خواطر من الكون المجاور

الخاطرة 22: العلاقة ( إمرأة - رجل ) 6

ز. سانا

أثناء دراستي في المرحلة الجامعية لا حظت أن الطلاب القادمين من مدن أخرى لمتابعة دراستهم الجامعية كانت طبيعة رؤيتهم للمرأة بشكل عام تختلف عن رؤية طلاب سكان حلب، ففي حين أن طلاب حلب كان حديثهم عن الجنس اﻵخر يخص جمال الكائن العلوي وكأنهم يتكلمون عن فتاة أحلامهم التي ستكون شريكة حياتهم وأم أطفالهم، كان حديث معظم الطلاب الغرباء يخص المفاتن الجسدية للمرأة وكأن جميع محاولاتهم في التعرف على الفتاة هدفها فقط التسلية وإشباع الشهوات. في ذلك الوقت لم أفهم سبب هذا اﻹختلاف في طبيعة الرؤية بين طلاب حلب والطلاب الغرباء وظننت أن الموضوع لا يتعلق بالغربة ولكن بطبيعة اﻷشخاص أنفسهم فقد كان هناك بعض من الطلاب الغرباء سلوكهم مع الجنس اﻵخر أرقى بكثير من سلوك الطلاب الحلبية. 

عندما إنتقلت إلى دمشق لتأدية الخدمة العسكرية لاحظت هناك أن زملائي من حلب والذين كان كلامهم عن المرأة يخص جمال الكائن العلوي بقصد الزواج رأيت سلوكهم يتحول إلى سلوك مشابه تماما لأولئك الطلاب الغرباء، ومع ملاحظة دقيقة لهذا الموضوع تبين لي أن الشعور بالغربة يحرر الكائن السفلي، أو بكلام آخر إن إزدياد اﻹباحة الجنسية في المجتمع هو دليل قاطع على تفكك الروابط الروحية بين أفراد هذا المجتمع ، وليس من الصدفة أن في المجتمعات الغربية حيث تسود الحرية الجنسية أن الفرد في حيه يشعر أنه غريب.

أثناء وجودي في دمشق لاحظت أيضا كم التعليم في المدارس والجامعات هو من النوع الببغائي وأن اﻹيمان و المبادئ والقيم التي تظهر على الكثير من الناس ترتكز على قاعدة هشة وأن قابلية اﻹنحراف في هؤلاء اﻷشخاص سهلة جدا يكفي أن يوجد الشخص المناسب ليفتح لهم باب اﻹنحراف على مصراعيه ليدفعهم فيه بسهولة . وشاءت اﻷقدار أن تجعل زميلي في الفصيلة الملازم ( أ ) أحد أولئك الذين إنحرفوا بسهولة وراح يحاول جر معه أكبر عدد من الذين حوله في هذه الطريق ،فرغم أنه كان خاطب وكاتب على إبنة عمه الكتاب. كان معظم راتبه يذهب على دور الدعارة. وأثناء جلوسه مع زملائه الضباط كان موضوع حديثه فقط عن النساء، يضحك ويتكلم عن فتيات إستطاع برجولته أن يتعرف عليهن ويقعن في حبه، ولكن في الحقيقة هن نفس نساء دور الدعارة اللواتي كن يسلبن منه معظم راتبه. وكان أثناء حديثه مع زملائه يصف المفاتن الجسدية لكل واحدة منهن وماذا فعل معهن بطريقة مثيرة كانت تسيل لعاب زملائه والغريب باﻷمر أن الجميع كان يصدقه والجميع يحاول تقوية صداقته معه لعله يساعدهم في التعرف على صديقة إحدى صاحباته. وكان الملازم ( أ ) يستغل صداقتهم فيستدين منهم بعض المال وبهذا المبلغ يذهب إلى دور الدعارة ليطفئ شهوته مع إمرأة جديدة وفي اليوم التالي يذهب إلى زملاءه ويحدثهم عن مفاتن صاحبته الجديدة ليسيل لعابهم من جديد دون أن يعلموا أن هذه اﻹمرأة التي سال لعابهم على أوصافها قد باعت جسدها لصديقهم بمقابل المبلغ الذي دينوه هم لصديقهم.

إحدى المرات كنا جالسين مع بعض الزملاء فسألني أحدهم فيما إذا كان لدي علاقات غرامية فأجبته لا، فاستغرب ذلك ﻷن شكلي حسب رأيه جذاب للنساء ، عندها رأيت الملازم ( أ ) يقول لزميله أن نساء اليوم تختلف عن نساء الماضي فالمرأة اليوم يجذبها الرجل الجريء الطليق اللسان الذي له خبرة في السيطرة عليها من اللحظات اﻷولى لتستسلم له . .. وأن الوسامة والعواطف الشاعرية هي موضة قديمة ، والغريب في اﻷمر أنه من وصفه للرجل الذي يجذب المرأة كان وكانه يصف إمرأة قد تحولت إلى رجل مشابهة تماما له، لا يهمها من الرجل سوى أن تقضي معه ليال حمراء فقط لا أكثر ولا أقل. هذا الرأي عن المرأة كما ذكره الملازم ( أ ) كنت قد رأيته في بعض اﻷفلام الأجنبية، وبدا لي في تلك اللحظات أن هذا الرأي عن المرأة سيقوى في المستقبل ويجعل عدد الرجال الذين يؤمنون به يتزايد بإستمرار حتى يصل اﻷمر إلى أن تصدقه المرأة نفسها ليجعلها تتحول تماما إلى كائن تسيطر عليه غرائزه ليصبح هدفها من الرجل فقط إطفاء شهواتها الجنسية.

