وانطفأت شمعة

د. محمد أبو زيد الفقي

مات عبد السلام تحت عجلات جرار زراعي وترك زوجة هي حميدة وثلاثة أولاد هم أحمد وعلي وزهرة ، ولم يترك لهم من حطام الدنيا إلا الحطام، لكن حميدة قررت أن تُعلَّم أبناءها، وأن تعمل خادمة في البيوت ، وعاملة في المزارع.

وبالفعل انتظم أحمد وعلي  في الدراسة حتى حصلا على دبلوم الصنايع ، ووصلت زهرة إلي الصف  الثاني الثانوي ، لتحقق في التعليم  آمال أمها وأبيها ، لكن حميدة مرضت مرضاً لا يُرجى برؤه، فكان لا بُد لها من عمل غسيل كُلوي ثلاث مرات في الأسبوع.

لم يجد أحمد وعلي أمامهما لعلاج أمهما والإنفاق علي أختهما سوى العمل في المزارع الموجودة بالقرية، وكانت حميدة تذهب للغسيل الكلوي يوما ، وتستريح يوما  وفي يوم الراحة كانت تشاهد  البرامج الدينية  في التلفزيون ، وأحيانا كانت تشاركها زهرة في هذه المشاهدة ، وعن طريق المشاهدة انبهرت حميدة وابنتها ، بالدكتور هجرس العويل ، وتحول الانبهار إلي إعجاب ، والإعجاب إلي حب طاهر ، غايته احترام العلم والعلماء.

ومضت زهرة في دراستها تنتقل من عام إلي عام بتفوق وتخرجت من الجامعة بترتيب الأولي علي كلِّيتها ، والأولي علي الجامعة ،  وكُرِّمت في عيد العلم وأعطاها رئيس الجمهورية جائزة التفوق ، وذاع صيتُها في مصر ، وعُيِّنت معيدة في إحدى الكليات ، وبدأت دراستها العليا في قسم أصول الدين، وفي أول يوم في الدراسة فوجئت بأنها تجلس وجها لوجه أمام الدكتور  هجرس العويل ، الذي طالما حلُمت بالسلام عليه ، أو الجلوس بين يديه ، وبدأت الدراسة  وبعد فترة  شعرت نحوه بشعور غريب ، شعرت أنه  يحقد عليها ، ويسفِّه آراءها ، ويقتل أحلامها ، ويسرق أملها في التفوق ، وجاء الامتحان التحريري ، وكانت الأولي كما تعوَّدت ، وفي الامتحان الشفوي جلست بين يدي هجرس وزميل له أكثر منه شراسة ، وسألوها وأجابت كأحسن ما تكون الإجابة ، ووجهت نقداً إلي بعض الآراء التي لا تنسجم مع القرآن الكريم ، ولا السنة الصحيحة التي لا تعارضه.

وقال لها هجرس : أنت إجاباتك صحيحة ولكن لا يمكن لنا أن نعطيك درجة النجاح من أول مرة.

قالت: إذا كنت أستحقها فلماذا لا أحصل عليها ؟

 قال هجرس: لأنك لن تكوني أفضل من أساتذتك الذين لم ينجحوا إلا في المرة الرابعة.

قالت: وما علاقة ذلك بالعدل الذي أرسى الإسلام قواعده في العالم كله ، وأنا سمعتك في التلفزيون تشرح العدل وتعتبره جوهر الإسلام ، وقلب الإيمان ، وأنا لو رسبت بعد  كل المجهود الذي بذلته في المذاكرة ، ومقاومتي لظروف أسرتي وآلام الحزن الذي يهزَّني بعنف علي مرض أمي الذي لا علاج له ، ولا أمل في شفائه ، لو رسبت بعد   كل ذلك يصبح هذا   ظلما فادحا و كارثة لا قِبل لي بها.

قال هجرس : أنت تتهميننا بالظلم ، والله لن تنجحي أبداً في هذا القسم مهما كانت الظروف.

عادت زهرة إلي قريتها ، والحزن يعتصرها ،تكاد تفقد عقلها مما حدث وبعد أيام أصيبت بارتفاع في درجة الحرارة ، وقيء ، وألم لا حدود له ، وذهبت إلي الطبيب وشخَّص لها المرض ، بأنه قرحة في المعدة ، وسألها عن الأسباب ، وقصت عليه ما حدث ، لكنه طمأنها ، بأن الامتحانات التالية ستكون أفضل ، وأنه لا يمكن لأستاذ في الجامعة ، أن يفقد عقله وعدله ، لأن العدل قيمة إنسانية لا غنى عنها للبشر ، بل أحيانا نجده عند الحيوان.

