إلى الصادقين في بيعتهم
الجمعة 2 رمضان 1436 ه الموافق 19 يونيو 2015 م
*******************
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين ..
الإخوة والأخوات ..
نستقبل هلال شهر رمضان هذا العام وكلنا نناجيه (ربنا وربك الله .. هلال خير ورشد) وهو كذلك إن شاء الله – عندما تستقبله جماعة الإخوان المسلمين في مصر وهي في خضم موج عات يراه الناس متلاطما سيعصف بجماعتنا، وتراه بصائرنا وبخبرة تاريخنا الذي يكاد أن يطوي المائة سنة الأولى من عمرها وجهادها .. هو تسديد من الله سبحانه وتعالى وتصويب لمسارنا واستدراك لما لم يكن في طاقاتنا معرفته وما لم يكن في مقدورنا ولا في مقدور الكثيرين الكشف عنه وتعريته مما تمتلئ به الجحور التي يتم زرعها في طريقنا وفيها من الألغام ما فيها، والأمر ليس مجرد ابتلاء له بداية وله نهاية تُبْتلى فيه المعادن ويتطهر به الجميع من الذنوب والخطايا، فالصحيح أن الابتلاء مرحلة دخلتها الجماعة وهي غضة طرية بمجرد أن عرفها الناس وما زالت تعيش في أجوائه تسخن فيها الأحداث أحيانا ويهدأ أو يكل ريح العصف أحيانا أخرى، والجماعة وسط ذلك بين إدبار البعض عنها وإقبال الناس عليها، وبين محاولات الأنظمة والقوى المختلفة الهيمنة عليها أو محاولات الاحتواء أو الإفناء، ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا الذي قال محذرا وناصحا وهو في بداية دعوته: (أحب أن أصارحكم إن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم الكثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات وفي هذا الوقت وحده تكونون قد سلكتم سبيل أصحاب الدعوات).
هذا هو حالنا وغريب على الكثيرين من البشر والأنظمة وغيرهم أن تظل الجماعة في سيرها متحملة بلاء هذا الطريق الطويل الذي تسير فيه محتضنة فكرها .. تحميه بدمائها وبتضحيات المؤمنين به والعاملين في سبيله اعتمادا على الله سبحانه (غايتنا) وهو فكر واضح وصريح ليس فيه غموض مع عمل مجتمعي يخدم الناس ويقدم لهم الخير الفعلي وليس الكلام المعسول، أظهره الله سبحانه للعالم بأيدي الظالمين في ما تمارسه دولة الانقلاب العسكري من إجراءات وهو وحدات طبية وإغاثية ومعاهد تعليم ونشاطات تُجبر عجز الدولة، ولو فعلها غيرنا من الأحزاب أو الهيئات ما عابوا عليهم خلق ولا دَنيَة وما قالوا فيهم (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) وما قاموا بدعم كوني من دراسات وملاحقات وإعلام فاسد طوال عقود بتفصيل تهم الإرهاب والترويع على مقاس الجماعة فكرا وأفرادا لاستباحة دمائهم وأعراضهم، ومع ذلك فقد بقيت الجماعة على توالي أجيالها قائمة يتحطم على صخرها الكثير من الطواغيث ليقينها بالخير الذي هداها الله سبحانه إليه مستمسكة بعروته الوثقى سائرة على درب النبوة والمصلحين صابرة على إبلاغ الرسالة والأمانة لا يضرها من خالفها دون ادعاء بخيرية على الناس ودون ادعاء باحتكار الدين أو بالربانية التي تقف على أبوابها تبذل الجهد في تحقيقها، وبصبر الحاني على أذى الناس أداء لأمانة المعرفة وخوف عليهم من السير في مسالك لا تقود إلى خير حسبنا أن نردد – دون ادعاء الكمال أو افتراء على مقام النبوة – ما ألهمهم الله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون)، ودعاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ملك الجبال بعد إيذاء صبيان الطائف له وقد دمت قداماه الشريفتان قائلا له (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟) فكان رده: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)، وكان دعاؤه (اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون)، بعد غمرة من الأسى والحزن ملأته فتوجه إلى ربه بقلب يفيض إيمانا ويقينا ورضا بما ناله في سبيله سبحانه واسترضاءً له ..
