نعيم الجهل
نعيم الجهل…
جميل السلحوت
قد لا يعلم البعض ما للجهل من فوائد في عصور الانحطاط التي تصيب شعبا أو أمة،أما محسوبكم فإنني استثني نفسي من هذا الاستثناء،أي انني عالم بحكم الخبرة والتجربة والواقع المعاش بفوائد الجهل، وذلك لأنني اعمل بأرضي في النهار،وأعود إلى بيتي مساء وقد هدني التعب،فأنام ليلي الطويل دون حراك،وهكذا فان حياتي تسير على منوال واحد "من الفرشة للورشة والعكس صحيح" فلا أقرأ كتابا أو صحيفة ولا اسمع نشرة أخبار، ولا أشاهد التلفاز وأنا سعيد بهذا على رأي ذلك الشاعر الذي قال "وأخو الجهالة في الجهل ينعم" ونعيمي ناتج انني بعيد عن عالم السياسة،فلا اعرف كيف تتضخم المستوطنات الصهيونية في فلسطين الذبيحة في ظل ما يسمى "المسيرة السلمية" ولا كيفية تقسيم وطني إلى "كانتونات" غير متصلة بواسطة جدار التوسع الاحتلالي ، ولا أمر بالحواجز العسكرية،لأنني لا اخرج من "الكانتون" الذي أعيش فيه،وهذه نعمة اغبط نفسي عليها لما فيها من راحة عقلية تؤدي إلى راحة جسدية لا يعرف كليهما ذوو العلم.
وإمعانا مني في نعيم الجهل فإنني لا أومن بالطب أيضا، فإذا ما أصابتني أو أحد أفراد أسرتي وعكة صحية، فإنني اركب حماري واذهب إلى البراري،فالتقط بعض الأعشاب الطبية وأداوي نفسي بدون تكلفة، وسأكشف لكم سرا شخصيا بانني أيضا لا أؤمن بالقدرات العجيبة "للفتاحين والمشعوذين والمتسترين بالدين الذين يعالجون بالقران الكريم"
وبالتالي فإنني لا أقع ضحية للنصب والاحتيال،وقد حمدت الله كثيرا لعدم إيماني بالطب بعدما علمت بقصة كمال ذلك المريض من الخليل الذي أصيب بانزلاق غضروفي في العمود الفقري وأجريت له عملية جراحية في أحد مستشفياتنا الحكومية استدان من عباد الله حتى دفع تكاليفها، لأنه غير مؤمن صحيا،وبعد العملية ازدادت أوضاعه الصحية سوءا،فاصبح لا ينام الليل من شدة الألم. واستمر في مراجعة المستشفى وأطباء آخرين دون جدوى. وبعد عناء استمر طويلا قرر الأطباء إجراء عملية أخرى له على اعتبار انه مصاب بانزلاق غضروفي جديد.ونظرا لأوضاعه المالية السيئة ولتوفير ألف شاقل،أجرى العملية الجديدة في مستشفى آخر،وكانت المفاجأة أن اكتشف الأطباء في جسمه "ضمادة شاش"بقيت من الجراحة الأولى.
وهذه الحادثة أكدت لي من جديد فوائد جهلي وعدم إيماني بالطب حتى انني عندما شعرت بآلام حادة في اسفل ظهري اكتفيت بتدليك أم العيال لظهري بصحبة زيت الزيتون النقي.
فتذهب الآلام وتعود وعندما تعود نعود إلى التدليك لكن المهم إنني حميت جسدي من زراعة "ضمادة" لو ذهبت إلى المستشفى وأجريت لي عملية،وهذه أيضا نعمة من نعيم الجهل التي لم يحظ بها صاحبنا كمال.
ولو اننا قررنا تعداد فوائد الجهل لاحتجنا إلى بحث طويل ليس هذا مجاله،لان حماري شرع بالنهيق كوني تأخرت عن عملي.
تجار الموت…
عندما ركبت حماري وذهبت الى احد المخازن التجارية في قرية العيزرية لأملأ خرج حماري بما تيسر من سكاكر وشكولاته وبسكويت مخصصة للاطفال،وشجعني على ذلك ما سمعته عن ورع وتقوى ذلك التاجر الذي يبيع بأسعار اقل من نصف اسعار السوق،فاعتبرت ذلك فرصة مناسبة خصوصا وان اطفالي محرومون من هذه المأكولات، ولا يتذوقونها الا قليلا في مناسبات قليلة. وقد اغرتني الاسعار الزهيدة بان أملأ خرج حماري بمائة شاقل،ببضاعة تكفي اطفالي لعدة شهور،غير ان فرحتي لم تتم عندما دخل مراقبو وزارة التموين الى المخزن،و بداوا يحصون البضاعة، وأمسكوا بمشترياتي بدعوى ان البضاعة فاسدة بعد ان مضت سنوات على مدة صلاحيتها. وبما انني لا اعلم كيفية معرفة مدة الصلاحية فقد وقفت مذهولا عندما سمعت المراقبين يقولون بان جميع البضاعة فاسدة، وان ختم المدة عليها مزور، ووجدوا آلات واختام التزوير. فلم اقتنع،فشرح لي احدهم ان هذه البضاعة الفاسدة ستقتلني وستقتل ابنائي،فدب الرعب في نفسي ،وتساءلت عن مصدر هذه البضاعة؟؟ فاخبروني ان التجار الاسرائيليين يبيعونها في مناطق السلطة الوطنية لتجار الموت الفلسطينيين عندما تنتهي مدتها، ولا يستطيعون تسويقها في السوق الاسرائيلية،فاستعدت ثمن مشترياتي، وتركتها ليصادرها مراقبو التفتيش وركبت حماري وعدت ادراجي خائبا.
وفي الطريق حمدت الله كثيرا لانني نجوت بنفسي كما نجا اطفالي من موت محقق،أو من أمراض قاتلة. ودار في خلدي لو انني اكلت من هذه المواد الفاسدة ومت كيف سينعاني اهلي،وكيف ستكون صيغة النعي فبالتأكيد سينعونني كالتالي:-"تنعى العائلة بكل فخر واعتزاز شهيد الواجب ابنها المناضل البار…"
وربما سأجد تنظيما فلسطينيا سينعاني بنفس الصيغة، وربما سينعاني بعض الاصدقاء بنفس الصيغة ايضا. فضحكت من نفسي على حالي البائس، وكيف سيتم نعيي بفخر واعتزاز وكأن الجميع ينتظر ساعة الخلاص مني. غير انني زهوت بنفسي عندما سيعتبرونني شهيدا مع انني مت مسموما،ومع ايماني ان الشهادة لا يعلمها الا الله. ولم افق على نفسي الا بعد ان نهق حماري فتعوذت من الشيطان الرجيم وبسملت وحوقلت وحمدت الله انني مازلت حيا.