دعاؤنا: لماذا لا يجُاب؟

عبد السلام البسيوني

مقدمة

أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، والقرطبي في تفسيره، وغيرهما: مرّ التابعي الجليل إبراهيم بن أدهم رحمه الله في سوق البصرة ذات يوم، فقال له الناس:

يا أبا إسحق، إن الله تعالى يقول: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) غافر: 60. ونحن ندعو الله فلا يستجيب لنا!

فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:

* عرفتم الله ولم تؤدوا حقه..

* وقرأتم القرآن ولم تعملوا به..

* وزعمتم حب نبيكم وتركتم سنته..

* وقلتم إن الشيطان لكم عدو ووافقتموه..

* وقلتم إنكم مشتاقون إلى الجنة ولم تعملوا لها..

* وقلتم إنكم تخافون النار ولم تهربوا منها..

* وقلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له..

* واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم..

* وأكلتم نعم الله ولم تؤدوا شكرها..

* ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، فكيف يستجاب لكم؟

ووجدت إجابة مختلفة عن تسليط الله تعالى الظلمة على عباده في قصة لم أجد لها أصلاً، لكن لها دلالة على كل حال:

يحكون أن ابنة هولاكو زعيم التتار كانت تطوف في بغداد، فرأت جمعاً من الناس يلتفون على رجل منهم، فسألت عنه، فإذا هو عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما مثلَ بين يديها سألته: ألستم المؤمنين بالله؟ قال: بلى.

قالت: ألا تزعمون أن الله يؤيد بنصره من يشاء؟ قال: بلى!

قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟ قال: بلى!

قالت: أفلا يعني ذلك أننا أحب إلى الله منكم؟

قال: لا. قالت: لم؟

قال: ألا تعرفين راعي الغنم؟ قالت: بلى!

قال: ألا يكون مع قطيعه بعض الكلاب؟ قالت: بلى!

قال: ما يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه، وخرجت عن سلطانه؟

قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى سلطانه!

قال: كم تستمر في مطاردة الخراف؟ قالت: ما دامت شاردة!

قال: فأنتم أيها التتار كلاب الله في أرضه، وما دمنا شاردين عن منهج الله وطاعته، فستبقون وراءنا حتى نعود إلى الله جل وعلا!

وأكرر السؤال ذاته: لماذا لا يستجب الله تعالى دعاءنا؟

الملايين في مكة ومنى وعرفات على مدار العام التي يشق دعاؤها الفضاء/ المساجد طوال السنة/ الدعاء الدائم لرفع المظالم المتراكمة كأنها الجبال بين العباد..

دع عنك ذلك: في رمضان وحده: عشرات الملايين من الناس، وفي عشرات الألوف من المساجد، وعلى مدار الشهر، خصوصاً العشر الأواخر، ووسط التفنن في الدعاء وانشقاق الحناجر؛ من كثرة ما تبتهل الابتهال الطويل الزاخر، تصعد سيول من الدعوات للسماء، بالنصرة والعزة والغنى والعافية، وغير ذلك، ثم إنها لا تجد مساغاً للسماء، فتضيع – فيما يبدو – بدداً هباء..

* فلماذا لا تستجاب؟

* لماذا نظل نرزح نحت نير ذلة طويلة وانكسار عريض!؟

* لماذا لا تزال إسرائيل تتحكم في مقدرات الأمة وتكسر أنفها، وتتطول عليها وعلى الدنيا كلها؟

* لماذا يدوم نير الظلمة والقساة وحكام الجور؟

* لماذا ينتفش الباطل والظلم والقهر والفساد، وينقمع الحق والخير والجمال والرشاد؟

* لماذا يزداد الفقير فقراً – في الجملة – ويزداد الطاغي المرتشي والفاسد والتجارة المشبوهة طغياناً وغنى وعتواً؟

* ألم يقل الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب* أجيب دعوة الداعِ إذا دعان)؟

* ألم يقل سبحانه: (ادعوني أستجب لكم)؟ بصيغة تؤكد سرعة الاستجابة وحتمية وقوعها؟

* أليس هذا داعية للشك في وعد الله تبارك وتعالى؟

لقد سمعت بعض الإخوة - بعد ما حصل في مصر - يقولون في تساؤل مرتبك:

لماذا نصر الله رجال مبارك، وعاد الظلم والظالمون؟

وأين عدل الله تعالى؟

أين دعاء الداعين وابتهال المبتهلين؟

أسئلة تحتاج أن نتأملها، ونجيب عنها، ونحدد الموقف الشرعي الدقيق منها، ونسأل الله تبارك وتعالى القبول والتوفيق والسداد:

لحظة من فضلك: هل وعد الله تبارك وتعالى بإجابة الدعاء؟

نعم.. وعد سبحانه وتعالى، وكفى بالله وكيلاً .. وتمت كلماته سبحانه صدقاً وعدلاً !

نعم.. وعد سبحانه وتعالى لا شك في هذا ولا ريب، بالكتاب والسنة والإجماع والحس والعقل والواقع المشاهد المعيش، وحسبي هنا دليلاً آيتان تطلبان الدعاء وتتبعانه بالإجابة، وبعض أحاديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:

* فقد قال رب العزة تبارك وتعالى الذي أنزل أحسن الحديث وأصدقه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب؛ أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي؛ لعلهم يرشدون) 186 :البقرة.

* وقال عز من قائل: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم؛ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) 60 : غافر.

* وفي الصحيحين عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا - حين يبقى ثلث الليل الآخر - فيقول سبحانه: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له)؟

وفي البخاري وغيره عن سيدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.......).

* وفي الترمذي وغيره عن سيدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب تعالى: وعزتي لأنصرنك؛ ولو بعد حين)!

* وفي أبي وداود وغيره عن سيدي معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهراً، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه).

* وفي الترمذي وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)!

هذا بجانب أن هناك أناساً اشتهروا بأنهم كانوا مجابي الدعاء: إذا أقسموا على الرب تبارك وتعالى أبرهم، وإذا دعوه أجابهم، مثل الأنبياء، وبعض الصحابة، والتابعين، والعلماء الربانيين، فأين هذا مما نرى، ونشهد؟ فأقول وبالله تعالى التوفيق:

مسلمَّات أولى:

* هل تسلم معي أن الإنسان عجول، يريد أن تنقضي حاجاته بمجرد طلبها؟ أليس الله تعالى يقول: (خلق الإنسان من عجل) الأنبياء: 37؟

وبناء عليه: هل يجب على الله تعالى أن يجيب دعاءنا بمجرد أن نطلب؟ هل نقول: افعل، فيقول تعالى فعلت؟ فأين قدَره تعالى، وحكمته، وربوبيته، وأين مشيئته وعلمه؟

* هل تسلم معي أن عدم الإجابة قد يكون أحياناً خيراً لنا، فإن أحدنا قد يظن في الشيء خيراً له وهو شر مستطير، كما قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) البقرة: 216 .

وكم من إنسان سأل الله مالاً فأطغاه، أو ولداً فأضناه، أو عملاً فأشقاه ، أو مسعىً فأرداه!

