النفس البشرية في تقريب القرآن الى الأذهان
د. حازم فاضل البارز
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
النفس موجودة في مختلف المخلوقات وهي التي تولد وتموت وتنتابها الغرائز كالجوع والجنس وهي التي تمرض وتتعذب وتتألم، فأداة النفس هو الجسد الذي تتحكم به وتسيطر عليه، فهي ذلك الشيء الخفي، غير القابل للظهور والإعلان والذي به تحيا الكائنات والمخلوقات بمختلف الانواع ومنها الانسان، والتي بسحبها تموت وتفنى.
ترتبط النفس بالسلبيات والمفاهيم الرديئة، فهي ميالة دائماً لإشباع غرائزها، ولكن الانسان صاحب الارادة هو الذي يتحكم بها ويسيطر عليها، فترقى هذه النفس وتتهذب ويصبح الانسان قادراً على اداء الوظيفة التي خلق لأجلها، وتقوى علاقته مع باقي المخلوقات وينتشر الحب وفعل الخير بين الناس، وتحقق غاية الله في خلقه وتعمر الارض، أما النفوس المريضة فهي التي تدمر البشرية وتعيث الخراب في الارض، وهي أيضاً: جزء غير مادي من الانسان، إنها ذلك الجزء يبقى الى الابد بعد موت جسد الإنسان، فهي مركزية بالنسبة لشخصية الانسان، فكل إنسان تقابله نفس خالدة، وكل إنسان عاش يوماً على وجه الارض كان له نفس، وكل هذه النفوس ما زالت موجودة في مكان ما[1].
ولابد أن نفرق بين النفس والروح، فالنفس موجودة في جميع المخلوقات وهي التي تمثل المادية والوجود الموضوعي للمخلوقات وهي التي تتألم وتأكل وتموت وتفكر وتشرب وتنام وترتاح وتمرض وتموت، أما الروح فهي خاصة للإنسان وهي سر الهي، وهي تنسب لله أيضاً مما يزيدها ويزيد الإنسان رفعة وتشريفاً بهذا الانتساب، فالروح هي المعرفة والجمال والاحساس وهي التي تعطي البشر القدرة على التميز والخلافة في الارض والتفكير في الماورائيات وإنتاج العلوم والافكار والمذاهب والاختلاف.
وتنوعت تقسيمات النفس وأنواعها بين الفلاسفة والمذاهب الفكرية والفلسفية والأديان، ومنها تقسيم القرآن الكريم للنفس الى ثلاثة انواع وهي النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمّارة بالسوء، فالنفس المطمئنة هي النفس التي رضيت بما لحق بها من مصائب، فهي تشكر الله على كل شيء، فلا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول الى الاجرام والخيانة على الرغم من ثقل وهول ما ألمّ بها، وهي النفس التي يحبها الله تعالى وهي التي تنال القبول بين الناس ويرتاح الجميع إليها ولا يمكن اكتسابها بسهولة بل تحتاج الى بذل الغالي والنفيس في سبيل الوصول إليها، أما النفس اللوامة فهي النفس التي لا تمل من مداومة حساب صاحبها على ما فعله من مصائب وجرائم وغيرها، فتستطيع إرشاد صاحبها الى الطريق القويم بعد ضلاله وبعده عنه، أما النفس الأمارة بالسوء فهي النفس الرديئة التي لا تهتم بالأخلاقي أو المنهي عنه وهي التي توقع صاحبها في الرذائل والمصائب والبعد عن الله عز وجل [2].