ولكن شاءت اﻷقدار في نفس اليوم وبعد إنتهاء الدوام أن يرافقني الملازم ( أ ) في طريق العودة ، وعندما وصل الباص إلى موقف النهاية، كانت هناك شقيقتان تنتظران الباص ليقلهما إلى بيتهما. الشقيقة الصغرى عندما رأتني من النافذة أعجبت بملامح وجهي مباشرة فراحت تنظر إلي ظانة أنني لم أنتبه إليها وهمست شيئا في إذن شقيقتها التي كانت تقرأ في صفحات كتابها فرفعت رأسها وظنت أن شقيقتها تقصد الملازم ( أ ) ولكن عندما رأتني أظهر من الخلف علمت أن شقيقتها تقصدني أنا ، أما الملازم ( أ ) فراح ينظر مدهوشا لتلك الجرأة التي تملكها الشقيقتان وهما ينظران نحوي ، ونزلت من الباص وكأنني لا أعلم شيئا عما يحدث وتابعت طريقي ظانا بأن الشقيقتان ستصعدان إلى الباص وينتهي اﻷمر، وهكذا ظن زميلي تماما ولكن بعد إبتعادنا عدة خطوات إلتفت زميلي إلى الوراء فلم يصدق ما تراه عيناه فقد رأى الشقيقتان أنهما بدلا من الصعود إلى الباص كانتا تسيران من خلفنا، فقال لي فرحا بصوت خافت : "هناك فتاتان معجبتان بنا تريدان التعرف علينا " فقلت له: "أعرف ذلك. .لا تعطيهما أهمية وستتوقفان من المسير خلفنا " فرأيته يثور وكأنني سأبعده عن إمرأة عاهرة قدمت له جسدها مجانا فقال لي : ماذا تقول!!! بنت تريد التعرف علي وتريدني أن أرفضها ؟!!! ورأيته يتباطئ في خطواته ثم يلتفت إلى الوراء ويسألهما : " إلى أين مشوار الصبايا " ؟ فردت عليه الشقيقة الكبيرة : "إلى حيث يذهب سادة الضباط " لم يصدق زميلي أن يسمع مثل هذا الجواب من فم فتاة فقال لها: " نحن ذاهبان إلى كافتيريا نادي الضباط ، ما رأيكما أن نعزمكما على فنجان من القهوة ؟ فردت عليه: لما لا بكل سرور، وفعلا كان نادي الضباط على بُعد خمس دقائق فسرنا نحن اﻷربعة جنبا إلى جنب الرجال على اﻷطراف والنساء في الداخل، وراح زميلي مباشرة يحاول أن يظهر أمامهما تماما بمواصفات ذلك الرجل الذي حسب رأيه يعجب نساء هذا العصر.

كانت الكافتيريا خالية من الضباط وبمجرد وصولنا أشار لي صديقي عن منضدة لأجلس عليها أنا والشقيقة الصغرى بينما هو أخذ شقيقتها وجلس على منضدة أخرى بعيدة عنا ليستطيع أن يوقع الفتاة في شباكه ليأخذ منها ما يحتاج مجانا دون أي مقابل ، في تلك اللحظات لم أعرف بماذا أفكر فمن جهة شعرت بأنني أنا نفسي أساعده في تحقيق نواياه الدنيئة. ومن جهة أخرى كنت أفكر بماذا سأقول لهذه الفتاة الجالسة أمامي والتي من شدة إضطرابها كانت تخشى أن ترفع بصرها لترى وجهي وعندما أتى الجرسون بالقهوة ومدت يدها لتحمل الفنجان لتشرب منه من شدة رجفة يدها خافت أن تندلق القهوة منه فتفضح إضطرابها لي على الرغم من أنها هي التي ألحت على شقيقتها لتساعدها في التعرف علي. من سلوكها كنت متأكدا تماما بانها كانت المرة اﻷولى التي تخرج فيها مع شاب لا تعرفه لتتحدث معه ، ورغم انني أنا أيضا كنت مضطربا أيضا ولكن شدة إضطرابها جعلني أضطر أن أحاول تهدئة الوضع لنصل إلى حل يرضيها ويرضيني وفي نفس الوقت أمنع به زميلي من أن يحقق مأربه.

في البداية سألتها إذا كانت تسمح لي أن ألقي نظرة على كتبها ومن كتبها عرفت أنها سنة أولى جامعة وﻷن وضعها النفسي لم يكن يسمح لها بالتكلم بطلاقة بسبب إضطرابها الشديد ، رحت أسألها بعض اﻷسئلة التي إجابتها تحتاج إلى كلمة واحدة وشيئا فشيء بدأت أغير في نوعية اﻷسئلة لتشارك بالحديث بأكثر من كلمة وعندما وصلت إلى مرحلة إستعادت فيها السيطرة على نفسها عندها قررت أن أتحدث معها عن موضوعنا نحن اﻹثنين. 

