ها أنا... يقولها حسن البنا
كان البطل الشجاع الذي دق صدره وقال: هاأنذا، هو الإمام حسن البنا رحمه الله، ورفع صوته عاليا معلنا بداية التجمع والمسير سنة 1928.
بعد عشر سنوات كاملات من الذهول الذي أصاب الأمة من جراء نتيجة الحرب العظمى، وسرعان ما تكاتفت معه تلك الطليعة المؤمنة من عمال شركة قناة السويس، فكانت الدعوة الوارثة لجماعات السلف الآمرة بالمعروف.
وكان الأستاذ المودودي يمهد آنذاك ببحوثه القيمة لمثل هذه المسيرة في الهند، ثم بدأ التجميع فعلا سنة 1938.
وتلقف بعض الميامين هذه الدعوة في بعض البلاد العربية عن الإمام البنا، فكان في كل مكان رائد شجاع تجمعت حوله طليعة وبدأوا المسير المبارك في السودان، وسوريا، وفلسطين والعراق، والأردن ولبنان.
وبذلك رسم هؤلاء القادة بريادة الإمام البنا، مع الطلائع المقدامة الذين سارعوا للعمل معهم:
الصورة العملية لأصول فقه العمل الجماعي الإسلامي في العصر الحديث،
وأتاحوا لبلاغة سيد قطب رحمه الله أن تنطق فتصف الطريق الدائم لمسيرة الدعوات.
يدعونا أن نتذكر ( كيف وقع هذا الأمر أول مرة!
لقد وقف رجل واحد يواجه البشرية كلها بمنهج الله ويقول لها -كما أمر-:
إنها جاهلية، وإن الهدى هدى الله.
ثم تحول التاريخ.. تحول حين استقرت هذه الحقيقة الهائلة في قلب ذلك الرجل الواحد.
تحول على النحو الذي يعرفه الأصدقاء والأعداء!
هذه الحقيقة التي استقرت في قلب ذلك الرجل الواحد ما تزال قائمة قيام السنين الكونية الكبرى..
وهذا هو الأمر في اختصار وإجمال...
توجد نقطة البدء، نقطة استقرار هذه الحقيقة في قلب.. في عدة قلوب.. في قلوب العصبة المؤمنة.. ثم تمضى القافلة في الطريق.
في الطريق الطويل.. الشائك.. الغريب اليوم على البشرية غربته يوم جاءها الهدى أول مرة – فيما عدا بعض الاستثناءات- ثم تصل القافلة في نهاية الطريق الطويل الشائك كما وصلت القافلة الأولى.
لست أزعم أنها مسألة هينة، ولا أنها معركة قصيرة.. ولكنها مضمونة النتيجة.. كل شيء يؤيدها.. كل شيء حقيقي، وفطري، في طبيعة الكون، وفي طبيعة الإنسان.. ويعارضها ركام كثير، ويقف في طريقها واقع بشري ضخم، ولكنه غثاء!
ضخم نعم.. ولكنه غثاء!).
الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب/191
(إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام.. أن يوجد في بقعة الأرض ناس يدينون دين الحق، فيشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع، ويطبقون هذا في واقع الحياة.. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان) .
في ظلال القرآن 10/191
(إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضى في الطريق).
(والثلاثة يصبحون عشرة، والعشرة يصبحون مئة، والمئة يصبحون ألفا، والألف يصبحون اثنى عشر ألفا)... معالم في الطريق 9/118.
فهذا هو أسلوب الطلائع في محاولة البعث الإسلامي لتحقيق المنهج الإسلامي، فالمنهج (إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر، تؤمن به إيمانًا كاملا، وتستقيم عله –بقدر طاقتها- تجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين، وفي حياتهم كذلك)... هذا الدين لسيد قطب/7.
ولا بد من (البعث الإسلامي مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث، وبين تسلم القيادة، فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تخطيها)... معالم في الطريق/7.
وهذه الطلائع، هي الطلائع الموفقة الفائزة التي سيندم من لم يلتحق بها منذ الآن، وسيتوجع كما توجع الصحابي ذو الجوشن الضبابي رضي الله عنه حين لم يسلم إلا بعد فتح مكة، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاه إلى الإسلام بعد بدر فقال له:
(هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟
قال: لا
قال: فما يمنعك منه؟
قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.
فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ)... طبقات ابن سعد 6/47.
وكم من أناس اليوم لا يعدو منطقهم منطق ذي الجوشن؟
يدعوهم واقع المعركة الإسلامية إلى أن يكونوا الأوائل والمقدمة، والنبلاء، والقادة، ورأس النفيضة، فيأبون إلا أن يكونوا مؤخرة.
وكم من إصبع سيعض ندما يوم يختار الله الطلائع السائرة لإتمام نوره؟
ولا تزال اليوم في العالم الإسلامي بلاد كثيرة فيها عناصر من الأفراد الدعاة جيدة، وجمعيات إسلامية متعددة، وتجمعات لدراسة الحديث النبوي الشريف وكلام السلف، وطرق صوفية وطلاب دراسات شرعية، وأحزاب إسلامية انتخابية لا تعتمد طريق التربية، ولكن ليس في أي من هذه الأحزاب والطرق والتجمعات والجمعيات والعناصر التصميم على سلوك طريق الدعوة التي تتجمع على أساس طاعة لأمير، وتلح في التربية، وتخطط لتغيير الواقع الذي يضغط عليها واستبدال حكم إسلامي به،
فهذه الجماعات مدعوة، أينما وجدت، في شمال أفريقيا أو شرقها أو غربها، أو في جزيرة العرب، أو في بلاد الأفغان وإيران والهند، أو جنوب شرقي آسيا، أو في بلاد الصين والطاجيك والأزبك والتركمان والداغستان إلى أن يراجع أفرادها أنفسهم، ويعلوا هممهم إن كان يعتريهم نوع خوف، ثم يبايعوا حرا يتميز بهم في حركة إسلامية واضحة الهدف التغييري، متينة التوجيه التربوي، رصينة الصف التنظيمي.
فإذا بادر مقدام فقال: هاأنا،
فإذا لأفراد هذه الجماعات أسوة وقدوة في الحوار الشريف بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حين أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة.
قال إبراهيم عليه السلام:
(يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني؟
قال: وأعينك)... صحيح البخاري 4/175 .
فهذا هو جواب المؤمنين دومًا، بلا تلكؤ ولا تلعثم.
وإن الله قد أمر بإعادة الحكم الإسلامي.
ويجب أن تكون من الأعوان.
لا تتخلف، وامض، وبادر، وكن وريث إسماعيل.
لا تقعد في بيتك.
لا تسمع نداء مستقبلك الوظيفي والتجاري.
فهنا، في هذه الإجابة الإسماعيلية رأسمالك الحقيقي.
فإن استغربت أسلوب الطلائع، وأبيت إلا فتاوى القدماء، فاستمع إلى الإمام ابن تيمية بشرحه لك ويقول في معرض شرحه لحديث الغربة:
(كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا):
ثم يقول: (وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ثم يعود غريبا كما بدأ): أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: (مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
فهؤلاء يقيمون إذ أرتد عنه أولئك.
وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل، كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبًا).
مجموع فتاوى ابن تيمية 18/297.
والله أكبر ولله الحمد
وسوم: العدد 657