        

ومضت الأيام وفي كل الامتحانات يقول د . هجرس العويل لزهرة ، ما يقوله لها في الامتحانات السابقة لا يمكن أن تنجحي طوال وجودي في الجامعة ، وبعد استنفاد مرات الرسوب في أربع سنوات ، حوَّلت الجامعة زهرة إلي عمل إداري ، وماتت أمها  وخرج أخويها إلي بلد عربي ، وأصبحت زهرة وحيدة  لا تجد تفسيرا  لما حدث ، وفي يوم من الأيام سألت أحد الأساتذة من الذين كانوا يعطفون عليها:

ـ هل ما حدث أمر طبيعي ، وهل هذا الأستاذ يؤمن باليوم الأخر ، وبالحساب ، حتى علي حبة من خردل ، أو ذرة ، أو أكبر من ذلك أو أصغر ؟!

قال الأستاذ : يا ابنتي الخير كثير في معظم الأساتذة ، ولكنك وقعتي مع رجل ، نشأ نشأة سيئة ، فقد كان أبوه حنوتيًّا [ لحَّادا ] وكان يقطِّع الموتى  ويعطي الأجزاء لابنه ليوزعها علي طلبة الطب ، ولكنه وصل في النهاية إلي هذا المنصب ، وهناك حكمة تقول : [ لا تعلموا أبناء السفلة العلم ]. فهؤلاء يغلبهم طبعهم الحقير ، ولا يُدخْلون الله  في معادلة حياتهم . ولكنك  لماذا لم تشتك من أول يوم قال لك فيه ما قال؟

قالت : شكوت في كل مكان ، وكان الرد أن هذا عالم كبير وإمام جليل ، وأنت تدَّعين عليه لأنك لم تذاكري كما يجب . وآخر شكوى رفعتها لله تعالى ، وأعيش على أمل أن يردَّ اللهُ تعالى علي شكوتي ، ويثلج صدري بانتقامه من الظالم.

ذاع صيت د. هجرس العويل ، بسبب شدته وقسوته ، وعدم وجود من يردُّه إلي صوابه ، ووصلت السمعة إلي أقربائه في إحدى المدن ، وطلبوا منه زيارتهم ، فأعد العدة وجمع الهدايا ، واشترى سيارة فارهة وفاخرة  لهذا الغرض ، وأخذ معه زوجته وأولاده الثلاث  ولم يكن له غيرهم في الدنيا  ، وركب الجميع في السيارة وهم في غاية الزهو والفرح . وفي منتصف الطريق الذي يجاور  ترعة عميقة  كبيرة ، تركت السيارة الطريق العادي ، واندفعت بكل قوة وسلاسة إلي قاع الترعة ، وهلك هجرس وأسرته في لحظات ونُشر الخبر في كل الصحف ، وقرأته زهرة ، وهي تتلوى من آلام القرحة، وقالت :اللهم اجعل آخرته أسوأ من نهايته في الدنيا ، وفي اليوم الثالث  بعد الحادث حضر أقرباؤه ، وتسلموه وأولاده من المشرحة ، وقاموا بإجراءات الجنازة ، وعند الصلاة عليه سمع المُصلُّون صوت كلب  ينبح بصوت يملؤه الغيظ والألم ، ولا يكف عن النباح.

وبعد الصلاة قال رجل لجاره: بم تفسر نباح الكلب أثناء صلاة الجنازة ؟

فقال له: عندنا في قريتنا أسطورة ملخَّصُها : أن الكلب ينبح بهذه الطريقة ليقول للمصلين لا تدعوا له ، أو ينبح لأنه يري ملائكة العذاب يتسارعون للقبض عليه أيهم يسبق الآخر.

أما زهرة فقد أضعفت القرحة جسدها ، وشوهت جمالها ، وكانت تتكوم في سريرها مثل طفلة صغيرة لضعف جسمها ، وكانت  أحيانا تتذكر ما حدث لها ، وكيف أضاع هجرس عملها وجهدها ، وخيب أملها ، وكانت تقول دائما: حسبي الله ونعم الوكيل ، وبعد عام من هلاك هجرس العويل ، ماتت زهرة ، وودعها أهل القرية ، وودعوا معها العدل والرحمة ، والإنسانية ، وانطفأت شمعة كان من الممكن أن تضيء طريق المسلمين !!!

وسوم: العدد 656