*هل تظن أن الإجابة تأخذ شكلاً واحداً؟ لماذا لا تعتقد أن الله تعالى أجابك، لكن بما يراه هو سبحانه وتعالى؟

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم – كما ورد في الصحيحين عن سيدي أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: (ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها....)!؟

*ثم ما معنى: (ادعوني أستجب لكم)؟

أتعني الاستجابة الفورية؟ ألا يمكن أن تعني أنه سبحانه إن شاء استجاب، وإلا فله سبحانه الخلق والأمر؟ كما ورد في سورة الأنعام: 41 : (بل إياه تدعون، فيكشف ما تدعون إليه - إن شاء- وتنسون ما تشركون)!؟

ألا يمكن أن تعني أنه إذا وافق الدعاء قضاءه سبحانه كما ذكر بعض أهل العلم أجاب دعاء عبده!؟

ألا يمكن أن يعوضه عن الدعاء عوضاً ما، يعلمه هو سبحانه؛ بإحاطته وربوبيته!؟

ربما قلت إنني أتهرب أو أبحث عن مخرج، فتعال إلى الأسباب الصريحة التي لا تقبل تأويلاً ، ولا نجد دونها مساغاً، ودعني أجب سؤالك بشكل واضح:

ربما قلت إنه لا توجد إجابة عن ذلك..

وربما ضاق العطن حتى تظن بالله تعالى السوء كما فعل بعض من سألوني!

وربما تطاول بعض الحمقى فظنوا أنهم على شيء، وأن الله ينصرهم على المتدينين (المتأسلمين) كما يزعم، وأنه الله ينصره هو ولا ينصر عباده!

بل تمادى أعمى من الإعلاميين محترفي التلفيق والتزوير والكذب ودعم الفرعون، وبشر بالنصر على المتدينين في يوم يصادف تاريخه يوم بدر، باعتبار العلمانية والاستباحة والتلفيق الإعلامي هي الهدى، والتدين والمتدينين هم الضلال، أو باعتباره هو النبي والصحابة، وشباب الصحوة هم قريش الكافرة!

وكي تعلم لماذا لا يستجيب الله تعالى – وهو الرب الكريم الرحمن الرحيم – لدعاء عباده، اقرأ معي جملة الأسباب التي يرد بها الدعاء، والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأن وقوعها – أو أحدها - مانع أن ترتفع الأدعية والابتهالات مهما كثرت، ولا تتجاوز الرؤوس..

ومن هذه الأسباب:

فشو الفساد وانتشاره حتى يصير هو الأصل مانع من إجابة الدعاء:

إذا فشا الفساد وصار هو القاعدة، لم ينفع الدعاء أو يغن عن أصحابه..

فإذا كان الربا أساساً في المعاملات الاقتصادية – مثلاً – وإذا كانت الرشوة أساساً في المعاملات الرسمية، والاستباحة والعري هي الأساس في المعاملات الفنية، والكذب وتشويه الحق أساساً في المعاملات الإعلامية – مثلاً – وإذا كان الظلم وامتهان البشر أساساً في المعاملات الميرية – مثلاً - فما نفع الدعاء، حتى لو ظل البشر يدعون صبح مساء؟

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأنفال: 25 ،: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب) قال الإمام أحمد في تفسيرها:

..... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة).

وفي موطأ مالك وغيره أن سيدتي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، إذا كثر الخبث).

قال في التمهيد؛ لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن الحسن بن محمد قال: حدثتني امرأة من الأنصار قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه غضبان، فاستترت بكم درعي، فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المومنين كأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل وهو غضبان!

فقالت: نعم، أوما سمعت ما قال؟

قلت: وما قال صلى الله عليه وسلم؟

قالت: قال: (إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يتناه عنه، أرسل الله بأسه على أهل الأرض).

قالت: قلت: يا رسول الله، وفيهم الصالحون؟

قال صلى الله عليه وسلم: (نعم، وفيهم الصالحون يصيبهم ما أصابهم، ثم يقبضهم الله إلى مغفرته، ورضوانه، أو إلى رضوانه، ومغفرته).

وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن سيدتي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده).

قلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟

قال صلى الله عليه وسلم: (بلى)،

قلت: كيف يصنع بأولئك؟

قال: صلى الله عليه وسلم يصيبهم ما أصابهم، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله، ورضوان).

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: كان يقال إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا صنع المنكر جهاراً استحقوا العقوبة. ذكره مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز ، وهذا معناه إذا قدروا، وكانوا في عز وامتناع من الأذى.. والله أعلم!

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من إجابة الدعاء:

حين يسود المنكر فيصير معروفاً، ويتطبع الناس معه، وتعتاده عيونهم، فلا ينكرونه، بل ربما أنكروا على من ينكره، وعرفوا المنكر واتخذوه سبيلا،ً فاعلم أن أولئكم مهما دعوا لن يستجيب الله تعالى لهم، وأستغفر الله من كلمتي هذه إن كانت خطأ؛ فهذا سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينبهنا ويحذرنا، فيما رواه الترمذي وغيره عن سيدي حذيفة رضي الله تعالى عنه: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)!

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية، والمنح المرعية/ فصل: النصوص في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (باختصار كثير):

وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: (يأيها الناس) تقرؤون هذه الآية: (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم؛ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعذاب منه) إسناد صحيح رواه جماعة منهم أبو داود والترمذي.

وعن أبي البختري قال: أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن يهلك الناس أو يعذروا من أنفسهم) إسناد جيد رواه أحمد وأبو داود. يقال: أعذر فلان من نفسه إذا أمكن منها؛ يعني أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذراً كأنهم قاموا بعذره في ذلك!

وعن أبي عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) رواه أحمد.

والسؤال الهام الآن:

هل شاع بيننا المنكر حتى صار معروفاً؟

وهل اغترب المعروف في قلوب المسلمين حتى صار منكراً؟

هل صارت الاستقامة وحسن السلوك (قفلنة) وتزمتاً، وسوء تصرف، وصار الخداع واللعب (بالبيضة والحجر فهلوة وشطارة) والإتقان والتجويد إضاعة وخسارة؟

هل صار الحجاب – مثلاً –شيئاً مهسجتناً، والتبرج شيئاً مستحسناً؟

هل امترأنا الربا والرشوة والعمولات حتى صارت معروفةً مسلمة بها؛ بحيث لا يمكن لأحد إنكارها؟

وإذا كان ذلك واقعاً معيشاً: فأني يستجاب لنا؟

دعاء مدخول النية مردود غير مقبول:

وأشير هنا إلى أمر مهم لا يقبل به الدعاء إذا تحقق، وهو عدم خلوص النية، وغياب إرادة وجه الله تبارك وتعالى:

في الترغيب والترهيب عن سيدي أبي أمامة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه)! فإذا شاب دعاء المرء شيء من الرياء، والتطويل، ليرى الناس دعاءه وصلاته، أو عدم اليقين، أو الشك في الرب الكريم تبارك وتعالى، حبط، ورد على صاحبه؛ ولا كرامة!

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: ما أحسن قول سهل بن عبد الله التستر: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر!

وسُئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) الملك: 2، فقال: هو أخلص العمل وأصوبه!

قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟

قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل..

وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً..

فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ وذلك تحقيق قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً). الكهف: 110

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين! والله تعالى أعلى وأعلم.