حتى تلك اللحظات كنت قد وصلت إلى حجة مناسبة أقنعها بها دون أن تشعر نهائيا بأنني أرفضها لكي لا تشعر بصدمة قد تؤثر على عزة نفسها كإمرأة إلى اﻷبد. فأقسى شيء يمكن أن تشعر به إمرأة هو أن ترى نفسها مرفوضة من ذاك الرجل الذي تريده هي أن يكون شريك حياتها ، وهذه الحجة كانت قد خطرت لي من حالة زميلي الملازم ( أ ) كونه كان خاطبا ومع ذلك يحاول خداع النساء، وكذلك أيضا فقد تصورت نفسي لو أنني كنت وافقت على طلب رجل اﻷعمال الذي عرض علي الزواج من إبنته لكنت اﻵن في مثل وضع زميلي تماما. فقلت لها : "لنعود اﻵن إلى موضوعنا الأساسي. . أقصد موضوعنا أنت وأنا... أريد منك في البداية أن تعلمي أنني أؤمن بأن الرجل الذي يحترم نفسه او كما يسميه اﻵخرون الرجل الراقي أو الرجل الحضاري هو بالنسبة لي ذلك الرجل الذي يعامل المرأة الغريبة تماما كما يتمنى هو من الرجل الغريب أن يعامل إخته.... لذلك سأتحدث اﻵن إليك وكأنني أتحدث إلى أختي الصغيرة. .. أنا رأيتك قبل أن تريني انت، ولكن لم أتابع النظر إليكي رغم أني كنت أشعر أنك كنت تنظرين إلي وتتمنين مني أن أنظر إليك أنا أيضا ولكني لم أفعل ذلك . ﻷنني لست ملك نفسي ولكن ملك فتاة أخرى. ... لي علاقة مع فتاة منذ أكثر من ثلاث سنوات أهلها وأهلي يعلمون بعلاقتنا . . نحن شبه مخطوبين في عيون الجميع. .. أنا أحبها وهي تحبني وأدعوا الله أن يمدني بالقوة لأبقى وفيا لها طوال العمر......إعذريني إذا كنت قد خيبت أملك. ....أعرف أنك لم تخرجي معي من أجل التسلية ولكن لإقامة علاقة شريفة تدوم إلى اﻷبد .. . .. أنا مؤمن تماما بأن الزواج هو قسمة ونصيب.... وأتمنى أن تلتقي يوما ما بشاب طيب يفهمك وتفهميه، يحبك وتحبيه ليكون شريك حياتك إلى اﻷبد..." كنت أتحدث إليها وكأنني أرى ما أحدثها عنه وهذا ما جعلها تنظر إلي في وجهي بإستمرار ورغم إلتقاء عيني بعينها للحظات قصيرة جدا ، كانت تتابع النظر في وجهي ورغم علامات الحزن التي إرتسمت على وجهها في بداية حديثي عندما علمت أني خاطب ولكن شيئا فشيئ شعرت أنها تقبلت الواقع ويبدو من طريقة نظراتها لي كانت وكأنها تنظر إلي وتدعو من الله أن يكون نصيبها شاب مثلي يحبها هي ويبقى وفيا لها مدى العمر. وتابعت كلامي قائلا لها : " قبل أن أنهي كلامي في هذا الموضوع أريد أن أضيف شيئا أخر ، إعتبريها نصيحة من أخ ﻷخته الصغيرة. .. من أخ درس سلوك الرجال دراسة كافية لتعلمي شيئا عنهم ....إياك أن ترمي بنفسك لرجل. ..الرجل الذي يرى إمرأة ترمي هي نفسها في أحضانه أو حتى إذا أنها قبلت بالخروج معه بسهولة ستجعله يظن أنها رخيصة ، ويمكن بسهولة جدا أن تخرج مع أي رجل آخر وتقع بسهولة في حضنه كما فعلت معه هو .... عندها سيتسلى معها ويأخذ منها ما يريد حتى يمل منها وثم يهجرها....لا يوجد رجل في العالم يقبل أن تكون شريكة حياته وأم أطفاله إمرأة رخيصة عرفها من قبله عدة رجال آخرين... .. الرجل كائن غريزي يختلف كثيرا عن المرأة. يمكن أن يثار جنسيا ﻷتفه اﻷسباب ،وعندما يثار جنسيا قد يفقد عقله ولا يهمه شيئا أبد ، قد يبيع نفسه لشيطان من أجل إطفاء شهوته ، أفضل مثال على ما أقوله هو زميلي الذي يتكلم اﻵن مع شقيقتك. .. إنظري إليه يتصرف وكأنه يبحث عن فتاة أحلامه ولكن في الحقيقة كله نفاق في نفاق. ..قبل قليل دفع الحساب مباشرة ليظهر نفسه كريما أمام شقيقتك مع العلم أنه مديون لجميع أصدقائه. .. خطيبته المسكينة تنتظر منه أن يجمع بعض المال ليتزوجها ويأتي بها لتعيش معه في بيت الزوجية بينما هو يصرف كل راتبه على النساء.... ستريه اﻵن يتغزل بجمال عيون شقيقتك ولكن غدا سيتحدث لأصدقائه عن مفاتن جسدها ليثير أصدقائه جنسيا ظانا بأنه بهذا الأسلوب سيرفع من رجولته أمامهم. .. إعذريني ﻷنني أحدثك بكل هذه اﻷشياء ولكن سهولة طريقة التعارف بيننا أقلقتني. ...معظم الرجال الذين يتعرفون على النساء بهذه الطريقة هم من أمثال صديقي هدفهم إشباع شهواتهم فقط. .الزواج قسمة ونصيب. .....الشاب الذي يحبك ويتمنى أن يكون شريك حياتك هو ذاك الرجل الذي روحه ستجعله يشعر بحبك له قبل أن تعبري له بشيء نهائيا وسيأتي هو إليك لكي لا يكسر عزة نفسك. ... مثل هذا اﻹنسان سيشعر أنه يخاف عليك من نفسه لذلك سيفضل أن يراك بحضور الناس وليس في أماكن بعيدة عن أعين الناس.... أنظري ماذا فعل زميلي قبل قليل مباشرة طلب من شقيقتك أن يجلسا لوحدهما. ... متأملا أنه في المرة القادمة ستجلس معه في مكان بعيدا عن الناس ليستطيع أن يفعل ما لا يستطيع فعله أمام الناس. ...الرجل الذي يحب يستطيع أن يعبر عن حبه حتى ولو كان في مكان مليء بالناس. ..أما الذي يريد إطفاء شهواته فيختار اﻷماكن البعيدة عن أعين الناس ليكون ثالثهم الشيطان ليفعل ما يشاء"

