تساقط المستبدين
ألوان من السقوط.. والنهاية واحدة
نبيل شبيب
كان سقوط أحد المستبدّين في وقت قياسي، وكان يعتبر نفسه كبيرهم،
وعندما ارتفعت قامة شعب مصر العريق إلى ذروة شمّاء من ذرى التاريخ البشري، ظهر لمن
لم يبصر من قبلُ مدى صَغار الطاغوت، ولئن تحرّكت آلة الهيمنة الدولية بكل قوّتها
لتنقذ لنفسها ما يمكن إنقاذه عبر "ثورة" مضادة عرجاء، فلا يمكن أن يختلف مصيرها
أمام ثورة شعب مصر العملاقة إلا الخيبة والإخفاق، بإذن الله.
ظهرت أولى أزاهير ربيع العصر العربي الجديد في تونس ومصر، وسقط
"أخطبوط النظام"، فتفرّقت رؤوسه ما بين المنافي والمعتقلات وقاعات التحقيق
والمحاكمات.. وكان من المفترض بميزان المنطق، لو توافر المنطق، أن يعتبر بذلك
مستبدّون آخرون وهم يرون رأي العين ما تصنع إرادة الشعوب..
بدلا من ذلك إذا ببعضهم يسارع إلى ترقيعات جزئية، وببعضهم الآخر
يسارع إلى التخطيط لممارسة قمع إجرامي أشدّ وأنكى، وكأنّهم حريصون على أن يكون
سقوطهم مدويّا.. ولكن بأغلى الأثمان من دماء ودمار، أو لأنهم عاجزون عن الاستيعاب،
عن التخلّي عن أوهام مواجهةِ تيار التاريخ بسيل الدماء والدمار!..
يا أيها المستبدّون.. انتهى أمركم، فأنتم تواجهون ثورة شعوب على
استعداد للتضحية والفداء والصمود بأضعاف أضعاف استعداداتكم الرهيبة للقمع والإجرام.
إنها مفارقة خطيرة مأساوية.. بين استبدادٍ نهايتُه حتمية دون
جدال، وثورات شعبية تعبر آلامَ مخاضِ الولادة وانتصارُها حتميّ دون جدال.
مفارقة لم ينتزع تناقضاتِها من رؤوس المستبدّين هروب بن علي،
وتنحّي مبارك، ولا يبدو أنّه سينتزعها ترنّح صالح من ورائهما، واهتراء تبجّح
القذافي تحت ضربات أعداء ليبيا، من خلال جريمته الأخيرة بحقّ ليبيا وشعبها الثائر،
ومن خلال الوهم أن يصنع في جولةٍ تخوضها كتائبه ضدّ عدوّ أجنبي يقود بعضَ كتائبه
أصدقاؤه هو خلال السنوات الماضيات.. أن يصنع فوق الأشلاء والدمار ثغرةً لنفسه
ولاستمرار استبداده!.
هروب.. وتنحّي.. وترنّح.. واهتراء
تلك خيارات الاستبداد في هذه المرحلة التاريخية من ربيع الثورة
العربية.. أمام الشعوب الثائرة.
أيّ خيار يلجأ إليه المستبدّ الحاكم في سورية؟..
لقد استكبر على نفسه أن يستبق السقوطَ المحتم بإصلاح جذري حقيقي
وإن كان في الإصلاح نهاية استبداده!.
وأبى الهروب في الوقت المناسب من جحافل ثورة شعب أبيّ يستحيل أن
يقبل بعد اليوم بما كان حتى الآن!..
وفوّت على نفسه أوان التنحيّ أمام ثورة شعبية بطولية لا مثيل
لها ولا قِبَل للاستبداد الإجرامي بمثلها!..
هل يظنّ المستبدّ في سورية فعلا أنّه قادر على تجنّب السقوط؟..
أيّ خيوط واهية يحبك تصوّراته منها؟..
هل ينسج أوهامه مستندا إلى أنّ شعب سورية -كشعب اليمن الأبيّ-
يضرب أروع الأمثلة التاريخية القديمة والمعاصرة بسلمية ثورته؟..
أم يرجو النجاة لنفسه معتمدا على أنّ شعب سورية حريص -مهما بلغت
التضحيات وبجميع فئاته وأطيافه- ألاّ يدع في ثورته الطاهرة ثغرة للتدخل الأجنبي؟..
إنّ شعب سورية يتحدّى بثورته البطولية الشمّاء ذلك المستبدَّ
وأوهامه وعقمَ تفكيره..
وإنّ ثورة شعب سورية تعطي يوميا الشواهد على أنّ للإنسان في
سورية صلابة الحديد..
