنسان لنفسه صغيرة أو كبيرة .
وظلم الإنسان لغيره لوالديه ، لزوجته ، لأولاده ، لجيرانه ، لأصحابه ، لعمّاله ، للمسلمين والمسلمات ولمن كان معاهدا ، وذلك بهضم واخذ حقوقهم أو اعراضهم أو دمائهم أو أموالهم ..
إنها عشر أيام مباركات اقسم الله سبحانه وتعالى بها في القرآن الكريم فقال تعالي:{ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } (الفجر : 1-2) ولا يقسم الله تعالي بشيء إلا لشرفه أو فضله ، والليالي العشر كما فسرها المفسرون هي ليال عشر ذي الحجة ..
وأسماها الله سبحانه في كتابه الكريم بالأيام المعلومات فقال تعالى { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج : 28).. وفسرها جمهور العلماء : هي أيام عشر الحجة..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه"؟ قالوا: ولا الجهاد، قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء " (البخاري : 969)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " ( احمد في المسند 14/9 ، وقال احمد شاكر إسناده صحيح )
إنها عشر ذي الحجة تجتمع فيها أمهات العبادة ولا تجتمع في غيرها : الصلاة والصيام والصدقة والحج ، وهذا التنوع في العبادات هو تنوع للتزود بالطاعة حسب الاستطاعة ، فيعيش الإنسان متوازنا بين متطلبات روحه ومتطلبات جسده .. ويعيش ضمن وحدة بشرية معنوية وحسية وليس بمعزل عن احد ..
هو تنوع يطرد الملل ، ويجدد النشاط ، وتعيش الروح في أشواقها واشراقاتها ، ويأخذ الجسم متطلباته من النشاط والحيوية .
ولذا على الإنسان أن يستقبل هذا التنوع في العبادات ، وهذا الموسم المبارك ، وهذه الأيام الفضيلة بالتوبة والإنابة إلى الله ، واجتناب الظلم ، واغتنام كل دقيقة بما يرضي الله سبحانه وتعالى .
وهذه العشر نهج حياة لكافة أبناء الأمة الإسلامية فهي ليست مختصة بالحاج ، بل من كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل فضلها يعم الحاج وغير الحاج .. أين ما كان .. ففضلها ليس مرتبط بمكان محدد .. وإنما بوقت محدد ..
وفضلها ليس مرتبط بفئة معينة وإنما لكل الأمة الإسلامية ، حيث تتزود خلال هذه الأيام العشر بالتقوى { وتزودا فإن خير الزاد التقوى } ( البقرة :197) وتتزود بالوحدة " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " ( آل عمران :103) وبالتالي نحافظ على طهارة النفس ونقاء الضمير وسلامة القلب من المعاصي والكدر . ونحافظ على بناء المجتمع وتماسكه من الداخل والخارج ، وننشر الحب والسلام والتعاون في أسمى معانيه ..
ومن أفضل الأعمال في هذه العشر أداء الركن الخامس من أركان الإسلام فريضة الحج لمن استطاع إليه سبيلا " العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارَةٌ لمَا بينَهمَا ، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةُ " (البخاري : 1773) ومسلم (1349)
والحج تتجلى فيه أبهى صورة لوحدة الأمة الإسلامية فلا تمييز ولا عنصرية ، وإنما صدق في المشاعر ، وصدق في وحدة الهدف ، وصدق في أداء الشعيرة ، لباس واحد ، وتلبية واحدة ، وتوجه إلى اله واحد لا شريك له ، وغاية واحدة ألا وهي عبادة الله وحده { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء : 92) ..
وغير الحاج يتفاعل مع هذه الشعيرة وتتوحد مشاعره مع مشاعر إخوانه الحجاج ، وهذا هو أساس الوحدة والاعتصام التي أمرنا الله بها ، الوحدة الداخلية عقيدة وإيمانا ونفسية وأخوية لتبني وتدعم هذه الوحدة الداخلية الوحدة الخارجية تعليما واقتصاديا وسياسيا وعسكريا .. مما يجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسد إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى " ( مسلم : 2586)
ومن أنواع العمل في هذه العشر الصلاة والصدقة والقيام والصيام والعمل الصالح وغيرها من أبواب الخير المفتوحة ..