كنت أريد أن أتابع حديثي وأخبرها أشياء أخرى لتكون لديها فكرة واضحة جدا عن أنواع الرجال ، ولكن رأيت أختها تحمل فنجانها وكتبها وتأتي وتجلس معنا وكأنها لم تصدق أنها تخلصت من زميلي ، فقلت فورا للصغيرة بلهجة مازحة : "هل صدقت كلامي عن اﻹتصال الروحي . . روح إختك سمعت مباشرة ما نتحدث به فأتت حالا"...و رغم خيبة أمل الشقيقة الصغيرة ضحكت وهزت رأسها موافقة ، أما الأخرى فلم تفهم شيئا عما نتحدث به فقالت : "أخبراني ماذا تقولان عني "؟ فقلت لها: "ستخبرك أختك فيما بعد" نظرت إلى زميلي ﻷفهم ما حصل رأيته يجمع أغراضه هو الآخر وينظر إليها نظرة مائلة مليئة بالغيظ وكأن شرر من النار يتطاير منها. وبخطوات بطيئة أتى وجلس معنا دون أن يتفوه بكلمة ، وراح كل لحظة وأخرى ينظر في ساعته وينظر إلي وكأنه يطلب مني أن ننتهي ونذهب. ويبدوا أن الشقيقة الصغيرة فهمت تصرفات زميلي فأخبرت شقيقتها بأن الوقت تأخر ويجب أن يعودا إلى البيت.

بعد إبتعاد الشقيقتان سألت الملازم ( أ ) عما حصل وعن سبب إنزعاجه فأخبرني بأن شقيقتها طوال الوقت كانت تسأله عني وعندما رأى بأن الحديث معها سيكون فقط عني عندها أخبرها بأنه لا يعرف عني إلا القليل فإذا كانت تحب أن تعلم عني كل هذه المعلومات ما عليها إلا أن تذهب وتسألني أنا وفورا حملت نفسها وأتت إلينا لتجلس معنا ،عندها أخبرته بأنها أتت معنا لتساعد أختها الصغيرة في التعرف على شاب أعجبها ولم يكن هدفها التعرف عليك أنت ومن الطبيعي أن تسألك عني وتتصرف بهذا السلوك. 

وشاءت اﻷقدار في اليوم نفسه وبعد دقائق من خروجنا من نادي الضباط أن تحصل حادثة أخرى جعلت من الملازم ( أ ) أن يشعر بأنه فعلا لاشيء نهائيا أمامي وأن رأيه عن مواصفات الرجل الذي يعجب النساء ليس إلا ضربا من ضروب الغباء. فعلى مقربة من نادي الضباط كانت توجد مؤسسة إستهلاكية لبيع اﻷدوات الكهربائية ،وأثناء مرورنا من أمامها لاحظ زميلي وجود موظفات جميلات في كل قسم ، فتوقف مباشرة وأخبرني بأنه يريد أن يلقي نظرة على أسعار الأدوات الكهربائية ليشتري بعض منها ليجهز بيته للزواج من إبنة عمه. فصدقته ودخلت معه ورأيته مباشرة يبتعد عني ويذهب إلى أول موظفة ويعرض عليها مهارته في الكلام. بينما أنا رحت أتمعن في البضاعة المعروضة لآخذ فكرة عن أسعارها. بعد دقائق إقتربت من القسم اﻷول ﻷرى اﻷدوات المعروضة فيها فسمعت الموظفة تسأني بلطف : هل أستطيع أن أساعدك في أختيار ما هو أنسب لك ؟ فأجبتها : شكرا أنا ألقي نظرة فقط زميلي هو الذي سيشتري ، فإبتسمت وهزت رأسها بحركة لها معنى قائلة: "زميلك لم يأتي لأن يشتري، زميلك أتى ليصطاد واحدة منا ، حاول معي فلم يفلح فحاول مع زميلتي أيضا فلم يفلح " نظرت إلى زميلتها في القسم المجاور رأيتها تنظر إلي وتهز رأسها مؤكدة على صحة كلام زميلتها ،وتابعت الموظفة كلامها قائلة : " إنظر اﻵن يحاول مع الثالثة " نظرت إلى الملازم ( أ ) وشعرت بالخجل من مصاحبة شخص بمثل هذا السلوك المخجل ، فقلت للموظفة : ( أنا آسف ) فقالت : "أنت تختلف عنه نهائيا كيف تصادق مثل هذا الشخص " فأجبتها: " أعتقد أني في البداية قلت بأنه زميلي ولم أقل عنه أنه صديقي. ..الصديق نحن نختاره ليكون صديقنا ولكن الزميل تفرضه ظروف العمل علينا ".