ينزف الدماء فإذا بها وقود لاهبة لمضاء الثورة.. ولمتابعة
الطريق
يودّع الشهداء فإذا بهم نماذج شبه أسطورية لكل ثائر أبيّ..
ولمتابعة الطريق
ويواجه الأطفالُ الإجرام الهمجي فيتحوّل الأطفال والآباء
والأمهات إلى أبطال صناديد في مواجهة صَغار الاستبداد الإجرامي وانحطاطه
وتستمرّ الثورة البطولية على الطريق.. حتى النصر.
يتساءل المتسائلون بألم: حتى متى؟..
كأنّ ربيع الثورة العربية ليس في مقتبل العمر!..
أين هو في مجرى تاريخ البشرية كلّه الحدثُ التغييري الذي حقّق
خلال بضعة شهور ما حقّقه ربيع الثورة العربية حتى الآن.. أو بعضَه؟..
أين هو منذ أقدم العصور إلى اليوم الحدث التاريخي الذي مضى فيه
شعب من الشعوب كما في هذه الثورات المتتابعة، على خطى بلال وآل ياسر وسائر الأصحاب،
وكأنّ كلّ شعب من الشعوب قد أصبح كلّه، بصغاره وكباره، برجاله ونسائه، نفحاتٍ من
بلال وآل ياسر وسائر الأصحاب؟..
إنّها الثورات الأولى في تاريخ البشرية التي لم يمارس الثوار
فيها إراقة الدماء.. ودماؤهم تراق
إنّها الثورات الأولى التي تتحوّل فيها القيم والأخلاق إلى
ممارسات يومية تُطبّق أثناء النزيف على طريق النصر، وليس مجرّد شعارات ونصوصا في
مواثيق، تُصاغ من أجل الإنسان.. ويستمر نزيف الإنسان في كل مكان
إنّها الثورات الأولى التي تجمع فئات شعبية مزّقها الاستبداد،
وأطيافا شعبية فرّقها الاستبداد، وأجيالا من الأحفاد إلى الأجداد على طريق واحد،
ومطلب واحد، وهتاف واحد.. في ألف شكل وشكل من تجليّات البطولة البشرية بأسمى
معانيها
رغم ذلك.. حقّ للمتسائلين أن يتساءلوا "ألماً": إلى متى؟..
إنّما لا يكاد عاقل يتساءل حقا عن مصير الثورات الشعبية
العربية، فالنصر محتّم وسقوط أنظمة الاستبداد جميعا آتٍ عاجلا لا آجلا.
لئن كانت غشاوة أبصار المستبدّين تحول دونهم ودون الاعتبار
بمصائر الأقدمين من فرعون حتى أبي جهل ومن هامان حتى أبي لهب، ومن قارون حتى هرقل
وكسرى.. أفلا يرون –ولو عبر غبش الغشاوة- مصائر بن علي ومبارك وأعوانهما.. وكيف
أصبح صالح والقذافي على إثرهما حذو النعل بالنعل؟..
أفلا يفهم المستبدون –لا سيما في سورية قبل سواها- أنّ ما
يصنعونه قمعا وإجراما، يسدّ في وجوههم الملاجئ لحظة هروبهم أو نفيهم، ويبني لهم
قضبان السجون لحظة اعتقالهم ومحاكمتهم، ويحفر لهم القبور إن لم تلفظهم الأرض بعد أن
لفظتهم الشعوب؟..
هل يمكن للمراوغة الدموية أن تخدع صاحبها فتجمّل وجها قبيحا
يحكم وتواري براءة وجه شهيد والعزم والتصميم في عيني ثائر منتصر؟..
ما أبشع "وعود العفو".. يطلقها القاتل للضحية أمام الرصاص وخلف
القضبان وفي قبضة زبانية التعذيب.. بعد وعودٍ ووعودٍ طالما تبخّرت.. وتتابع القتل
والاعتقال والتعذيب
ثم يتساءلون ببراءة الذئاب: علام لا تصدّقون الوعود؟..
ما أبشع "الإصلاح" بمراسيم تُملى بعد سابقاتها من أمثالها ولا
تستحقّ عنوان الإصلاح، ولا تكاد تنطلق حتى تزيد الخروق والفتوق فيما يسمّونه "هيكل
حكم قائم"، وتتلاشى "المراسيم" مثلما يتوارى أصحابها عن الأنظار عجزا عن الكلام،
ولا تتلاشى ولا تتوارى بل تتواصل أفاعيل "عصابة حكم قائم"
ثم يتساءلون ببراءة الثعالب: علام لا تهدأ ثورتكم حتى يأخذ
"الإصلاح" مداه؟..