أكل الحرام مانع قاطع:

هذا السبب من أوضح وأخطر أسباب رد الدعاء، وهو الأعم والأكثر انتشاراً في مجتمعاتنا المعاصرة:

* فقد استبيح الخمر، وصار يعلن عنه في بلاد المسلمين، وأقيمت له مصانع في الداخل، وشركات استيراد من الخارج، وصار تجارة ربيحة واسعة! يعمل فيها عشرات الألوف من البشر، الذين يعولون عائلات..

* واستبيح الربا وصارت الصحف تنشر كل صباح أسعار الفائدة، وانتشرت البنوك الربوية ليعمل فيها عشرات الألوف من البشر، الذين يعولون عائلات..

* واستبيحت الرشوة تحت مسمى العمولة والنسبة والهدية.. يأكل منها عشرات الألوف من البشر، الذين يعولون عائلات..

* واستبيحت التجارة في ممنوعات كثيرة كالسجائر والمخدرات، وبات يعمل فيها عشرات الألوف من البشر، الذين يعولون عائلات..

* وصار الغش والبخس فناً، وبابَ ربح فسيح، يتكسب منه عشرات الألوف من البشر، الذين يعولون عائلات..

*وانتشرت أشكال كثيرة للكسب الحرام، يعمل فيها عشرات الألوف من البشر، الذين  يعولون عائلات..

ولا يمكن أن يستوي في ميزان الله تعالى الحلال بالحرام، والجميل بالقبيح، وهو سبحانه القائل: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث). المائدة: 100

وعقبى هذا ألا ترتفع الدعوة فوق رأس صاحبها مهما قال، وابتهل، وجأر، واشتكى؛ فقد روى مسلم عن سيدي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) المؤمنون: 51 . وقال تعالى للمؤمنين: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب؛ ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له)!

قال الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم: في شرح الحديث:

وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل، ولا يزكو، إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام، يفسد العمل، ويمنع قبوله، فإنه قال بعد تقريره: (إن الله لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) وقال: (يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم).

والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالاً ، فالعمل الصالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال، فكيف يكون العمل مقبولاً ؟

وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام. وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) البقرة: 168 ، فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت، فالنار أولى به)!

وفي مسند أحمد بإسناد فيه نظر أيضاً عن ابن عمر قال: من اشترى ثوباً بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال: صمتاً إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك،  ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك وزادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور!

وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور)!

وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام.

فلينظر كل آكل حرام، وكل مستبيح، وليراجع، أو ليذكر أنه إلى ربه سبحانه على وشك الرجعى، والسؤال.. والعاقبة للتقوى!

سوء الظن بالله تعالى من موانع الإجابة:

قد يظن أحد الناس أنه – لكثرة ذنوبه – بعيد عن رحمة الله تعالى، وأن ذنوبه أكثر من أن تغفر، فيقنط، ويستحسر، وينقطع عن الدعاء..

وهذا من أعظم موانع الإجابة، ومن أشد أسباب اليأس من الرحمة، ففي الصحيحين عن سيدي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقر إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) رواه البخاري ومسلم..

وفي الترغيب والترهيب عن سيدي واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (قال الله جلَّ وعلا: أنا عند ظنِّ عبدي بي إن ظنَّ خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله)..

لذا فعلى المسلم ألا يقنط من رحمة الله تعالى؛ وإن بلغت ذنوبه ما بلغت، وألا ييأس أبداً ( إنه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون) يوسف: 78

بل قد يكون سوء الظن باباً من أبواب النفاق والهلاك؛ فقد قال الله تبارك وتعالى عن المنافقين: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) آل عمران: 154 ، وقال في سورة الفتح (.... الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء). الفتح: 6

وقد يدخل في هذا سوء الظن باعتقاد أن يحجب الله تعالى رحمته عن عبد، مهما كان مذنباً؛ ففي صحيح مسلم وغيره عن سيدي جندب رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)!

وكذا اعتقاد أن جمهور الناس على باطل وفساد، فقد أخرج مسلم عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) والله أعلى وأعلم وأرحم وأحكم.

الدعاء بشرك أو بدعة أو ضلالة من موانع الإجابة:

ومما لا يقبله الله تعالى دون ريب أن يدعو داعٍ بشرك أو كفرٍ أو بدعة أو ضلالة بواح، فلو أن أحدهم دعا الله تعالى أن ينصر الأصنام وعبادها، أو أن يزيل الإسلام وأهله، أو يدعو أن يحرس الله أنصار ضلالة أو نحلة مارقة، فهو أبعد ما يكون عن الإجابة؛ فإن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن كل شيء ليس على منهجه النقي ومحجته البيضاء فهو مردود مدفوع..

ففي الحديث المتفق عليه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي رواية لمسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد).

ويدخل في هذا أوراد الفرق الغالية التي استحدثت لنفسها أذكاراً وأدعية يعلونها على القرآن والمأثور من هديه صلى الله عليه وآله وصحبه..

الدعاء بالمحال أو ما لا يطمع فيه لمخالفته الأقدار مردود:

مما لا يقع ولا يجاب: الدعاء بشيء محال، أو بشيء لا يسوغ طلبه؛ لمخالفته سنن الله تعالى وأقداره، كدعاء أحدهم أن يعيش أبداً ولا يموت، أو أن يبقى شاب أبداً لا يهرم،  أو أن تبقى أبداً جميلة شابة جذابة ولوداً، أو يكون أطول من جبل، أو يعيش عمره دون طعام ولا شراب ولا نوم ولا حاجة لشيء، أو بإحياء ميت، أو دخول إبليس الجنة!

وكمن يدعو أن يكون في منزلته فوق نبي، أو أعلى من الصديق رضي الله عنه، أو تكون أفضل في المنزلة من خديجة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها..

وهذا - والله تعالى أعلم - اعتداء في الدعاء، ومخالفة للسنن، وتنكب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين الذي دعوا بالبر وحسن العاقبة..

كثرة الذنوب والمعاصي، خصوصاً مع المجاهرة:

مما يمنع الإجابة كثرة المعاصي وتراكمها، خصوصاً مع المجاهرة بها، وقد أكد سيدي المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيما رواه الشيخان عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)!

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أشار المصنف بإيراد هذين البابين – وهما الاستغفار ثم التوبة - في أوائل كتاب الدعاء، إلى أن الإجابة تسُرع إلى من لم يكن متلبساً بالمعصية، فإذا قدّم التوبة والاستغفار قبل الدعاء كان أمكن لإجابته.

قال الحافظ في الفتح: قال يحيى بن معاذ الرازي: لا تستبطئن الإجابة إذا دعوت، وقد سددتَ طرقها بالذنوب!

وقال الإمام ابن القيم في الفوائد: يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى، كيف توسع طريقَ الخطايا وتشكو ضيقَ الرزق؟! ولو وقفت عند مراِد التقوى لم يفتك مرادٌ !

إتيان الدجاجلة والعرافين وتصديقهم مانع من القبول:

إتيان الكهنة والعرافين وضاربي الودع، وأهل الكوتشينة، والكف، والبلورة وما شابه، هي من أكبر أعمال شرك المعتقد، والتيه القلبي، والغيبوبة العقلية التي يعيشها كثير من البشر، الذين يظنون أن هناك من يعلم الغيب غير الله تبارك وتعالى.