رغم أني في الظروف العادية كنت أتجنب اﻹقتراب من النساء لكي لا يحدث مثل هذا النوع من التعارف ولكني في تلك المرة حاولت أن أثبت للملازم ( أ ) كم هو مخطئ في رأيه عن النساء. لذلك لم أحاول أن أخلق ظروف تبعدني عن الموظفات ولكن تركتهن يتصرفن على مزاجهن. فمن البداية كنت أشعر بأن الموظفات كن ينظرن إلي بطرف أعينهن وينتظرن اللحظة التي سأقترب منهن. فما أن إنتهيت من كلامي عن الفرق بين الصديق والزميل وجدت موظفة القسم اﻷول تسألني من أين أنا وعندما أخبرتها بأني من حلب رأيت زميلتها تجد فرصة مناسبة لتقترب منا وتنضم إلى الحديث معنا فأخبرتني بأن صديقتها متزوجة من رجل حلبي تقيم هناك وأخبرتني إسم المنطقة، ومع مجرى الحديث علمت الموظفتان بأنني ملازم مجند وأنني خريج كلية الزراعة فسألتني الموظفة اﻷولى فيما إذا كنت قد شاهدت معرض الزهور الدولي الذي يحدث في تلك اﻷيام فأخبرتها بأنني لم أره فرأيتها تقول لي وكأنها تلومني بطريقة مازحة " إخس. .. مهندس زراعي ولا تستغل وجودك هنا لتشاهد معرض الزهور" فقلت لها: بأن لي هنا فترة قصيرة جدا ولا أعرف أحدا يذهب معي لمشاهدة المعرض ومباشرة وقبل أن أنتهي من كلامي رأيتها تقول لي : ولا يهمك أنا وزميلتي سنأخذك معنا لنرى المعرض ولنعزمك أيضا على فنجان قهوة " وسألت زميلتها فوافقت مباشرة.

في تلك اللحظة اتت الموظفة الثالثة إلينا وكأنها لم تعد تتحمل تصرفات الملازم ( أ ) ومسكت رأسها وقالت :أخ يارأسي. . أكثر من هذا بقليل وكنت انفجرت !. ..ما هذا الرجل. ..حطم أعصابي. .لو إستمر كلامه معي دقيقة واحدة أكثر ،كنت على وشك أن آخذ المكواة ﻷحطمها على رأسه حتى ولو كنت أعلم بأنهم سيحكموا علي باﻹعدام" كان أسلوب كلامها مضحكا جدا جعلنا جميعا ننفجر من الضحك ،فسمع الملازم ( أ ) ضحكتنا فتوقف عن الكلام مع الموظفة الرابعة ونظر إلينا وهو لا يصدق أن الموظفات الثلاثة اللواتي حاول معهن بكل الوسائل وفشل، اﻵن واقفات حولي وكأنهن صديقاتي منذ زمن طويل. عندها توقف عن الحديث مع الموظفة الرابعة وذهب إلى مدخل المؤسسة وراح ينتظرني وعندما إنتهيت من الكلام مع الموظفات ودعتهن وإتجهت إليه ورأيته ينظر إلي فرحا وكأنه أدرك وﻷول مرة أن له زميل مثل المغناطيس يجذب نحوه العديد من النساء. وعندما خرجنا راح يحاول أن يمدح بي قائلا: "لم أعلم أنك كازانوفا بهذا المستوى. ... برافو.. برافو " وظن بأنه بهذا المديح الساذج سأساعده في التعرف على المزيد من النساء ،ولم يعلم بأن تلك الألقاب (كازانوفا..دون جوان. . زير النساء. ...) كانت بالنسبة لي ألقاب تطلق على اؤلئك الرجال الذين باعوا أنفسهم للشيطان. وبعد لحظات سألني عما حصل مع الموظفات فأخبرته بأنهن عزمنني في المساء على فنجان قهوة في إحدى الكافتيريات. .. فسألني فرحا: (مع الثلاثة ؟!! ) فأجبته بنعم فقال لي مباشرة : " سآتي معك" فنظرت إليه متأسف وقلت له : " للأسف لا أستطيع، فقد أصرين على أن آتي بمفردي وبدون أي صديق آخر وخاصة أنت " فنظر إلي وكأنه علم أن الفتيات قد فضحن أمره لي، وتابعت كلامي قائلا له: وطلبن مني أن أخبرك بأنك بدخولك المؤسسة قد أخطأت بالعنوان وكان عليك أن تذهب إلى دور الدعارة فهناك فقط ستجد ما تطلبه ". رغم أنه في البداية إنزعج كثيرا لما سمعه مني ولكن سرعان ما حاول تغيير الموضوع ثم نظر إلى ساعته وجعل من نفسه وكأنه تفاجئ على مرور الوقت بهذه السرعة فإعتذر ﻷنه مضطر أن يتركني ﻷنه لديه عمل ضروري فتركني وذهب. 

كنت أعتقد بأني سأخرج مساء بصحبة ثلاث فتيات لزيارة معرض الزهور ، لذلك لم يكن فكري مشغولا بشيء فوجودي مع ثلاثة نساء لن يسمح لا لي ولا ﻷي واحدة منهن أن تتجاوز حدود نقاش زملاء أو أصدقاء. فأنا فعلا كنت بحاجة للجلوس مع فتيات ﻷكتسب نوع من الخبرة تساعدني على تقوية السيطرة على نفسي وعلى عواطفي وغرائزي فإذا كان مقدر علي أن أذهب إلى دولة غربية على الأقل ألا أشعر باﻹضطراب في كل مرة أتحدث مع إمرأة فحتى ذلك الوقت كنت أشعر بذلك رغم أن المرأة التي أكلمها قد لا تشعر بهذا اﻹضطراب، وكذلك كنت بحاجة إلى فتح نقاشات في مواضيع مختلفة مع النساء ﻷكتسب فكرة عن الفرق بين منطق المرأة و منطق الرجل لنفس الحدث.فكل اﻹستفهامات التي كانت تشغل فكري كانت المرأة تلعب دور كبير في تفسيرها أو بمعنى آخر بأنني كنت متأكدا أن فهم التكوين الروحي للمرأة يساعد كثيرا في تفسير الكثير من الظواهر. 