ولقد كان كشف اللثام عن النفس البشرية يمثل لغزاً محيراً، فلم نكن ندرك الوظائف الحقيقية لها، أو ماهيتها، وكيفية أدائها لتلك الامور المعقدة من الناحية العلمية، ومع التقدم الذي شهدته الدراسات النفسية بدأنا نتعرف على النفس أكثر، وعلى وظائفها ودورها الحيوي، وقد اهتمت الدراسات النفسية بداية بدور النفس في فهم علاقات الشعور والاستجابة نحو المؤثرات الخارجية، وكان السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه:
هل يتم الاحساس مع فقدان الشعور؟
هل يتداخل الشعور مع الاحساس؟
من المسؤول عن اختيار التعامل مع المؤثر الخارجي النفس أم الجهاز العصبي؟
إن التحكم في الاداء الشعوري، والاختيار التعاملي مع المؤثرات البيئية والداخلية يكون مصدره النفس، وذلك من خلال معلومات موجودة ببؤرة الشعور، يتم على أثرها اتخاذ موقف تجاه الاحداث، وتختلف القدرة على اتخاذ هذا القرار من شخص لآخر طبقاً لكمية المعلومات الموجودة ببؤرة الشعور، وسرعة الربط بين المؤثر والمعلومات الموجودة أصلاً، ويدخل ضمن الاعتبارات الهامة في هذه اللحظة مدى كفاءة الجهاز العصبي، ويمكننا من خلال ذلك ان نربط علاقة النواحي النفسية بأداء الجهاز العصبي والحواس المختلفة من خلال الاداء التكاملي البديع، فالخلايا العصبية مسؤولة عن نقل المؤثر وتفسيره وفهمه وإدراكه والاستجابة له بناءً على المعلومات النفسية المحفورة في بؤرة الشعور[3].
وهذا ما أكده آية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيراي (قدس سره) في كتابه تقريب القرآن الى الاذهان من خلال تفسيره لسورة الشمس بقوله تعالى: ((ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها))[4].
(ونفس) أي قسماً بكل نفس، والاتيان بها نكرة للتفنن والبلاغة (وما سوّاها) أي الذي صنعها، وكون (ما) موصولة – هنا – اقرب، بقرينة الآية التالية (فالهمها) اي عرفها بطريق الالقاء في القلب (فجورها) أي عصيانها (وتقواها) أي إطاعتها، فان كل انسان يميز بين الخير والشر والطاعة والعصيان، وهذه الاقسام في هذه السورة وغيرها إنما تلفت الأنظار إلى هذه الآيات والمعارف، بالإضافة الى كونها حلفاً، فلا يقال: اية حاجة لهذه الأيمان[5]؟
كذلك الآية الكريمة تعطي مؤشراً على ان للنفس القدرة على الاختيار بين العديد من بدائل الصواب والخطأ، وهذا من منطلق الالهام الذي منحه لها الله في صورة معلومات تمكن الانسان من الحكم على طبيعة الامور، وفي الآية نفسها يذكر عز وجل أن النفس تمت لها عملية تسوية، والتسوية في هذه الحالة تعني إعطائها القدرة على الاختيار وعدم اجبارها في ذلك، وهي بذلك حرة في اختيار ما تريد[6].
وقوله تعالى أيضاً: ((وما أبرئ نفسي إنَ النفس لأمارة بالسوء))[7]، حيث يرى (قدس سره) في كتابه تقريب القران الى الاذهان: (وما أبرئ نفسي) إن كان هذا من كلام يوسف (عليه السلام)، كان المراد منه التواضع أي اني لا انزه نفسي فإن ما صدر مني من العصمة اما كان بحفظ الله سبحانه، فلا اريد تزكية نفسي، والعجب من عملي وطهارتي، كما يقول احدنا – إذا قيل له انت فعلت كذا: أنا لم افعل إنما وفقني الله سبحانه، قال سبحانه:((ومَا رميت ولكن الله رمى))[8]، وإن كان من كلام زليخا – تتمة لقولها: لم أخنه – كان المراد اني وإن اعترفت حالاً، وقلت (لم أخنه) لكن انما كان لا أنزه نفسي عن الخيانة، فقد خنت يوسف في الصاق التهمة به، والقائه في السجن (ان النفس لأمارة بالسوء) أي كثيرة الأمر بالسوء والذنب[9].
ويرى آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): إن من ربّى نفسه صلحت آخرته ودنياه، لأن مشاكل الدنيا ليست بيد الانسان، كما في قوله تعالى: ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة))[10]، إلا أن آلية التعامل معها تعتبر من صميم إرادة الانسان وعليه فليتذكر الانسان أن كل بلاء ينزل عليه في الخير او الشر إنما هو بقضاء من الله وقدره، وإذا ما عرف الانسان هذا عندها يهون البلاء ويخف، فيشعر بالسعادة وينجح في الاختبار، فتصلح آخرته ودنياه معاً، فنحتاج أن نربي أنفسنا لبلوغ درجة الرضا بقضاء الله عز وجل، فلا نقول أو نفعل ما يسخط الله نتيجة التأثر والانفعال لما قد يصيبنا، بل علينا أن نذكّر أنفسنا دائماً بأنّ ما من خير نناله فهومن الله تعالى، بمعنى أنه أمانة عندنا، لابد أن نفارقها يوماً ما، فلا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما آتانا[11].