وقد جزم الله تعالى في كتابه الكريم (قل: لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون) النمل: 65 . وشدد الله تعالى على إتيان العرافين والدجاجلة وتصديقهم فيما يزعمون، باعتبار ذلك من أشكال الكفر أو الشرك، وأن من أتاهم لمجرد النظر والفضول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً..

وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بحرمة إتيان العرافين – مجرد إتيان – فضلاً عن تصديقهم، والاعتقاد في صحة ما يرجمون به من الغيب، فقالت (باختصار مني):

... ولا يجوز أن يذهب إلى الكهنة الذين يزعمون معرفة الغيب؛ ليعرف منهم مرضه، ولا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به؛ فإنهم يتكلمون رجماً بالغيب أو يستحضرون الجن؛ ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكذب، والاستعانة بالجن شرك أكبر، وقد ورد في صحيح مسلم وغيره مرفوعاً: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز  

نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي

عضو: عبد الله بن غديان

عضو: عبد الله بن قعود

واضح من عدم قبول الصلاة عدم قبول الدعاء – والصلاة دعاء وذكر لا شك – فاللهم أحينا موحدين، وتوفنا موحدين، وأكرمنا بكرامة الموحدين!

غفلة القلب في الدعاء وعنه، مانع من إجابة الدعاء:

قد يدعو الداعي غير مستحضر لعظمة الرب تعالى وغناه، وفقر نفسه وضعف حاله، غير ملقٍ همه ورغبته في فضل مولاه، ومثل هذا الغافل لا يقبل الله تعالى منه دعاء ولا نداء!

ففي الترمذي عن سيدي أبي هريرة رضي الله عنه عن سيدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ادعوا لله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ).

وفي المسند عن سيدي عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه القلوب أوعية؛ فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب غافل)!

قال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: (وأنتم موقنون بالإجابة): أي: وأنتم معتقدون أن الله لا يخيبكم؛ لسعة كرمه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه لتحقق صدق الرجاء وخلوص الدعاء، لأن الداعي ما لم يكن رجاؤه واثقاً لم يكن دعاؤه صادقاً (من قلب غافل) أي معرض عن الله أو عما سأله (هلاً) من اللهو أَي لاعب بما سأله، أو مشتغل بغير الله تعالى! وهذا عمدة آداب الدعاء، ولذا خص بالذكر!

وقال في مرقاة المفاتيح: كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون بها الإجابة؛ من إتيان المعروف، واجتناب المنكر، ورعاية شروط الدعاء كحضور القلب، وترصد الأزمنة الشريفة، والأمكنة المنيفة، واغتنام الأحوال اللطيفة، كالسجود إلى غير ذلك، حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الرد. أو أراد: وأنتم معتقدون أن الله لا يخيبكم لسعة كرمه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، لتحقق صدق الرجاء وخلوص الدعاء؛ لأن الداعي ما لم يكن رجاؤه واثقاً لم يكن دعاؤه صادقاً (واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء): أي غالباً، أو استجابة كاملة (من قلب غافل): بالإضافة، وتركها، أي: معرض عن الله أو عما سأله (لاه): من اللهو، أي: لاعب، مما سأله أو مشتغل بغير الله تعالى!

وتحت عنوان: لا تكن أعجز الناس فتترك سلاحك، كتب الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم:

.... وبذلك يتبين لك عبث بعض الناس الذين يرفعون أيديهم وقلوبهم لاهية، فيرفع أحدهم يديه ويلتفت يميناً وشمالاً، ولا يعي ما يقول، وبعضهم اتخذ رفع يديه بعد النافلة وقبل الفريضة عادة، حتى يرفع بعضهم يديه ولا يقول شيئاً!

قال سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسمع الله من مسمِّع، ولا مراءٍ ، ولا لاعبٍ، إلا (داعٍ) دعا يثبت من قلبه (حديث صحيح موقوف رواه البخاري في الأدب المفرد).

وقال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يردّه.

قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد، معلّقاً على قوله: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يرُدُّ دعاؤه.

وقال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي - بعد كلام عن الرقية ونفعها –: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله وجمعيتّه عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً، فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً، وإما لحصول المانع من الإجابة؛ من أكل الحرام، والظلم، وَرينْ الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها!

الشك في الإجابة أو عدم اليقين منها مانع من إجابة الدعاء:

ورد في الترمذي وغيره مرفوعاً – بسند حسنه الألباني وضعفه غيره - عن سيدي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).

فعلى الداعي أن يرفع يديه لربه تعالى، موقناً، واثقاً من أن الله تعالى سميع قريب مجيب، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ولا يدعو بشك يعتوره، ولا تردد ينتابه، ولا على سبيل التجريب: لعل الله تعالى يستجيب (صابتِ أو خابتِ).

وقد أثر عن سيدي الفاروق رضي الله تعالى عنه كلمة بديعة تدل على يقينه في الله تعالى، وثقته بالإجابة: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن معه الإجابة!

كأنه يقول رضي الله عنه إن الموفق للدعاء لن يحرم القبول، وإن من ألهم دعوة صحيحة لن يرده ربه سبحانه!

ومجرد التردد، أو عدم العزم في الدعاء، أو الاسترابة، أمٌر خطأ رفضه سيدنا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ ففي البخاري عن سيدي أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه تعالى لا مستكره له).

لذا فإن من الأخطاء الشائعة بين العامة قوله: المغفور له إن شاء الله/ المرحوم إن شاء الله – على سبيل الدعاء والفأل لا القطع - بل لا بد من قول ذلك دون ذكر المشيئة، كما في الحديث الشريف..

استعجال الإجابة مانع للإجابة:

ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمل هحتى ذوى؛ فهل سيجني منه شيئاً بعد!؟

وفي البخاري من حديث سيدي أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي).

وفي صحيح مسلم من حديث سيدي أبي هريرة رضي الله عنه : (لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم؛ ما لم يستعجل)، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَّ يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء).

وفي مسند أحمد من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل)، قالوا: يا رسول الله كيف يستعجل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي).

قال ابن حجر في الفتح: قال ابن بطال:

المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخِّل للرب الكريم، الذي لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء!

ومعنى قوله يستحسر: ينقطع!

وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار؛ حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة! وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر - رفَعه – (من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة) الحديث أخرجه الترمذي بسند لين، وصححه الحاكم، فوهم..

قال الداودي: يخشى على من خالف وقال: قد دعوت فلم يستجب لي، أن يحرم الإجابة، وما قام مقامها من الادخار، والتكفير. انتهى، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه؛ فإنه متعبد بالدعاء، كما هو متعبد بالتسليم والتفويض!

وربما أدى استبطاء الإجابة، إلى الاستهانة بالدعاء، وعدم اعتباره، أو اعتقاد أثره، ثم اليأس وضعف اليقين في الله تبارك وتعالى، كما ذكرت أول هذه الورقات؛ فتأمل.

الدعاء بإثم مانع للإجابة:

الله تبارك وتعالى رب حليم، صبور، يحلم على العاصي، ويستره، ويصبر على أذاه..