عندما ذهبت مساء إلى الموعد رأيت فقط موظفة القسم اﻷول، فأخبرتني بأن إحدى زميلاتها إعتذرت ولن تستطيع المجيء وأن الثانية ستأتي بعد قليل فذهبنا وجلسنا في إحدى الكافتيريات القريبة من معرض الزهور لننتظرها هناك. ومرت أكثر من نصف ساعة دون أن تأتي فنهضت الموظفة وذهبت إلى الهاتف وإتصلت بها لتعلم عن سبب تأخرها، وعادت بعد قليل وأخبرتني بأن زميلتها وﻷسباب طارئة لن تستطيع المجيء ،لذلك فهي وحدها لن تستطيع الذهاب معي إلى معرض الزهور ﻷنه إذا كان معها فتاة أخرى ففي حال إذا رأها شخص يعرفها سيظن أن الشاب الذي يرافقها هو شقيق صديقتها أما إذا كانت برفقتي لوحدها فإن الوضع سيختلف وهي تخشى أن يساء الظن بها. فقررنا أن نتابع جلستنا في الكفتيريا ونترك زيارة معرض الزهور إلى يوم آخر. 

شيئا فشيء بدأت ألاحظ تغيير في نوعية المواضيع التي كنا نتحدث بها فمثلا سألتني عن عمري فأخبرتها فقالت لي بأنها أكبر مني بأربع سنوات وهزت برأسها وقالت: "يا خسارة ، لو كنت بعمري أو أكبر مني لكنت فعلت المستحيل لتكون لي ولي فقط ،ولكنك أصغر مني ومثل هذه العلاقة سيكون مصيرها الفشل " ثم سألتني من هم اﻷجمل، بنات حلب أم بنات دمشق، وبدأت أسئلتها تتجه نحو حياتي الشخصية جدا فسألتني عن علاقاتي الغرامية وعندما أخبرتها بأن حياتي خالية من أي علاقة غرامية، جعلت نفسها وكأنها لم ولن تصدقني وراحت تتغزل في جمال وجهي وتقول مستحيل أن أملك كل هذه المزايا دون أن يكون لي علاقات غرامية. ورغم طبيعة اﻷسئلة التي طرحتها علي والتي يمكن لها أن تثير عواطف وغرائز الرجل ولكن طوال الوقت ربما بسبب وجود اشخاص عديدين من حولنا كنت آخذ كلامها على مستوى مزاح لا أكثر ولا أقل لذلك لم أشعر بأي ضعف نحوها، ولكن عندما خرجنا ورأيتها تطلب مني أن نسير على رصيف نهر بردى، عندها شعرت بأن اﻷمور بدأت تختلف. فقد كان الشارع طويلا خالي من المارة ورغم وجود اﻷضواء المبعثرة على مسافة الطريق ولكن كثرة اﻷشجار الكبيرة وكثافتها فيها جعلت من ظلالها وجود العديد من المناطق المظلمة بحيث تسمح ﻷي شخص بالإختفاء تماما عن عيون اﻵخرين. لا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظات بأن كل ما حصل لم يكن سوى مسرحية مخطط لها وأن زميلاتها كن في الأصل لن يأتيا إلى هذا اللقاء وأن الهدف الحقيقي من البداية كان أن أتواجد معها أنا وهي فقط وفي هذا الوقت بالذات وفي هذا الطريق الرومانسي، فمن بداية مسيرنا فيها شعرت وكأن قلبها بدأ يزداد خفقا وأنني بدأت أسمع صوته وهو ينبض. 

لا أستطيع أن أصف بالتفصيل عما حصل في البداية لكي لا يظن البعض بأن المقالة تحولت إلى موضوع إباحي وقد يثير أحاسيس الكثير من القراء الرجال، تماما كما حصل بي من اللحظات اﻷولى من وجودي في هذا الطريق ، ولكن كل الذي أستطيع أن أذكره هنا هو أنني وجدت نفسي وكأنني أحاول أن أقنع نفسي بتحقيق رغبتها وأن لا أكسر خاطرها من أجل شيء بسيط ، فكل ما كانت تطلبه مني حسب ما شعرت من نظراتها وسلوكها هو أن أجعلها ولو للحظات قليلة وكأنها تعيش في حلم ، في أحضان فتى أحلامها وشفتيه تلثم شفتيها لا أكثر ولا أقل، فالمكان نفسه لا يسمح بأكثر من ذلك. ولكن لا أدري ماذا حدث فجأة وكأن شيئا ما تغير في وجهها أو ربما هذا التغيير حصل في داخل شبكية عيني فقد بدا لي بأنها تشبه شقيقة تلك الفتاة التي جلست معي في كفتيريا نادي الضباط والتي حاول زميلي الملازم ( أ ) أن يوقعها في شباكه ولم يفلح بسببي. وفعلا هذا اﻹحساس أيضا شعرت به عندما رأيتها ﻷول مرة ولكني نسيته ولم إعطيه أية أهمية، ولكن هذا الشبه اﻵن عاد ليجعلني أشعر في تلك اللحظة بأنني بدأت أشبه في سلوكي سلوك الملازم ( أ ) وشعرت كأن الشقيقة الصغيرة التي كنت أنصحها وكأنني أخاها الكبير بأنها تنظر إلي اﻵن ، لم أصدق نفسي كيف إنقلبت إلى إنسان آخر معاكس تماما لذاك الذي كان قبل ست ساعات تقريبا ﻷقنع نفسي بفعل كل ما حرمته من قبل ، وفجأة شعرت أن جميع تلك اﻷحاسيس التي كانت بإستمرار تتجه نحو اﻷسفل في جسدي تتوقف وتعود ثانية إلى اﻷعلى ، وبدلا من أرى أمامي وجه الموظفة بدأت أرى وجه الفتاة الصغيرة وهي تسمع مني عن الحب العذري وعن الوفاء وعن أولئك الرجال الذين يطلبون من الفتاة دوما أن يتواجدوا في مكان بعيد عن عيون الناس ليكون ثالثهم الشيطان، أولئك الرجال الذين من أجل أن يقضوا ليلة حمراء مع إمرأة يبيعون أنفسهم للشيطان ، ووجدت نفسي أردد في سري : (أعوذ بالله من الشيطان. ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