ما أبشع اجتماع شفاه آثمة لا تتقن حتى التدجيل والتضليل، وآلة
قمعية تتقن التقتيل والتنكيل؟..
ويحسبون أنّهم قادرون بذلك على إخماد ثورة شعبية أبيّة!..
يحسبون أنّهم يضعون الشعوب الثائرة أمام خيار الموت، عن طريق
فرق الموت في زيّ شبّيحة وقنّاصة، أو خيار الموت، عن طريق فرق الموت في زيّ عصابات
قمعية، أو خيار الموت، عن طريق عصابات القهر والموت السياسية الاستبدادية الفاسدة
كلا..
ليست الشعوب أبداً هي الطرف الذي يقف أمام "خيارات الموت" في
قبضة المستبدين ما بين تصعيد القمع الإجرامي الدموي بذريعة مواجهة الثورة ضدّ
الاستبداد.. واستمرار الاستبداد الفاسد الإجرامي الدموي لو غابت ذريعة الثورة ضدّ
الاستبداد
إنّ أخطبوط الاستبداد والفساد والقمع والإجرام هو من يقف بين
خيارات سقوط وسقوط.. بين الهروب والتنحّي والترنّح والهلاك.
انتهى أمركم أيها المستبدون..
طويت صفحة تحمل من سواد عهدكم وعُقْم سياساتكم –لو كانت سياسات
حقا- ما جعل منها سرابيل من قطران، يستحيل عليكم الإفلات من أثقالها
انتهى أمركم أيها المستبدون..
فدموية حكمكم الآثم ألهبت وقود الثورة على استبدادكم، فكفّوا عن
إضافة مزيد من الوقود ومن الآثام إلى آثامكم، وإضافة مزيد من الدماء التي تلوّث
البقية الباقية من وجوهكم وقد جفّ ماؤها، وإضافة مزيد من الحناجر التي تردّد مزيدا
من اللعنات من بين أيديكم ومن خلفكم.. رغم الصمم المتوارث في آذانكم.
انتهى أمركم أيها المستبدون..
لئن عجزت قوى الهيمنة الدولية أن تمسك بمن سبقكم على منحدر
السقوط، فاعلموا أنها لن تمسك بكم أيضا، ولن تمسك بكم قوى محاوركم الإقليمية،
الأضعف والأعجز أمام إرادة الشعوب.
لئن عجزت أجهزة القمع في تونس ومصر واليمن وليبيا، وأجهزة
التضليل والمناورة والمقامرة في تونس ومصر واليمن وليبيا، عن إنقاذ مستبدّين، سقطوا
من قبلكم، أو هم على وشك السقوط، فلن يجيركم من السقوط ما تستندون إليه أنتم من
أجهزة قمع وتضليل ومناورة ومقامرة.. مهما حسبتم أنفسكم أقدر من سواكم على إتقان
القمع والتضليل والمناورة والمقامرة.
انتهى أمركم أيها المستبدون..
تذكّروا إن شئتم ما كان فيما ترونه ثورات فرنسية وبلشفية
وأمريكية، وكيف عاملت تلك الثورات المستبدّين من قبلكم، قتلا وسحلا، عساكم تستشعرون
أنّ في هدير شعبكم الثائر بعضَ الإشفاق وهو يزأر في وجه كل منكم واحدا بعد الآخر..
مكتفيا –حتى الآن- بكلمة: اِرحل..
ومن العسير أمام ما تصنعون القول: إنكم تستحقّون الإشفاق!..
إنّما هي الشعوب الأبية الثائرة على انحطاط استبدادكم، الشعوب
الواعية المتحضرة رغم همجية قمعكم، الشعوب التي تعرف –من دونكم- ما معنى كلمة
القيم، ما معنى كلمة الإنسانية، ما معنى كلمة العفو.. حتى على من لا يستحقّون
العفو، وتعلم أيضا أنّها إن أفلتتكم من عقابٍ تستحقونه في هذه الحياة الدنيا، فلن
تفلتوا من العقاب الأعظم والأنكى والأبقى في الآخرة.
انتهى أمركم أيها المستبدون.. فارحلوا!..
ارحلوا قبل أن تغلق أبواب الرحيل في وجوهكم..
قبل أن يتخلّى عنكم مستبدّون آخرون، ما زال يُحتمل أن تلجؤوا
إليهم فرارا من شعوبكم، وربما تبقون في كنفهم ردحاً من الزمن، إلى أن يحين وقت
فرارهم هم من ثورات شعوبهم.. ما لم يستبقوا الثورات بالهروب أو التنحّي.. أو بتغيير
جذري شامل لم تملكوا الجرأة على مثله.. حتى أضعتم على أنفسكم فرصة النجاة من
السقوط.