وابن آدم كنود جحود، لا عقل له عند المعصية، ولا قلب في كثير من الأحيان، ومما يدهش أن بعض الناس يسأل الله تعالى أن يستره أو يعينه أو يوفقه وهو في طريقه لمعصية، أو أثناءها..

فتخيل معي لصاً في طريقه للسطو يقول: يا رب استرني، أو قوني، أو أعني!

وتخيل معي رجلاً في طريقه لسهرة معصية، يدعو الله أن يعينه ويقويه حتى يقضي ليلة لا تنسى؟

وتخيل رجلاً في طريقه لقبض رشوة، أو غصب شيء، يدعو ويدعو؟

فهل يجيب الله دعاءهم؟ مستحيل:

فقد روى مسلم والترمذي عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (لا يزال يستجاب للعبد؛ ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل)..

فدعاء الله تعالى في هذا المقام سوء أدب، وعدوان في الدعاء، واجتراء على الحرام، وادعاء للتدين، وظلم للنفس كبير!

الدعاء بقطيعة الرحم مانع للإجابة:

كثيراً ما اشتكى لي من دعاء زوج على زوجه، أو زوج على زوجها، بسبب خلاف، أو شجار، أو طلاق، أو نحو ذلك.. وبشكل فيه كثير من الحرقة والغلظة!

وكثيراً ما اشتكى لي من دعاء أم على ابنتها بالعنوسة، أو الترمل، أو المرض!

وكثيراً ما اشتكى لي من دعاء بنت ظنت أن أمها تؤذيها أن يهلك الله تعالى أمها، وينتقم منها أشد انتقام!

وكثيراً ما اشتكى لي من دعاء أحد أن يهلك الله عمه أو خاله، أو ينتقم من أخيه أو أخته، أو يفقره، أو يمرضه، أو يميته شر ميتة!

فهل مثل هذا الدعاء يجاب؟

إن الله تبارك وتعالى أرحم من أن يجيب ذلك، فقد روى مسلم والترمذي عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (لا يزال يستجاب للعبد؛ ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل).

ولا يستثنى من ذلك - والله تعالى أعلى وأعلم - إلا دعاء الوالدين على أحد من أبنائهما، إن كان عاقاً، قطوعاً، ظلوماً لهما:

فقد روى أبو داود عن سيدي جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تعالى ساعة نْيلٍ فيها عطاء فيستجيب لكم)!

جاء في فتوى في إسلام ويب حول هذه المسألة: دعوة الأم على ولدها من الدعوات المستجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده) رواه أبو داود والترمذي.

ولكن من فضل الله أنّ الدعاء الذي يصدر بغير قصد حال الغضب لا يستجاب، قال تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم). يونس: 11

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده: أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم، أو أولادهم؛ في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم – والحالة هذه - لطفاً ورحمة.

قال القرطبي في تفسيره: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة، والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأساً، قال الله تعالى: (إن تكونوا صالحين) أي صادقين في نية البر بالوالدين؛ فإن الله يغفر البادرة وقوله: ( فإنه كان للأوابين غفوراً) وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة.. والله أعلم.

كما أنّ استجابة دعاء الأم على ولدها تكون عند ظلم ولدها لها أو عقوقها، قال ابن علان: ودعوة الوالد على ولده، أي إذا ظلمه ولو بعقوقه.. وقال المناوي: وما ذكر في الوالد محله في والد ساخط على ولده لنحو عقوق..

لكن على الأّم أن تجتنب مثل هذا الدعاء، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الأولاد، كما ورد في مسلم عن سيدي جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تعالى ساعة نْيلٍ فيها عطاء فيستجيب لكم)!

تعطر المرأة خارج بيتها وانتشار ريحها مانع من القبول:

يحرص الإسلام على كرامة المرأة، ويحفظها من تعرض أهل الريبة والذين في قلوبهم مرض لها، أو إيذائها، فسدّ أبواب التحرش، ولفتِ الأنظار نحوها، فنهاها عن الاختلاط المتساهل، والثوب الكاشف، والعطر الجاذب، والصوت المتكسر، والمشية اللافتة، والنظرة الطالبة؛ لكونها أنواعاً من استدعاء الأنظار، ورسائل أنثوية ذوات دلالات..

وقد ورد النهي عن تعطر المرأة خارج بيتها، حتى ولو كانت ذاهبة للمسجد، ففي مسلم عن زينب امرأة سيدي عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما: قال لنا رسول الله صى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً).

وفي صحيح سنن ابن خزيمة، وصحيح الترغيب، عن عبيد مولى رهم قال: مرت بأبي هريرة رضي الله تعالى عنه امرأة وريحها تعصف، فقال لها: إلى أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد قال: تطيبت؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يقبل الله من امرأة صلاة، خرجت إلى المسجد، وريحها تعصف؛ حتى ترجع فتغتسل).

وفي مسند أحمد عن سيدي أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهم رفوعاً: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا رائحتها فهي زانية، وكل عين زانية) والشاهد هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من امرأة صلاة، خرجت إلى المسجد، وريحها تعصف؛ حتى ترجع فتغتسل).

ثلاثة لا يستجيب الله تعالى دعاءهم:

ثلاثة رجال:

وهناك أسباب أخرى يرد بها الدعاء، منها ما ورد في صحيح الجامع وغيره، عن سيدي أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأةٌ سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشُهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله، وقد قال الله عز وجل: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم). النساء: 5

وعدم استجابة دعاء هؤلاء إنما هو في خصومهم المذكورين في الحديث.

قال الُمناوي في فيض القدير:

رجل كانت تحته امرأةٌ سيئة الخلق فلم يطلقها، فإذا دعا عليها لا يستجيب له؛ لأنه المعذب نفسه بمعاشرتها، وهو في سعة من فراقها!

ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه فأنكره، فإذا دعا لا يسُتجاب له؛ لأنه المفرط المقصِّر بعدم امتثال قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة: 282

ورجل آتى سفيهاً - أي محجوراً عليه بسفَه - ماله، أي شيئاً من ماله، مع علمه بالحجر عليه، فإذا دعا عليه لا يستجاب له ؛ لأنه المضيع لماله؛ فلا عذر له! وقال الشيخ مشهور حسن سلمان في جواب عن سؤال: هل يفيد هذا الحديث وجوب طلاق المرأة السيئة الخلق، ووجوب كتابة الدين والإشهاد عليه؟

الجواب: نعم؛ فكتابة الدين واجبة؛ وهذا مذهب الحنابلة وهو أرجح الأقوال – على خلاف مستفيض في المسألة - وهو ظاهر القرآن، إلا إن وجد الرهن، أو إن كان الشيء قليلاً يتساهل الناس فيه إن لم يقض، وهو ليس من باب الدين، وأرى إلحاق صورة ثالثة، لو أن رجلاً أعطى آخر ديناً، وهو في نيته أن يتصدق عليه إن لم يرجعه، فما كتب لهذا الملحظ فهذا الأمر واسع.

