دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 29
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
أول معركة في الشام (عربة وداثنة) (29)
د. فوّاز القاسم / سوريا
سمع هرقل بتحركات المسلمين وهو في بيت المقدس بفلسطين ، وكان يعتقد بحتمية انتصارهم عليه لما له من عقل وحكمة وتديّن ، فجمع أهل الرأي عنده واستشارهم في الأمر ، فأجمعوا على القتال ، فأيقن بانتهاء ملكه ، ولكنه كان يخافهم على نفسه، فارتحل من فلسطين ، ولم يقف إلا في انطاكية ، وهي في أقصى شمال الشام وراح من هناك يحشد الروم للقتال ...
أما جيوش المسلمين فقد اتخذت مواقعها ، أبو عبيدة في الجابية ، جنوب دمشق ، وشرحبيل في بصرى ، جنوب سورية ، في منطقة حوران حالياً ، ويزيد في البلقاء من أرض الأردن حالياً ، شرقي البحر الميت ( أنظر الخارطة )...
في هذه الأثناء دفع الروم بقوّة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل ، يقودها سرجيوس ، فانطلقت من غزّة لتلتف على جيوش المسلمين من خلفهم ، في محاولة لتطويقهم ، وقطع طريق إمدادهم ...
وكانت عيون يزيد ومخابراته ترقب الموقف ولا تغفل أبداً ، فكتب بذلك إلى أبي عبيدة ، وكان القائد العام لجيوش الشام كما ذكرنا ، فأمدّه أبو عبيدة بقوّة من الفرسان يقودها أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه ، وأمره بالتحرك فوراً لملاقاتهم ..
وفي مثل لمح البصر ، تحرّك يزيد لملاقات عدوه ، ودفع مقدّمته بسرعة وعليها أبو أمامة الباهلي ، فوجدوا طلائع العدوّ في وادي عربة فهزموهم ، كان ذلك في الرابع والعشرين من ذي الحجة ، لسنة اثنتي عشرة للهجرة ...
وهرب الروم بعد هزيمتهم باتجاه غزّة ، وتبعهم المسلمون ، فلحقوا بهم في قرية داثنة ، على أطراف غزّة ، فسحقوهم ، ثم عادوا بسرعة إلى مواقعهم ...!!!
عند ذلك غضب الروم واغتاظوا غيظاً شديداً ، وكتبوا إلى ملكهم هرقل يستعجلونه المدد ، فكتب هرقل إلى عمال مملكته يستنفرهم ، فنفرت إليه أعداد من المقاتلين لا حصر لها ولا عدّ ، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى أبي بكر الصديق يضعه في صورة الموقف ويستشيره ، فردّ عليه أبو بكر يقول : (أما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه تيسّر عدوّكم لمواقعتكم ، وما كتب به ملكهم ووعده لهم بأن يمدّهم من الجنود ما تضيق به الأرض ، ولعمرو الله ، لقد أصبحت الأرض ضيّقة عليهم ، وأيم الله ، ما أنا بآيس أن تزيلوه من مكانه الذي هو به عاجلاً إن شاء الله .
فبثّ خيلك في أرضهم ، وضيّق عليهم بقطع الميرة والمادّة عنهم ، فإن ناهضوك ، فانهد إليهم ، واستعن بالله عليهم ، فإنه ليس يأتيهم مدد ، إلا أمددناكم بضعفهم أو مثليهم ، وليس بكم والحمد لله قلّة أو ذلّة ، وإن الله فاتح لكم ، ومظهركم على عدوّكم بالنصر ، وملتمسٌ منكم الشكر لينظر كيف تعملون )
ثم أرسل أبو بكر الصدّيق من فوره رسالة عاجلة إلى عمرو بن العاص ، وكان عامله على صدقات قضاعة في شمال الجزيرة ، يصف له وضع إخوانه في الشام ، ويخيّره بين الجهاد أو يبقى على الصدقات .!؟
أتدرون أيها العرب والمسلمون ماذا كان جواب عمرو بن العاص رضي الله عنه .!؟
قال : ( يا خليفة رسول الله ، إني سهمٌ من سهام الإسلام ، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها ، فانظر أشدّها وأخشاها وأفضلها ، فارمِ به ، وإني لأرجو أن يريك الله منّي ما تقرُّ به عينك إن شاء الله )...!!!
يا للروعة ... و يا للعظمة ... و يا لألق التاريخ ...
ثم استخلف عمرو على عمله الذي كان عليه ، وتحرّك من فوره ليلبي دعوة الصدّيق ، فأمره أن يتحرّك لنصرة إخوانه ، على رأس جيش رابع ، فيه نخبة من أبطال قريش ، ووجوه العرب ، وذلك في الثالث من محرّم للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة ...
وأمره أن يسلك طريقاً مغايراً لطريق إخوانه الذين سبقوه ، فيسلك طريق الساحل ، ويخرج على إيلة ، ثم يرابط على أطراف فلسطين ، فيحمي مؤخرة الجيوش العربية الإسلامية المتوغلة في الشام ، ويمنع تكرار التهديد الذي شكّله سرجيوس من قبل .
يقول القائد العسكري الشهير مونتغمري : ( المفاجأة من العوامل الرئيسية لنجاح المعركة ، ولكن من السهل على أي قائد أن يحدث مفاجأة تكتيكية ، أما المفاجأة الستراتيجية فلا يقدر عليها إلا كبار القادة ) ...!!!
ولعمرو الله ، لقد كانت خطة أبي بكر في العراق بالإطباق على غربي الفرات بفكّي كماشة ، والإطباق على شرق وجنوب الشام بأربعة جيوش ، مفاجأة ستراتيجية من العيار الثقيل ، حيث أربكت الأعداء ، وشتت قواتهم ، ودوّخت قياداتهم ، ومنعتهم من معرفة المحور الرئيسي لهجومهم ...!!!
ترى ، ففي أية أكاديمية عسكرية ، تعلّم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ، فنون التخطيط ، والستراتيجية ، والتكتيك ...!!!؟
وما أجدرنا أن نحافظ على هذا الإرث الحضاري العظيم ، ونقتدي به ، ونسير على نهجه ، وننسج على منواله ...!!!