وبينما كنت أحاول إستعادة سيطرتي على نفسي فجأة سمعت خطوات أقدام رجل من الخلف تقترب منا أكثر فأكثر، وحتى هذا الرجل المجهول لا يرى وجه الموظفة فقد يكون أحد معارفها فيكتشف أنها بصحبة رجل وفي هذا الوقت لذلك إلتفتت إلى اليمين إلى النهر لتخفي وجهها عنه عندما يصل إلينا ، أما أنا فبحركة لا شعورية إلتفتت إلى الوراء ﻷرى من يسير خلفنا، فلم أصدق ما تراه عيني، فقد كان هذا الشخص أحد زملائي في الكلية العسكرية للشؤون اﻹدارية ورأيته يحمل وردة كبيرة في يده ومن حركة يده فهمت بأنه سيعطيني سرا هذه الوردة ﻷقدمها للفتاة التي أرافقها، فتابعت سيري بشكل طبيعي، ومددت يدي اليسرى إلى أقصاها وعندما أقترب مني مد هو أيضا بيده وأعطاني الوردة من مسافة بعيدة دون أن تشعر الموظفة أنه حصل أي إتصال بيني وبين هذا الشخص المجهول. وعندما شعرت بأنه قد إبتعد كفاية إلتفتت نحوي وإبتسمت ويبدو أنها أيضا رأت أنه شيئا فشييء سنصل إلى نهاية الطريق دون أن يحصل بيننا شيئا ، فنظرت إلى الساعة في معصم يديها وقالت بأن الوقت مبكرا للعودة إلى البيت فمدت كفها وأمسكت بكفي دون أن تعلم شيئا عن وجود الوردة في اليد اﻷخرى ،وذهبنا إلى السور الحجري للنهر ورحنا ننظر إلى مياهه التي عكست أمواجه ضوء القمر ، ومرة أخرى بدأت أسمع صوت نبضات قلبها تتزايد لتمتزج شيئا فشيء مع صوت نبضات قلبي وشعرت بيدها الصغيرة ترتعش في يدي (أو ربما كانت يدي هي التي ترتعش في يدها ، الله أعلم ) . وألتفتت إلي وأصبح وجهها قريبا جدا من وجهي وراحت تتمعن جيدا في جبيني ثم في عيني ثم في أنفي لتتوقف عيناها على شفاهي و تبقى هناك. وشعرت في تلك اللحظة وكأنها تقول لي أنا ملك لك قبلني. ..... نظرت في شفتيها ثم في عينيها وقلت لها هامسا ( إغلقي عينيكي ) فإبتسمت وأغلقت عينيها بطمأنينة وكأنها تسلمني نفسها ﻷفعل ما أريد، وفجأة شعرت برائحة عطرة تدخل أنفها جعلت من كفها الصغير يرتعش بشدة في يدي، ففتحت عينيها وهي لا تصدق الظهور الفجائي لهذه الرائحة العطرة ولكن بدلا أن تجد تفسير معقول لوجود هذه الرائحة شعرت وكأنها تعيش لحظات حدوث معجزة وهي ترى أمام عينيها وردة كبيرة جميلة جدا (مشابهة للوردة في الصورة ) ،وربما كانت تلك المرة اﻷولى لها ترى فيها مثل هذا النوع من الورود. نظرت حولها لتتأكد من عدم وجود نباتات مزهرة في المنطقة فهي كانت متأكدة تماما بأن الوردة هذه ظهرت في الوجود قبل ثوانِ قليلة فمن المستحيل أن هذه الوردة الكبيرة كانت مخفية طوال الوقت في جيب البنطال، فنظرت إلي جيدا تتمعن في وجهي لتتأكد إذا كنت حقا إنسانا أم كائنا من عالم آخر. وبعد لحظات سألتني بدهشة ( من أين أتيت بهذه الوردة ) فرفعت لها بسبابتي إلى السماء. فنظرت إلى السماء وهي لا تدري إذا كنت أمزح معها أم أكلمها بجدية تامة. ففي تلك اللحظات كانت وكأنها تعيش معي في الكون المجاور. وحتى لا أطيل عليها دهشتها وتعتقد بأني فعلا من عالم آخر حاولت أن أفسر لها ما حدث قائلا لها : " أحد الملائكة لم يهون عليه أن نتواجد بالقرب من معرض الزهور دون أن نشاهده فذهب وأخذ أجمل وردة في المعرض وأعطاني ياها وقال لي قدم هذه الوردة إلى صديقتك الجميلة فأحلى هدية يمكن أن يقدمها رجل إلى إمرأة هي وردة" إبتسمت وكأنه لا يهمهما سواء كنت جادا في كلامي أو لا فما حصل كان مفاجأة سعيدة جدا لها وهذا يكفي،ولكني تابعت كلامي قائلا لها : هل تذكري الشخص الذي مر بقربنا قبل قليل " وهزت رأسها وكانها تتذكره : فقلت لها : " هذا الرجل في تلك اللحظة كان ملاكا، أتى وأعطاني الوردة وذهب". لا أدري إذا كان تفسيري لما حدث قد أقنعها أم لا ، كل الذي أعلمه هو أن الظهور الفجائي لهذه الوردة كان قد قلب كيانها رأسا على عقب بحيث جعلها في غمضة جفن يتحول إحساسها نحوي من عشيق إلى شيئا آخر يشعر بسموه فقط ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في كل إنسان ، فكانت تسير بقربي بإبتسامة تملأ وجهها تارة تنظر إلى الوردة وتستنشق رائحتها العطرة وتارة تنظر إلي بنظرة من نوعية جديدة لم أرها في عينيها من قبل ،نظرة أخرى أجمل وأرقى بكثير من نظرة إعجاب إمرأة برجل. 