أما المرأة السيئة الخلق فتطلق، وسوء الخلق له معانٍ كثيرة: الشتم، واللعن، والشكوى، وعدم الرضا، وإظهار القبائح والسيئات، وعدم العفو عن الزلات، والتقصير البشري المعتاد وما شابه، وفي قصة ابراهيم عليه السلام، مع زوجة ابنه اسماعيل لما سألها عن حالها، قالت: نحن في أسوأ حال، وفي شر حال، وشكت منه، فهذا سوء خلق، فقال ابراهيم عليه السلام: إن جاء اسماعيل فأقرئيه السلام، وأخبريه أن أباك يأمرك أن تغير عتبة بابك، فجاء فأخبرته الخبر، فقال لها اسماعيل: إن أبي يأمرني أن أطلقك، فطلقها!

ويقع بين الأزواج ما وقع بين النبي وأزواجه، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه جميعاً في المسجد شهراً كاملاً ، وخرج عليهم في اليوم الثلاثين، فلما قيل له: لم تتم الشهر، قال: (الشهر تسع وعشرون)، لكن تكون الحياة في الجملة على وجه فيه خير وتقدير واحترام.

ومن أسباب استقرار حياة الأزواج، أن يحترم الزوج أهل زوجته، وأن تحترم الزوجة أهل زوجها، فلا يذكر الزوج أهل زوجته إلا بخير، وألا تذكر الزوجة أهل زوجها إلا بخير، وأن يحترم الصغير الكبير، وأن يعرف حقه، فتعلم الزوجة أن حماها بمثابة أبيها، ويعلم الزوج أن حماه بمثابة أبيه، فإن وجد هذا فما بعده هين، أما إن غابت هذه الأخلاق، ولم يحترم الصغير الكبير، واعتدى عليه، ولم يوقره، فهذا من أهم أسباب الطلاق في هذا الزمان، والله أعلم.

وثلاثة رجال:

وثلاثة آخرون لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم؛ أي لا يقبل الله منهم صلاة ولا دعاء  – ومن معاني الصلاة في اللغة: الدعاء – وهم: العبد الفاّر من سيده (وهذا أمر انتهى بنهاية العبودية بحمد الله تبارك وتعالى) والمرأة التي تغضب زوجها وتؤذيه، والرجل الذي يؤم قوماً - في الصلاة وغيرها والله أعلم - وهم لا يرضون إمامته، ويكرهونها..

ففي صحيح سنن الترمذي وغيره عن سيدي أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعاً: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون).

وأزعم أن سخط الزوج ينبغي أن يكون لسبب وجيه، لا لهواه، ولا لأنه طلب منها معصية فامتنعت، ولا لسوء خلقه هو، وسرعة غضبه من أي شيء، ولأي سبب، وإلا فإن كثيراً من الرجال يسيء لزوجته، ثم يهددها بأنه غير راضٍ عنها، وأن الملائكة تلعنها، وقد سمعت هذا من سيدات أزواجهن لا يصلون، ولا يعرفون الله، ولا يذكرون من الدين إلا هذه، بينما يتجاهلون حق المرأة، ويزدرونها ويسيئون معاملتها، فهل تبيت هذه في سخط الله تبارك وتعالى أيضاً؟

قال الشيخ عبد الرحمن السحيم في معنى (وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط):

ولا يعني هذا أن تسُخط المرأة زوجها، فإنها إذا أسخطته باتت في غضب الله؛ خاصة ما يتعلق بأمر الفراش، فإن بعض النساء إذا قصّر زوجها في حقها قصّرت في حقه، والواجب عليها أن تؤدي ما عليها، وتسأل الله الذي لها. قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها. رواه مسلم. وقال: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح). متفق عليه.

هذا الذي يوجب سخط الله وغضبه، ولعنة الملائكة، أما أن يدُّعى أن الله يسخط لسخط الزوج كلما غضب، ولو لأتفه الأسباب، فهذا أمر بعيد. وقد وقعت المغاضبة بين علي وفاطمة رضي الله عنهما. وإذا قال لك هذا الحديث (ثلاثة..) فقولي له: إني سألت عن هذا الحديث، فقيل لي: إنه حديث ضعيف، وممن ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله.

ولو صح الحديث فليس فيه إلا الوعيد على من (باتت) أي أمضت ليلتها وزوجها ساخط عليها، وهذا يحُمل على أمر الفراش كما تقدم. وقد قال عمر رضي الله عنه لابنته حفصة رضي الله عنها: أي حفصة: أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم. الحديث. رواه البخاري ومسلم. وهذا مما يجري بين الأزواج، ومع ذلك لم يقل لهنّ النبي صلى الله عليه وسلم إن صلاتكن لا تقُبل.

وأما عن قوله صلى الله عليه وسلم: (وإمام قوم وهم له كارهون) فما المراد بالإمام؟

قال في نيل الأوطار: باب صفة الإمامة: وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضاً، فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه. ويدل على التحريم: نفي قبول الصلاة، وأنها لا تجاوز آذان المصلين، ولعن الفاعل لذلك. وقد ذهب إلى التحريم قوم، وإلى الكراهة آخرون.

وقد روى العراقي ذلك عن علي بن أبي طالب والأسود بن هلال وعبد الله بن الحارث البصري، وقد قيد ذلك جماعة من أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي، فأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضاً بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين والثلاثة؛ إذا كان المؤتمون جمعاً كثيراً؛ لا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة.

وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي؛ لأن الغالب كراهة ولاة الأمر. وظاهر الحديث: عدم الفرق والاعتبار بكراهة أهل الدين دون غيرهم؛ حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم.

قال الإمام النووي في المجموع: وإنما تكره إمامته إذا كرهوه لمعنى مذموم شرعاً؛ كوالٍ ظالم، وكمن تغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها، أو لا يتصّون من النجاسات، أو يمحق هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشة مذمومة، أو يعاشر أهل الفسوق ونحوهم، أو شبه ذلك، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا كراهة؛ هكذا صرح به الخطابي، والقاضي حسين، والبغوي، وغيرهم.ا.ه .

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى:

إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه مثل كذبه، أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته ونحو ذلك، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه مثل أن يكون أصدق، وأعلم، وأدين؛ فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دابارا،ً ورجل اعتبد محرراً.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع ( 4/354 : (وأفادنا قوله: "بحق" أنهم لو كرهوه بغير حق، مثل: لو كرهوه لأنه يحرص على اتباع السنة في الصلاة فيقرأ بهم السور المستحبة المسنونة، ويصلي بهم صلاة متأنية، فإن إمامته فيهم لا تكره، لأنهم كرهوه بغير حق فلا عبرة بكراهتهم! وينبغي له إذا كانوا يكرهونه بغير حق أن يعظهم، ويذكرهم، ويتألفهم، ويصلي بهم حسب ما جاء في السنة، وإذا علم الله من نيته صدق نية التأليف بينهم يسر الله له ذلك.ا.ه .

وقد وردت في أحاديث ثلاثية أخرى زيادات، منها:

*حديث سيدي أنس رضي الله تعالى عنه في السلسلة الصحيحة، مرفوعاً: (ثلاثة لا يقبل منهم صلاةٌ، ولا تصعدُ إلى السماءِ، ولا تجاوز رؤوسهم: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، ورجل صلى على جنازة ولم يؤمر، وامرأةٌ دعاها زوجها من الليلِ فأبت عليه)!

والزيادة فيها هو: (ورجل صلى على جنازة ولم يؤمر) ربما لأن أهل الميت في كرب، وبكاء، ولا يحتملون أن يصلي على ميتهم من لا يرضونه، وهم ربما توسموا في صالح أن يصلي على ميتهم فدخل هذا، مسيئاً غير مشكور، والله أعلى وأعلم.

