صور من تأذّي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن 22
من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة المُجادِلة(2)
[ الآية 14- 19]
بسم الله الرحمن الرحيم
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
* * *
المنافق: الذي يظهر غير ما يبطن كي يستفيد من المتناقضات، فهو يظهر الإسلام في قوة المسلمين لينالما ينالون من خير، ويبطن الكفر لتسلك أموره عند إخوانه من الكفار.. وتراه يغشى مجالس المسلمين ليضرب عصافير بحجر... فهو- أولاً- يجاريهم ليظنوه منهم ويأمنوا إليه و- ثانياً- يتعرف إلى ما عندهم ليوصل ما علمه إلى أعداء المسلمين ليمكروا بهم. و- ثالثاً- هو ضعيف النفس خوّار، يتستر بالكذب والدجل ليصل إلى منافع مادية إن- وجدها- عند المسلمين لا يحصل عليها بغير هذا.
فالمنافقون يتولون الكفار، ويجدون الراحة النفسية
معهم لأنهم منهم، أما مع المسلمين فمتكلفون، الصلاة ثقيلة عليهم، انتصار الإسلام يفري أكبادهم، ويقلق راحتهم فيتكلفون الابتسام وإظهار التدين وحب الله والرسول وكره الكافرين.. وهذا يزعجهم فيتحملونه مرغمين.. يندسون في صفوف المسلمين ليموِّهوا على أعمالهم واسوداد قلوبهم. لكن أعمالهم تفضحهم..
فلا يستطيع الإنسان أن يملك نفسه الوقت كله وأن يواري ما في نفسه الزمن الطويل.. لا بد أن تظهر حقيقة الإنسان من فلتات لسانه ونظرات عينيه، وانتفاض جسمه، والحركة غير الإرادية، والتنفس المضطرب، وموالاة الكافرين، وعلى رأسهم أعداء الله المغضوب عليهم اليهود.. إذ كيف يوالي المسلم قوماً حادُّوا الله ورسوله وشاقوهما وأظهروا عداوتهما..
فلا يوالي أحد أحداً إلَّا إذا كان مثله من طينته نفسها فكراً، وقلباً وعملاً. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1) .
وبما أن المنافق لا يستطيع التخلي عن بني عقيدته لأن قلبه الأسود معهم وعاطفته الخبيثة لا تأنس إلَّا إليهم.. فإنه يعتذر بأعذار واهية تعزز- وهو واهمٌ ظانٌّ- موقفه أو هذا ما يظن- فهو يخشى إن انقلب الوضع أن يخسر موقعه وحياته.. ويبرر علاقته الوحيدة بهم بأعذار يكشف
بها- دون أن يدري- نفسه وإيمانه المتلاشي- ولا نقول إيمانه الضعيف، فهو عديم الإيمان- فلو كان يؤمن بالله حق الإيمان لعلم أن الله ينصره حين يكون قويَّ العقيدة ثابت الإيمان بها- وأنه لا يصيبه إلَّا ما قدر الله له وأن العاقبة لدين الله ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (1).
قال السدي: نزلت الآية ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم ...) (2) في عبد الله بن أُبي وعبد الله بن نَبْتَل المنافقين. كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى يهود- فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذا قال: " يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان " فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية.. فقال عليه الصلاة والسلام " علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه. فنزلت هذه الآية..
ألم يقل المنافقون في سورة التوبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو أذن " نقول فيه ما نشاء ثم نحلف فيصدق.. وغاب عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفهم ويعرف أنهم كاذبون- ولكنه يتركهم ليزداد إثمهم فيستحقوا النار، ولأن إبقائهم لا ضرر فيه ولو أنهم عقلوا ما كانوا مع اليهود..
مهما خدم المنافقون اليهود، وقدَّموا لهم ما يريدون ولو خرجوا من جلودهم وأعلنوا كفرهم فلم يعتبرهم اليهود منهم..
فاليهود- في معتقدهم- أنهم شعب الله المختار- وأن الناس- ومنهم المنافقون حيوانات خلقها الله على هيئة بني آدم ليخدموهم.. أفلا يعقل المنافقون وضعفاء الإيمان..؟؟!!.
لذلك قال تعالى( مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ )(1) ، فالمنافقون حيث لم تخالط بشاشة الإسلام نياط قلوبهم ليسوا من المسلمين وبما أن اليهود نسيج وحدهم فهم يعتبرون المنافقين خولاً لهم وليسوا منهم..
جعل المنافقون الأيمان الكاذبة طريقاً إلى الرسول- لكنَّ الله فضحهم ولم يصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبون أنهم يستجِنُّون بها- ويتقون القتل.. ولكن الكذب لا ينجي وإن فعل فإلى حين، حيث يظهر المستور وتنجلي الأمور.
(1) سورة المائدة: الآية 51.
(1) سورة المائدة: الآية 52.
(2) سورة المجادلة: الآية 14.
(1) سورة المجادلة: الآية 14.
وسوم: 640