ولكن لا تفقهون تسبيحهم

ولكن لا تفقهون تسبيحهم

نجاة الحجري

[email protected]

( 1 )

أسهرتني الأفكار ، فآنست في الشمعات رشدا يفوق رشدي ، وهي تحترق في انتشاء مدركة تمام الإدراك أنها إلى ذبول وموت . تحترق وتتهادى حولي وأمامي ، كأنها تتباهى عليّ بأنها هي ، وليست أنا . أنا المتذمر دوما رغم أن الحياة تفلتني أحيانا من قبضاتها القاسية للحظات ، فألتهم تلك اللحظات تذمرا وشكوى ، متناسيا أن أشعر بأني حي ولو للحظات !

حملتُ الشمعة ، كأني أحتضنها ، أمَلتُها عليَّ لأشاركها احتراقها ، فنذوب معا في حقيقة الغياب الذي تدركه هي ، ويسري فيَّ أنا . أملتها قريبا من صدري ، فالتحم دفينها ودفيني ؛ فدمعت عيناها عليّ وعليها ، تلك الدموع التي كانت تخبئها وراء ذلك الصمود والاحتراق والانتشاء ، كانت دموعا ساخنة بحرارة الوجع المخفي بصمت إرادي ترفضه الإرادة ، فذبتُ لما أدركتني حرارة البوح !

التصقتْ دموعها بتعاريج إصبعي التي تميزني عن كل بشر في الدنيا ، التصقتْ بها وتشكلتْ بصورتها ، كأنها أرادت أن تكون أنا ، أنا البشري الشكّاء البكّاء الهلوع الذي كانت تسخر من دموعه قبل قليل لم يمر عليه الكثير !

أذابت فيَّ حرارة البوح حتى ارتوت ، فغادرها الوهج ؛ فتجافت عن إصبعي بعد أن عادت صلبة ترفض افتراش تعاريجي والضياع فيها . أدركتُ حينها أن تلك الدمعة الساخنة ما كانت إلا جزءا أراد الاندماج مع الآخر والبوح بشيء ما عادت الحياة معه تستقيم ، وإن كانت حياة الشمعة موتها !

رحل جزء من الشمعة ليحمل بوحها ، لكنه بعد أن أفرغ هم الوجود أبى إلا أن يكون هو وليس أنا ، فجافاني ، ورحل ليكون جزءا من الشمعة الأم التي تحترق ، فتنتشي ، فتبكي ، فنبصر على دموعها المتألمة فرق ما بين النور والظلام .

فهل أنا كتلك الشمعة الراشدة العظيمة ، أتسمحين لي يا نفسي القاسية أن أبكي عليَّ بكاء الشمعة التي أدركتْ أنها ستموت ، ولم يحل ذلك دون دموعها ، وألمها ، وبحثها عمن تندمج فيه لتبوح له ، ثم لم تحل دموعها دون احتمالها ، وصبرها ، وتضحيتها ، وعظمتها .

أتسمحين لي أن أبكي مثلها ؛ فأنا أرق منها على رغم أني أفوقها عدد أنسجة وخلايا ، وأشياء أخرى ، لم تفلح أن تخفي قلبي البشري المرهف جدا !

( 2 )

 إذا كنت تعيش في محيط بشري ، وأنت تصدر بإحساسك ورؤاك من منبع آخر لا تدريه ، لكنك تحس به . تظل تشعر به كأنه باب من نور ، أو إدراك آخر لحقيقة الأشياء ، إدراك لا تحكم له إلا بأنه الحقيقة بلا كيف ولا لماذا ؛ فأنت نفسك لا تدري من أين ، ولا إلى أين ! إدراك في قرار من يقين ، كما أنك متيقن من أنك أنت أنت ، ولست سواك !

لكنما الواقع لا يحكم لإدراكك بشيء من الصحة ، بل يراه سقيما منافيا للمنطق والعقل . كما أن دعة الأحداث أو صخبها يطمسان أي شية له ؛ فتظل كالذي يهذي هذيان محموم امتلأ يوما ما بعظمة نفسه ، أو عالم احترف الدجل بعد أن أتقن فنون الاحتيال على الناس ؛ فصار كلامه كطلاسم الكتب القديمة ، دائما يشي بروحانية أعمق من الواقع وحقيقة مفزعة أو مدهشة تتربص بكل مشهد نعيشه ولو كان يوميا معتادا ، أو كالمجنون الذي تتفتح له أبواب الحكمة ، ومخازن المعارف المصونة عن درك البشر العاديين فينطق بأسرار الماوراء فتزيد معها الثقة بأنه مجنون ، أولعلك كالزرقاء جنت عليها الحقيقة التي لم تقو أن تدافع عن نفسها ؛ لأنها ليست من بركات الواقع العقلي المادي !

صرتَ كالذي يتحدث عن إمطار السماء وتساقط الثلوج في وقت صاف بديع وسماء زرقاء حالمة تمد يديها إلى الأرض بحب وحنان لم تقو أن تكتمه . هناك لا تملك إلا الصمت الذي يغلي بداخلك ، هو صمت يتحدث دونما توقف ، بضِعْفِ القوة التي حُرِم أن يخرج بها إلى الخارج . صمت يشعله اليقين الذي لا أساس له إلا اليقين الذي لم تدر أين أرضه لتقصدها فتأتي بجهينة وخبرها لإقناع الجميع .

وفجأة ، وأنت تنضج على وهج الغليان بداخلك ، والناس مشغولون بالمنطق والعقل وتقسيمات ما هو متوقع وغير متوقع ، وهرطقات القوانين ، وسطوة الماديات ــ تتحرك الأحداث نافضة الدعة والصخب معا ، ويعبس وجه السماء لما لم تتقبل الأرضُ حنانَها المبذول بقلب أكثر بذلا ، وتدْلهمُّ الأرض صدودا . ترسل الفجاءة صرختها كلمح البصر ، تبرق وترعد وتنهمر دموع الألم من جراء الصدود ، وتغرق الأمكنة بدموع السماء التي كانت صافية ! ثم ترتجف الأنحاء ببَرْدٍ يسلب القطرات حرارتها ؛ فتستحيل بَرَدا يصيب به من يشاء . وخبير الأرصاد الجوية قبل هنيهة يقول بثقة ساخرة منك : هذا لا يكون ، ولن يكون !

لم أكن أهذي ، بل كنت أرى ، بل كنت أحس ، لم يكن أمرا وليد الفجاءة ، بل كان كل شيء يدور في الخفاء البعيد عن درك البشر !

ولماذا كنتُ أدري ، لستُ أدري !