قبل وصولنا إلى نهاية الطريق بقليل نظرت إلي وقالت لي بنبرة وكأنها تتحدث مع نفسها : "عند الظهيرة عندما دخلت مع زميلك المؤسسة اﻹستهلاكية ورأيت كيف كنت أنت تنظر إلى اﻷدوات الكهربائية وما يفعله زميلك وقارنت بين سلوكك وسلوكه ، في تلك اللحظات كم تمنيت أن تكون المؤسسة ملكي ﻷقدم لك كل ما تريده منها مجانا ، لا أدري لماذا ، مثل هذا الشعور لم أشعر به ﻷي شخص من قبل" وفجأة رأيتها تتوقف وتفتح حقيبتها ، في البداية ظننت أنها نسيت مفتاح البيت وتريد أن تتأكد ، أو نسيت شيئا آخر ، ولكن رأيتها تخرج مبلغ من المال وتأخذ منه جزء بسيط يكفي ﻹجرة التكسي، وتمد يدها بالمبلغ بأكمله لي وتقول لي : " خذ هذا المبلغ وإشتري به أي شيء أعجبك من المؤسسة " شعرت في تلك اللحظة أن حادثة الوردة قد أثر في قلبها أكثر بكثير مما تصورت ، وطبعا رفضت عرضها مباشرة فقد كان المبلغ كبيرا يعاد على اﻷقل ثلث راتب موظف ، ولكنها أصرت قائلة بأن عائلتها حالتها ميسورة ماليا وأن كل راتبها يذهب لها فقط، وأنه المبلغ بسيط جدا بالنسبة لها. ولكني أصريت أنا أكثر منها قائلا لها بأنني تركتها تدفع ثمن القهوة في الكفتيريا ﻷن إصرارها على الدفع جعل الجميع ينظر نحونا ليفهم ما يحصل. ولكن هنا لا يوجد أحد ومهما أصرت ومهما صرخت لن ينتبه علينا أحد. 

عندما رأت بأن إصراري كان أقوى بكثير من إصرارها نظرت إلي وقالت: "حسنا سأعيد المبلغ إلى حقيبتي إذا وعدتني بشيء " فهززت رأسي باﻹيجاب فتابعت كلامها : أنا أعلم بأن راتب ملازم المجند راتب رمزي لا يكفي ﻷي مصروف. والحياة في دمشق مكلفة... أوعدني بإنك إذا شعرت بأي ضائقة مادية ان لا تذهب إلى أي شخص وان تأتي إلي مباشرة ﻷساعدك...... أنا أراك اﻵن وكأنك أخي الصغير وأرجو منك ان تعتبرني كأختك الكبيرة: " لا أدري لماذا تاثرت كثيرا بما قالته لي فجعلتني أشعر في تلك اللحظة وكأن دمعة محبوسة في زاوية عيني تريد أن تخرج وتسيل. أردت أن أشكرها بالكلام ولكن شعرت أن صوتي سيفضح شدة تأثري فإكتفيت بتحريك رأسي بحركة لها معنى بأنني أوعدها على ذلك .

قد يتساءل البعض لماذا أكتب هذه اﻷحداث ، جوابي على هذا التساؤل بشكل مختصر هو أن يرى القارئ ترابط اﻷحداث فيما بينها ليعلم بأنه لا شيء يحدث بالصدفة ولكن هناك قوى تقوم بتوجيه اﻷحداث نحو نتيجة معينة. هذا التغيير في جهة اﻷحداث يسير عليه الكون بأكمله ، وأنه هناك منطق آخر منطق يختلف عن المنطق العلمي في العصر الحديث ، منطق يعطي لكل حركة تحدث حولنا معنى ليشعر القارئ بأنه حتى المادة التي نلمسها حولنا هي شيء مزيف فكل ما حولنا هو في الحقيقة فكرة، كل شيء حولنا في اﻷصل هو فكرة وأن الكون بأكمله هو في الحقيقة مجموعة من اﻷفكار المترابطة فيما بينها ترابطا وثيق جدا،وأنه بدون فهم كل فكرة من هذه اﻷفكار سيزداد الشعور بالغربة عند اﻹنسان، وزيادة مثل هذا الشعور في اﻹنسان سيؤدي إلى فنائه كفكرة. وللأسف نحن اﻵن في عصر يعيش اﻹنسان فيه في مرحلة بدء فناءه إذا إستمر على نفس المنطق ، لذلك في مؤلفاتي أذكر تلك اﻷحداث التي عشتها فمن هذه اﻷحداث خرجت جميع آرائي الفلسفية والعلمية والتي تبدو معظمها غريبة عن المألوف، ولكن مع رؤية تلك اﻷحداث التي حصلت معي عندها سيشعر القارئ بأن آرائي هي من صميم ما حولنا وتفسر بوضوح تام ما يحدث حولنا ولكن إستخدام المنطق الحديث في سلوكنا اليومي جعلنا لا نرى شيئا منها. .......

يتبع