فالآية الكريمة تذكر بوضوح تحكم النفس في الاختيار – من خلال أمرها بالسوء – وهي إحدى الصفات الاساسية للنفس، وقوله تعالى أيضاً: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة))، حيث يرى آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في هذه الآية (ولا أقسم بالنفس اللوامة) وهي النفس اليقظة التي تلوم صاحبها عن التقصير في خدمة الله سبحانه، وإن كان الانسان في ارقى درجات الطاعة، وفي ضوء ذلك أيضاً يرى آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، إن ترويض النفس هي اساس التغيير من خلال حرص الانسان على تقوية علاقته مع المجتمع، وذلك عبر الالتزام بالأخلاق الاسلامية كالتواضع والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم، إن هذه القيم معروفة للجميع وموجودة في المجتمع المتدين بنسب متفاوتة، لكن المطلوب تعميقها وترسيخها والاستزادة منها فمثلاً: حاول أن تخالف هواك في كل الامور، فإن كنت لا ترغب في أمر ما رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له بكل رحابة صدر، وإن كنت مختلفاً مع صديقك وواجداً عليه، حاول أن تصله بزيارة أو بالقاء التحية عليه كلما لقيته، ولا تبتئس إن لم يقابلك بالمثل ما دمت قد أديت ما عليك، فإن كنت تريد أن تصبح عالماً ومرشداً ينبغي أن تكون قدوة في الخُلق من حلم وكظم غيظ وما شابه، لا أن تثور بسرعة أو تتوتر أعصابك لأتفه الاسباب، تصرف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهمك بعد ذلك إن كان قد استفاد الاخرون منك ومن تعاملك معهم أم لا، فان الله تعالى يقول: ((يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لايضركم من ضل اذا اهتديتم))[12] ولا توجد عبارة اكثر صراحة من هذه الآية في لزوم ترويض النفس على الاخلاق الحميدة فان كلمة – عليكم – اسم فعل بمعنى (الزموا) فان بدأت بنفسك فربما اهتدى العشرات باسلوبك [13] فلوم النفس ايضا تمثل احد مظاهر التحكم في الاختيار بين بدائل متعددة.
وقال تعالى: ((فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فاصبح من الخاسرين)) [14]
حيث يرى اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في هذه الاية: (فطوعت) اي شجعت (له) اي لقابيل (نفسه قتل اخيه) هابيل (فقتله) قالوا قتله غيلة (فأصبح) قابيل (من الخاسرين) الذين خسروا الدنيا والاخرة [15]
وبهذا اشار القران الكريم الى مسؤولية النفس عن ارتكاب الجرائم، وقوله تعالى: ((قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبرا جميل والله المستعان على ما تصفون)) [16]
حيث يرى (قدس سره): (قال بل سولت لكم انفسكم امرا) اي زينت لكم انفسكم الحاسدة ليوسف مكيدة دبرتموها، وقد روي انه عليه السلام لما رأى القميص وليس به اثار الشق، علم ان الذئب لم ياكله فان الذئب اذ اكل انسانا مزق ثيابه، قال الصادق عليه السلام: لما اتي بقميص يوسف الى يعقوب قال: اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشق القميص [17] (فـ) امري في هذا الفراق (صبر جميل) روي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم والامامين الباقر والصادق عليهما السلام: ان الصبر الجميل هو الذي لاشكوى فيه الى الخلق [18](والله المستعان) به، من (استعان) بمعنى: طلب العون (على ما تصفون) اي على دفع ما تصفون من هلاك يوسف، وقد يقال: انه كيف يوصف الصبر بالجميل، مع انه عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه؟ بل كيف يمكن للنبي ان يكون له مثل هذه العلاقة بالأولاد مع انه يرى عظمة الله وثوابه؟ وقد يقال مثل ذلك في بكاء ادم عليه السلام والصديقة الطاهرة عليها السلام والامام السجاد عليه السلام؟ والجواب: ان هذا النحو من البكاء والتوجع كان له نوعا من التبليغ والارشاد لم يكن يؤدي الا بذلك، وبكاء يعقوب كان تنفيرا لمثل هذا الاجرام الجماعي وارشادا عمليا لأعمال الغاصبين والسفاكين، وارشادا الى عظمة المعزى له، الموجب لالتفات الناس حولهم فيستضيئون بأنوارهم ويهتدون بآثارهم [19] فالنفس هي التي رغبت في تنفيذ جريمة القتل، بل وقادت الجوارح لتنفيذ تلك الجريمة، وفي ذلك يظهر جانب التوجه الاختياري من النفس لسائر اعضاء الجسم التي تتعامل مع المؤثرات الخارجية، ونعني بتلك الحواس (اعضاء الحس) [20]
وقوله تعالى: ((كل نفس ذائقة الموت....)) [21]
حيث يرى (قدس سره): ان عدم الجهاد لخوف الموت، وعدم الايمان لخوف ذهاب الرئاسة، وعدم الانفاق لخوف الفقر. مما له عاقبة سيئة هي النار، فكل انسان يموت وتذهب حياته ورئاسته وماله، فما اجدر ان يفعل ما يسبب له حسن العاقبة (كل نفس ذائقة الموت) تذوقه وتلاقيه [22]
وهنا يذكر عز وجل مسؤولية النفس الحية عن تذوق الاشياء، وبذلك تظهر العلاقة الوثيقة بين النفس البشرية وبين الحواس.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
الهوامش
[1] ينظر: الشعر العربي في المهجر – أمريكا الشمالية: 65 – 66.
[2] ينظر: حركة التجديد الشعري في المهجر: 215.
[3] ينظر: عالم الحياة بين القرآن: 73
[4] سورة الشمس: 7-8.
[5] تقريب القرآن الى الاذهان: 5/683 – 684.
[6] ينظر: عالم الحياة بين القرآن والعلم: 73 – 74.
[7] سورة يوسف: 53
[8] سورة الانبياء: 18
[9] تقريب القران الى الاذهان: 3/7
[10] سورة الانبياء: 35.
[11] نفحات الهداية: 239 – 240.
[12] سورة المائدة: 105
[13] ينظر: العلم النافع سبيل النجاة: 73 – 74
[14] سورة المائدة: 30
[15] تقريب القران الى الاذهان: 631 – 632
[16] سورة يوسف: 18
[17] بحار الانوار: 12 / 299
[18] الكافي: 2/93
[19] ينظر: تقريب القران الى الاذهان: 2/ 670 – 671
[20] ينظر: عالم الحياة بين القران والعلم: 74
[21] سورة ال عمران: 185
[22] تقريب القران الى الاذهان: 1/429
المصادر
- القران الكريم
1- بحار الانوار: العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت – لبنان، ط2، 1403 هـ - 1983 م
2- تقريب القران الى الاذهان: اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، دار العلوم للطباعة، بيروت – لبنان، ط2، 1432 هـ - 2011 م.
3- حركة التجديد الشعري في المهجر بين النظرية والتطبيق: عبد الحكيم بلبع، مكتبة الشباب، القاهرة، 1974 م.
4- الشعر العربي في المهجر – امريكا الشمالية:- احسان عباس ومحمد يوسف نجم، دار صادر بيروت، ط4، 2005 م
5- عالم الحياة بين القران والعلم: د. عبد الباسط الجمل، عالم الكتب، القاهرة – مصر، ط1، 1421 هـ - 2001 م.
6- العلم النافع سبيل النجاة: اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، مؤسسة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم الثقافية، قم المقدسة، ط2، 1429 هـ.
7- اصول الكافي: ثقة الاسلام الكليني، دار الكتب الاسلامية، ط3، 1388 هـ.
8- نفحات الهداية: اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، مؤسسة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم، قم المقدسة، ط6، 1435 هـ.