الصلاة : بالمحافظة على وقتها وفي جماعة ، والإكثار من النوافل فعن ثوبان رضي الله عنه أنه قال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " عليك بكثرة السجود لله ، فإنّك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً ، وحطَّ عنك بها خطيئةً " (مسلم : 1093)
الصيام سواء صيام العشر أو ما تيسر منها أو يوم عرفة قال الله تعالى في الحديث القدسي " الصومُ لي وأنا أَجزي به ، يدَعُ شهوتَه وأكلَه وشُربَه من أجلي ، والصومُ جُنَّةٌ ، وللصائم فرحتانِ : فرحةٌ حين يفطِرُ ، وفرحةٌ حين يَلْقَى ربَّه ، ولخُلوفُ فَمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ من رِيحِ المسكِ " ( البخاري : 7492) مسلم (1151)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صيامُ يومِ عرفةَ ، أَحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه ، والسنةَ التي بعده " (مسلم : 1162)
ذكر الله : قال تعالى { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } (الحج : 28) وقال تعالى { ولتكبروا الله على ما هداكم } (البقرة : 185) ولحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد ، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يخرجون إلى الأسواق والطرق فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم ..
الدعاء : وخاصة يوم عرفة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيين من قبلي، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" الترمذي(3585) وحسنه الألباني .
الصدقة بأنواعها المختلفة المادية والمعنوية : ومن الخطأ حصر مفهوم الصدقة في بذل المال فقط وإخراج النقود للفقراء والمساكين ، بل مفهوم الصدقة أوسع واشمل من ذلك فمنها ما يكون بالنية ، ومنها ما يكون بالقول ، ومنها يما يكون بالفعل ، قال تعالى { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } (الحديد : 11) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " على كل مسلم صدقة "قالوا : فإن لم يجد ؟ قال : فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق . قالوا : فإن لم يستطع أو لم يفعل ؟ قال : فيعين ذا الحاجة الملهوف . قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليأمر بالخير ، أو قال : بالمعروف . قال : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر فإنه له صدقة " (البخاري : 6022)
"وتبسمك في وجه أخيك صدقة "
"حتى اللقمة تضعها في امرأتك لك فيها أجر" ولك فيها صدقة ، فأبواب الصدقة واسع ..
العمل الصالح : مفهوم شامل وواسع يشمل أعمال القلوب والجوارح والظاهر والباطن من المقاصد والأقوال والأعمال ، ومن الأعمال الصالحة ما يمتد إلى ما بعد الممات من الصدقة والذرية الصالحة والعلم .
وبالتالي لا ينحصر العمل الصالح عند الشعائر التعبدية ، وإنما تشمل كل ما يفعله الإنسان في الدنيا من الأقوال والأعمال البدنية والقلبية واللسانية والمالية إذا نوى بها النية الصالحة { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } (الأنعام : 162)
فالصلاة والصيام والزكاة والحج عمل صالح ، والجهاد في سبيل الله ، والعلم تعلمه وتعليمه ونشره ، وعيادة المريض وإتباع الجنائز ، وتفقد الجار والسؤال عنهم ، وقضاء حوائج الناس ومساعدتهم ، والإصلاح بين الناس كلها من الأعمال الصالحة .
والدعاء والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبناء المساجد ، وإنشاء المدارس والمستشفيات ، وإشادة المصانع ، من الأعمال الصالحة .
ومداواة المرضى والاعتناء بالجرحى ومواساة الفقير ، ومساعدة المسكين ، وكفالة اليتيم وانظار المعسر وإرشاد الضال وإماطة الأذى عن الطريق من الأعمال الصالحة .
إطعام الطيور والحيوانات ووضعها في الظل ، وزرع الأشجار وسقاية النباتات من الأعمال الصالحة ..
الحب في الله والبغض في الله وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والرضا والخوف والتوكل والخشية والرجاء والصبر كلها أعمال صالحة ..
العمل الصالح لا يعرف الغلو ولا التطرف ولا الإفراط ولا التنطع ، وكذلك لا يعرف التساهل ولا التفريط ولا التجزئة ولا لعلمانية
وبهذا المفهوم الشامل الواسع للعمل الصالح نية وقولا وعملا انتشر الإسلام ، وشيدت الحضارة الإنسانية ، والتي على أكتافها قام الغرب من نومته ، واستنار بنورها ..
إن عشر ذي الحجة بتنوع العبادات التي فيها هي رسالة حضارية لهذه الأمة رسالة توازن بين الروح والجسد ، رسالة تذكير أن قوة الأمة الإسلامية في تلاحمها واصطفافها ووحدتها ، رسالة تذكير بحمل راية الإسلام لكل البشرية التي تشاهد مناسك الحج وعلى الهواء مباشرة { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }( آل عمران :110).