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. لكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
هذا هو الرحمة المهداة محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين، ولعل من توفيق الله لجماعة الإخوان المسلمين أن يلهم مرشدها الأول حسن البنا قوله مسترشدا بسير الأنبياء والمرسلين عندما قال لإخوانه (كونوا كالشجر يرميهم الناس بالحجر فترميهم بالثمر).
الإخوة والأخوات ..
الجماعة – بفضل الله – تعيش مع جيل تكاد آخر أوراق عمره بسنة الله أن تتداعى عودة إلى مَنْشَئهَا في التراب عاصر زلزال أول هجمة ظالمة كبيرة على الجماعة التي قتلت فيها الدولة مرشدنا الأول حسن البنا (يرحمه الله) وعاشت توابعه ثم عاشت زلزال عام 1954م منذ بدايته وما جرى فيه من طغيان وتجاوزات غير مسبوقة في مصر بين جدران السجن الحربي وفي غيرها من السجون وعذابات سجني الواحات. الخارجة. المحاريق، ثم ما حدث في عام 1965م ثم ما تلاها في عام 1981م وحتى الآن، وما زال بعض أفراد هذا الجيل أحياء يعيشون لهيب الأحداث كلها دون انحراف أو تسليم مثل المرشد السابق الأستاذ محمد مهدي عاكف الذي عاصر سجون الملكية وكل الحكام العسكريين بعدها لمدة تقارب الثلاثين عاما الآن بين أسوارها وهو الآن على أبواب التسعين من عمره المبارك إن شاء الله، والدكتور محمد رشاد بيومي المحكوم عليه بالإعدام بعد فترة سجون قضاها تجاوزت العشرين عاما وقد تجاوز عمره الثمانين الآن،
ولحق بهذا الجيل من التحق بركب الدعوة (جيل 1965م) من أمثال المرشد الحالي الدكتور محمد بديع وقد بلغ الثانية والسبعين وما نقموا منه إلا أنه نادى (سلميتنا أقوى من الرصاص) فأصدروا بحقه ثلاثة أحكام بالإعدام، والقائمة تطول، ورغم قسوة ما واجهوه فلم يؤخذ عليهم تهاون أو تنازل أو إعطاء للدنية من دينهم لأحد،
وتداخلت مع هذا الجيل أجيال أخر تلتها، ونظرة إلى من قدمهم الظالمون إلى المحاكمات الهزلية وصدرت ضدهم أحكام قُبيل بزوغ هلال شهر رمضان بساعات، فإن متوسط أعمارهم جميعا ومعهم رئيس مصر الشرعي قد تجاوزت بين الخمس والخمسين والخمسة والستين عاما، غير الآلاف الذين تمتلؤ بهم الزنازين وهم بثباتهم (إن شاء الله) وبما يبثونه من روح القوة والعزيمة في نفوس إخوانهم في مصر والعالم أجمع شاهد على أن هذه الجماعة لن تموت بإذن الله وأنها لن تنحرف عن مناهجها كدعوة لله، ومن الحق الذي لا ينكره أحد أن طاقات البشر تختلف باختلاف أعمارهم، ولكن هل يمكن أن يتجاهل أحد أن ساعة الجد والبذل والتكليف لا تستثني أحدا، والقرآن الكريم جاء بقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كما حدث للصحابي الجليل هلال بن أمية صاحب الثمانين عاما التي كان قد بلغها وساواه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من الشباب ليتأكد نسيج الأمة الواحدة في تكامل وقت الشدة يؤدي كل فرد فيه دوره.
