صور من تأذّي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن 19

من أهل الكتاب والكفار وضعاف الإيمان

المقال التاسع عشر

من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء  على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه

سورة الزُّخرُف

                                           [ الآيتان 31- 32]

( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ).            

    رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذؤابة من بني هاشم، وبنو هاشم الذؤابةُ من قريش. وقريش سيدة العرب، وأهلُ البيت والحرم، فهو عليه الصلاة والسلام معروف بكريم المحتد

وشرف الأصل.

لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رئيس قبيلة أو زعيم عشيرة، فما الذي يجعله نبياً وما الذي جعله أهلاً لأن يكون رسولاً لله

أفليس هناك رؤساء للقبائل والعشائر أكثر نفوذاً وأموالاً؟!! فلماذا لا يكونون أكثر أهلية للرسالة.؟

هذا الوليد بن المغيرة في مكة يملك المال الوفير، ويسيّر القوافل لتجارته الخاصة في كثير من الأحيان، وهو أكبر عمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله من الأولاد عدد كبير، يسمع

الجميع كلمته، إن دعا الناس إلى الرسالة الجديدة أجابوه، وإذا تكلم أنصتوا له، زعيم عشيرته، يأمر فيطاع ،وينهى فيمتنع الناس. إذا دخل قام الناس، وإن جلس جلسوا.. يعرف الشعر.. مطّلع على الكهانة، يحسب أهل قريش كلهم حسابه فهو رأس بني مخزوم.. والكل يعرف من بنو مخزوم؟!!

وهذا عروة بن مسعود الثقفي من بني ثقيف. أهل الطائف، له من المكانة، والأثر بين قبيلته ما للوليد بن المغيرة في مكة، وكلاهما يشار إليه بالبنان، وترنو إليه العيون، فَلِمَ لَمْ يكن أحدهما النبي؟! ولماذا خصَّ الله ابن عبد الله بن عبد المطلب بها؟..

تساؤلات كثيرة تخطر على عقول أهل مكة، وتحوم حول قلوبهم.. لكن الرسالة التي يريدها الله أن تصل إلى الناس تحتاج إلى إنسان له صفات غير هذه الصفات، تحتاج إلى عقل مستنير، وقلب كبير، وإيمان عميق، وإخلاص متفانٍ، وتحمُّلٍ للأعباء. تحتاجُ إلى جلَد وصبر وإنسان سار منذ الصغر على درب نظيف، لا يعرف مفاسد المجتمع، رُبِّيَ على حب الفضيلة، وعشق المثل العليا، وكره سفساف الأمور. تحتاج إلى رجل يسمو فوق الشهوات ويعمل على انتشال البشرية من وهدة الضلال، وقيادتها إلى ميزان الفضائل... لا تحتاج إلى مال وفير، ولا عشيرة كبيرة،

 فالإيمان لا تفرضه القوة ولا تدفع عنه الأحساب.

 والإيمان يحتاج إلى رسوخ في العقيدة وتصديق لها في العمل، وطهارة في النفس وبذلٍ لا حدود له، ولكن حسب الاستطاعة..

ولماذا تكون النبوة في أولئك؟ ولم يبلغوا من الطُهْرِ والصدق والمناقب ما يؤهلهم لذلك..

 والدين الذي يريده الله سبحانه وتعالى لإصلاح البشرية، يختار الله له من يشاء من عباده الذين يحملون قِيَماً ترضى عنها السماء، لا علاقة لها بقيم الناس المتواضع عليها في الأرض،

 وليتهم يعرفون ذلك  من قصة اختيار أحد أنبياء بني إسرائيل طالوت ملكاً، فاعترض الناس بقيمهم الأرضية على هذا الاختيار

 ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَال)  (1) ؟ فهم بقيمهم الأرضية أحق بالملك منه..!! لماذا... هو من طبقة يرون أنهم أفضل منها.. وهناك عامل آخر.. إنه المال. .. المال الذي تخضع له رقاب الضعفاء من الناس، وما أكثرَهم؟!!

فنبههم الله تعالى إلى أنه صاحب الدين وهو الذي يختار من يراه مناسباً لحمل رسالته ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)  (2). ففي طالوت صفتان مناسبتان (القوة والعلم) ومن حازهما كان أهلاً لحمل الأمانة..

ثم إنهم بشر لا يملكون لأنفسهم شيئاً، بل لا يملكون أنفسهم، فالله خلقهم ورزقهم، وقدَّر أقواتهم،

وأعطاهم ما يشاء، ومنع عنهم ما شاء.. فليس لهم الخيار في كل هذه الأمور.. ومع ذلك فهم يتناسَوْن كل نقصهم وضعفهم، ويتناسون مكانتهم ويسألون بوقاحة: لِمَ كانت النبوة للرسول عليه الصلاة والسلام!!!

 إن الرسالة رحمة لصاحبها أولاً، ولمن حوله ثانياً.. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن إلا رحمته للعالمين. فكان اختياره- سبحانه وتعالى- للرسول محمد- صلى الله عليه وسلم اختيار تزكية، واختيار تعليم، اختاره بعد أن جَبَلَهُ على حسن القيام بهذه المهمة العظيمة.. وكان أهلاً لها .

ورحم الله شوقي فقد وضع في أبياته هذه الملحَ على الجرح.

فكان بيانه بلسماً للجروح وعبيراً للقلوب:

حسدوا، فقالوا: شاعر أو ساحر

                             ومن الحسود يكون الاستهزاءُ

جرت الفصاحة من ينابيع النهى

                                من دوحه، وتفجر الإنشاء

في بحره للسابحين به على

                               أدب الحياة وعلمها إرساء

الله هيأ من حظيرة  قدسه

                              نزلاً لذاتك لم يجُزه علاءُ

العرش تحتك سدةً وقوائماً

                         ومناكب الروح الأمين وطاء

والرسلُ دون العرش لم يؤذن لهم

                               حاشا لغيرك موعدٌ ولقاء

(1) سورة البقرة: الآية 247.

(2) سورة البقرة: الآية 247.

وسوم: 636