*ومنها ما ورد في الترغيب والترهيب عن سيدي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، مرفوعاً: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأةٌ باتتَ وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) والزيادة هنا: (وأخوان متصارمان) أي متهاجران متقاطعان، لأنه (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان: فيصدُّ هذا، ويصدُّ هذا ، وخيُرهما الذي يبدأُ بالسلامِ)!

فمغاضبة مسلم فوق ثلاثة غلو في الخصومة، ولا يرضى الله تعالى به، ويرد عمل صاحبه!

قال النووي في شرحه على مسلم: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال، وإباحتها في الثلاث الأول بنص الحديث، والثاني بمفهومه. قالوا: وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة ليذهب ذلك العارض.

وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول: لا يحتج بالمفهوم ودليل الخطاب.

الذين لا يقبل منهم صرف ولا عدل، ولا دعاء ولا رجاء:

ما معنى: الصرف والعدل؟

تكرر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أشخاص لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلا،ً فما الصرف والعدل، وهل منها الدعاء، كما أرجّح؟

قال الإمام الشوكاني في تفسيره: فتح القدير، في تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً) الفرقان: 19 . (باختصار مني):

قال الله تعالى - عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله سبحانه –(فقد كذبوكم) أي: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون أي: في قولكم إنهم آلهة (فلا يستطيعون) أي: الآلهة (صرفاً) أي: دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل: حيلة.

وقيل: المعنى: فما يستطيع هؤلاء الكفار - لما كذبهم المعبودون - صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به، ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ (تستطيعون) بالفوقية، وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية.

وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصراً لأنفسهم، بما ينزل بهم من العذاب، بتكذيبهم إياكم.

وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون). البقرة: 48

قال سيدي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: بدل، والبدل: الفدية. وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العذاب، يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهباً تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم/ باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها:

حدثنا عاصم قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم؛ ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)!

قال المازري: اختلفوا في تفسيرهما، فقيل: الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة،

وقال الحسن البصري: الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة، عكس قول الجمهور!

وقال الأصمعي: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية!

وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، قال: وقد يكون معنى الفدية هنا: أنه لا يجد في القيامة فداء يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح.

ويتضح أن أكثر ما ورد تفسير الصرف والعدل، فبمعنى النافلة والفريضة، ولا شك أن الدعاء داخل في المعنيين ضرورة، فهو عبادة، والعبادة إما فريضة، وإما نافلة، فإذا كانت الصلاة لا تقبل، وإذا كان الصيام لا يرتفع، فالدعاء كذلك والله أعلى وأعلم؛ إلا بعد توبة صادقة، وانخلاع من الذنب، وانكسار نفس يعلم الله تعالى منه صدق نية العبد، فيتوب سبحانه وتعالى عليه.

فما هي الذنوب التي لا يقبل الله تعالى بها من العبد صرفاً ولا عدلا ؟ً

العقوق والمن والتكذيب بالقدر موانع من الإجابة؟

هذه ثلاثة موانع أشار إليها سيدي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح الترغيب وغيره عن سيدي أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً : عاق، ومنان، ومكذب بقدر).

وورد الحديث نفسه في كتاب البر والصلة للمروزي في باب عقوق الوالدين عن سيدي أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعاً: (أربعة لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق، ومنان، ومدمن الخمر، ومكذب بقدر).

فأما العاق فهو الذين يسيء لأبويه أحدهما أو كليهما، بقول أو فعل أو إشارة أو تمعر وجه أو حتى بتأفف، ويشتد الأمر لو حرمهما - في حاجتهما – أو سبهما، أو ضربهما!

وأما المنان فهو المتفاخر بالعطية على المعطى، والمعدد ما منحه، يقول له: أعطيتك وأعطيتك، وفعلت لك وفعلت!

والمن بهذا المعنى مذموم قبيح، مبطل لثواب العمل محبط له، ومن ذلك دعاء المنان لو دعا، فإن ربه تبارك وتعالى يرد عليه دعاءه، قال في الدرر السنية:

القسم الثاني (من معنيي المن): وهو أن يمن الإنسان بالعطية، أي: يذكرها ويكررها، فهو المذموم. ومنه قوله تعالى: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) البقرة: 264، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان: الذي لا يعطي شيئاً إلا منه، كذا جاء مفسراً في كتاب مسلم، والمنان أيضاً: الذي يمن جل وعز على الله بعمله، وهذا كله في حق المخلوق حرام مذموم، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة منان) صحيح الجامع وغيره.

وأما المدمن فمعروف مشتهر، والإدمان من بلاءات عصرنا المستبيح للخمر، الذي جعلها آية تحضر واستنارة، وتفننَ في أشكالها: ما بين سائلة وجامدة، ومستنشقة ومستعطة، ومحقونة وممضوغة، وفق المعنى الشرعي الذي يجعل الخمر كل ما خامر العقل، أو خمره (غطاه) نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء وسوء القضاء، وشماتة الأعداء!

وهؤلاء النفر الثلاثة مردودو الدعاء، لا يقبل منهم صرف ولا عدل بنص الحديث الشريف، اللهم إلا إذا تابوا التوبة النصوح، وأقلعوا عما هم فيه، وعلم الله في قلوبهم خيراً، فإنه سبحانه لا يرد عبده التئاب خائباً حسيراً، والله تعالى أعلى وأعلم وأرحم.

التنصل من الأب، والانتساب لغيره من الموانع:

التنكر للأب، وعقوقه لدرجة التبرئ من اسمه، والانتساب لغيره، من الأمور العظيمة التي يرد بها دعاء الداعي؛ مهما ألح وجأر، وداوم على الدعاء واستمر..

ففي مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله بسند صحيح مرفوعاً: (من ادعى إلى غيرِ أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً) .

وفي البخاري عن سيدي سعد رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ادعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير أبيه - فالجنة عليه حرام)!

وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قا: ( لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر).

قال في فتح الباري: المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه؛ عالماً عامداً مختارا،ً وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره، ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه، حتى نزل قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله) وقوله سبحانه وتعالى: ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم) فنسب كل واحد إلى أبيه الحقيقي، وترك الانتساب إلى من تبناه، لكن بقي بعضهم مشهوراً بمن تبناه، فيذكر به لقصد التعريف لا لقصد النسب الحقيقي، كالمقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه، واسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، وكان أبوه حليف كندة فقيل له: الكندي، ثم حالف هو الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبنى المقداد.

قال: وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر، التي يخلد صاحبها في النار.

وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله، كأنه يقول خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك؛ لأنه إنما خلقه من غيره، والله تعالى أعلى وأعلم..

المبتدع في المدينة المنورة أو من يحمي المبتدعة:

لا بد أن يبقى الحرمان الشريفان طاهرين مطهرين آمنين، لا مجال فيهما لبدعة، ولا حدثٍ ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه، لأنهما مهبط الإسلام، ومربعا الوحي، ومنشأ الصحابة، ومنطلق الإسلام، وقد شدد الحبيب صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى، وغلظ عقوبة من يلوث نقاء الحرمين ببدعة أو انحراف:

ففي البخاري عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: (ما عندنا إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.