صحيح أن مرشدنا الأول الشهيد حسن البنا الذي لقي ربه وهو في الثانية والأربعين من عمره قد اختص الشباب برسالة خاصة عدّد فيها خصائصهم وهي الإيمان، الإخلاص، الحماسة، العمل، لأنهم عماد كل أمة متمثلا بما جاء في سورة الكهف (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) وأشار إلى كثرة واجباتهم وعظم تبعاتهم، ولكنه لم يجعل هذه الرسالة سببا لتنازع الأجيال بل لتكاملها، وهذا التنازع حاوله البعض معه في عهده، وحتى في غياهب سجون الظالمين، لكن وبحمد الله لم يصل في أي مرحلة من المراحل إلى حد تفرقة الصف وتصنيف الأفراد بين متقدم ومتأخر، وبقي الإيمان والإخلاص والحماسة والعمل هو الروح التي بثها الله في قلوب أفراد الجماعة رجالا ونساءً شيبا وشبانا في تكامل، لتكون هي الروح التي تسري في قلب هذه الأمة لتحييها بالقرآن الكريم.
الإخوة والأخوات ..
إحدى خصائص جماعة الإخوان المسلمين أنها لا تعلو بإيمانها ولا بفكرها على الناس، ولا تدعي لبشر العصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لمرشدها الأول حسب ما بايعت عليه في رسالة التعاليم، ولهذا فهي لا تدعي أن مسيرتها وعملها قد خلت من أخطاء، ولكن حسبها أن كل عملها قد تم باجتهادات بشرية قدر ما كانت تدركه في كل مرحلة من مراحلها، ومع ذلك فقد تجاوزت كل ما لاقته من عقبات وواصلت مسيرتها وحافظت على مبادئها التي آمن بها الكثير من الناس في كل الدنيا، ومن المؤكد أن الانشغال بظروف الأزمات ومتطلباتها كانت تتغلب كثيرا على واجب تسجيل ما حدث وكيف حدث ولماذا حدث في وقت معاصر لكل حدث حتى لا يضيع التاريخ، وحتى إذا ما كانت هناك مهلة تاريخية خلال العشرية السابقة لكتابة هذا التاريخ وتقويم الأحداث فقد تم تشكيل مجموعة أشرف عليها الأخ الراحل الأستاذ جمعة أمين نائب المرشد العام رحمه الله ثم توقف العمل دون إتمامه لنفس السبب الذي يصاحب كل أزمة أو شدة وعلى عزم بتمامه إن شاء الله.
ولم تقف الجماعة أمام اجتهادات فردية قام بها إخوة كرام كتبوا جزءً من تاريخ الجماعة من واقع أدوارهم فيها وهو حق لا تنكره على أحد ما دام يكتب بتجرد يراعي فيه الإخلاص لله وحده، وامتلأ سوق الكتابة بما فعله آخرون بغير هذا القصد منهم الشانئون والمتربصون لتزوير الأحداث وتأويلها تأويلا غير صادق والله سبحانه وتعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
الإخوة والأخوات ..
لقد بايعنا الله سبحانه وتعالى على قرآن يُتْلى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئـك لهم عذاب عظيم).
وبايعناه سبحانه اتباعا لرسوله الذي قال في حديث الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا.
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا – وأشار إلى صدره الكريم ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام .. دمه .. وماله .. وعرضه).
ورحم الله إمامنا الذي ألهمه الله باختيار إسم الإخوان المسلمين لجماعتنا وأوصانا بقوله: إن لم تكونوا بها فلن تكونوا بغيرها.
تقبل الله من الجميع الصيام والقيام وجعله لنا ولإخواننا في كل بقعة من بقاع الأرض ممن منّ الله عليهم بالعافية وممن يلاقون عنتا من أنظمة ظالمة، ونسأله سبحانه أن ننال رحمة مقدم هلال رمضان والمغفرة منه سبحانه في منتصفه والعتق من النار في آخره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مع تحيات أسرة " رسالة الإخوان "