وقال: ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقُبل منه صرف ولا عدل..

ومن تولى قوماً بغير إذن مواليِه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقُبل منه صرف ولا عدل)!

فهنا ثلاث خصال لا يقبل من صاحبها صرف ولا عدل/ نافلة أو فريضة/ توبة أو فدية/ صلاة أو دعاء:

1. الابتداع والإحداث في المدينة..

2. إخفار ذمة المسلم..

3. وتولي قوم لا يجوز له أن يتولاهم.

قالوا للحسن البصري: ما الحدث؟ قال: أصحاب الفتن كلهم محدثون.

فلا يجوز أن يظهر الروافض والخوارج ومنكرو السنة وعبدة القبور ومن شابههم شعائرهم فيها، ولا أن يدنسوا نقاء المدينة وطهرها..

ومن أعانهم على ذلك، وثبتهم، وشجعهم، ورضي بهم فهو مثلهم ولا كرامة: عليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً!

الذي يستخدم معسول الكلام لصرف وجوه الناس إليه:

العالم والشاعر والفصيح والخطيب الذي يستخدم بلاغته في استمالة الناس لمماراة العلماء، أو استمالة السفهاء، أو لمصلحة نفسه، ووجاهته في الخلق، أو لتمرير باطل، أو إضعاف حق أو إبطاله، ممن ترد دعواتهم، ولا يقبلها الله رب العالمين، وهو أعلى وأعلم:

فقد روى أبو داود وغيره بسند فيه ضعف - وحسنه بعضهم - عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه: (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)..

وجاءت نصوص كثيرة تقبح ذلك وترفض هذا الخلق، ففي صحيح ابن ماجه وغيره عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة)..

وفي صحيح الترغيب عن سيدي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (من طلب العلم، ليباهي به العلماء، ويمارِي به السفهاء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه ، أدخله الله جهنم).

قال في عون المعبود في شرح سنن أبي داود:

قال الخطابي: صرف الكلام فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه وراء الحاجة، ومن هذا سمي الفضل من النقدين صرفاً، وإنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع، ولما يخالطه من الكذب والتزيد، وأمر أن يكون الكلام قصداً ببلوغ الحاجة، غير زائد عليها، يوافق ظاهره باطنه، وسره علانيته!

(ليسبي): أي ليسلب ويستميل (به): أي بصرف الكلام (صرفاً ولا عدلاً): في النهاية: الصرف التوبة أو النافلة، والعدل الفدية أو الفريضة!

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية والمنح المرعية عن كراهة التشدق في الكلام:

وصرف الحديث ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة، وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنع، ولما يخالطه من الكذب والتزيد. يقال: فلان لا يحسن صرف الكلام أي فضل بعضه على بعض، وهو من صرف الدراهم وتفاضلها، ذكره في النهاية.

والصرف: التوبة، وقيل: النافلة، والعدل: الفدية، وقيل: الفريضة. وتكررت هاتان اللفظتان في الحديث.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقر بلسانها) إسناده جيد، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. قال في النهاية: هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً!

وروى الترمذي ..... عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)..

قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين؛ فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون)!

المسلم الذي يفرح لأنه قتل مسلماً، مردود دعاؤه:

ففي صحيح سنن أبي داود عن سيدي أبي الدراداء وعبادة بن الصامت، مرفوعاً: (كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً) وعن سيدي عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً: (من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) وعن سيدي أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح)!

قال الطبراني في مسند الشاميين: ..... سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ثم اغتبط بقتله) قال: هم الذين يقتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أنه على هدى، ولا يستغفر الله منه أبداً!

وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في دم المسلم، وحرمته، والتغليظ في الاجتراء عليه، قال المنذري رحمه الله في كتابه الترغيب والترهيب/ الترهيب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق:

فعن سيدي ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وللنسائي أيضاً بسند صحيح لغيره مرفوعاً: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)!

وفي مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)!

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)..

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله) رواه البخاري وغيره.

وعن سيدي معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

ومن حديث سيدي ابن مسعود رضي الله عنه، عن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء المقتول آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان. قيل: هي لله!

وقد ابتلينا في القرون الأخيرة بحضارة دموية قاتلة، قتلت في القرن العشرين وحده  –باسم الحضارة والاستنارة والحرية – ثلاثمائة مليون إنسان، وتستمتع بقتل المسلمين وإبادتهم وتدمير دولهم حول العالم! وكم من الملايين قتلت في أفغانستان والشيشان والبلقان وباكستان والعراق وسوريا وفلسطين وغيرها..

وقد سلطت هذه (الحدارة) وكلاءها الحكام العسكر على دماء المسلمين؛ حتى إننا رأينا بعد انقلاب 30 يونيو على الرئيس مرسي قتلة يقفون لصيد الأرواح كأنهم يصيدون الحمام، لا يتقون الله في مسلم، ولا يراعون طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، هذا غير ألوف جرحوا جراحات خطيرة – وفي بلد واحد – ناهيك عن ملايين من الجرحى والمشوهين والمبتورين في بلاد أخرى من بلاد المسلمين..

بل كان بعضهم يتخصص في قنص (العيون) رغم كونه شاباً في عشرينياته؛ فكيف سيكون هذا وأمثاله إذا تدرجوا في وظائفهم، وتمكنوا وتجذروا، ألن يكون فرعون الذي ذبحّ جيلاً كاملاً من الأطفال أشد رحمة وآدمية من هذه الضباع البشرية مصاصة الدماء، القرمة للحم الإنساني؟

مدمن الخمر المتردد عليها لا تقبل صلاته أربعين يوماً:

فقد أخرج أحمد والنسائي والترمذي وغيرهم عن سيدي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (من شرب الخمر فسكر لم تقُبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر، لم تقُبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقُبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخَبال يوم القيامة) قالوا : يا رسول الله: ما طينة الخبال؟ قال: (عصُارة أهل النار)!

قال في حاشية السندي على ابن ماجه: (أربعين صباحاً) قال السيوطي في حاشية الترمذي: ذكر في حكمة ذلك أنها تبقى في عروقه وأعضائه أربعين يوماً، نقله ابن القيم. قوله: ( من دَرغة الخبال) قال السيوطي: ويكون في الأفعال والأبدان والعقول، وقد جاء مفسراً في الحديث بعصارة أهل النار، وهي صديدهم.

وظاهره أنه لا تقبل توبته في هذه المرة، وقد جاء ذلك مصرحاً أيضاً، وهو مشكل؛ إلا أن يريد أنه لا يوفق للتوبة في هذه المرة كما في المرات الأول . أ.ه.

ودائماً نقول إنه لا ذنب أكبر من أن يغفره الله تعالى عدا الموت على الشرك والعياذ بالله رب العالمين، وقد ورد في صحيح سنن ابن ماجه: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) والله تعالى أعلى وأعلم. وفي القرآن الكريم ما هو أقوى في الدلالة؛ في قوله عز من قائل: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً ررحيماً). الفرقان: 70

وأختم هنا بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيتين أعجباني للعالم أبي منصور البغدادي، وجدتهما في تبيين كذب المفتري:

وسوم: العدد 623