تلال ضيعتنا

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

تصحو رام الله على صباح آخر، صباح خريفي بارد كصباحات وأمسيات خريف رام الله، بعد يوم سادته الفوضى وتشويه وجه المدينة، ففي الأمس كنت أنتظر ضيوفاً من الداخل الفلسطيني، يحملون معهم حبق الناصرة ونسمات المثلث، وطيبة وجمال أهلنا في الداخل، وحين وصولهم اتصلوا معي وقالوا كعادة القادمين من خارج المدينة: نحن موجودين في دوار الأسود، وهو الاسم المتعارف عليه من قبل زوار المدينة بدلاً من اسم المنارة، وهو النقطة التي لا بد أن ينتظر بها كل قادم من يريد أن يلتقي.

خرجت إليهم وكان هناك تجمع قد بدأ بالاحتشاد في الساحة يرفع الأعلام الأعلام الفلسطينية، وكانت الصحافة الفلسطينية قد أعلنت عن مسيرة تطالب بالتأكيد على الثوابت الفلسطينية، ولكن ورغم أن كل مفاوض رسمي بحاجة إلى المعارضة لتقوي موقفه، إضافة لحق الناس أن تعبر عن وجهة نظرها فيما يجري، إلا أن الصدور ما زالت تضيق بالرأي الآخر، وتصر على أن لا معارضة لرأيها وأنها فقط من تمتلك وجهة النظر، ورغم سلمية المسيرة إلا أني فوجئت بعملية قمع واعتقالات وضرب لبعض الموجودين، ومصادرة لليافطات والأعلام الفلسطينية، ومنع المصورين وتعرض بعض الإعلاميين للإساءة ومنعهم من التصوير، وبتقديري لو سمح للمسيرة أن تمر لكان أفضل، فالأعداد لم تكن بتلك الضخامة، ومن خرجوا بالمسيرة وجوه معروفة من القوى الشعبية والتنظيمات الفلسطينية، ولكانت المسيرة عبرت عن وجهة نظر المشاركين وانفضت بهدوء.

احتجت إلى وقت حتى تمكنت من العثور على ضيوفي بسبب الفوضى التي نتجت عن تدخل رجال الأمن، وكانوا في غاية الانزعاج مما رأوه، إضافة للاستياء الذي سمعته من أفواه المواطنين الذين صدف تواجدهم، وغادرت وضيوفي الموقع وندبات تحفر نفسها في النفوس، لمتابعة برنامجهم الذي أتوا من أجله، لنسمع بعدها عن مسيرة أخرى خرجت من أحد المساجد يقودها حزب إسلامي وجرى قمعها وإطلاق الرصاص في الهواء، إضافة لمسيرات أخرى في مواقع متعددة من أنحاء الوطن، أدت لسقوط ضحية في الخليل إضافة للجرحى والمعتقلين، في الوقت الذي خرج فيه ما يزيد عن عشرة الآف من المتشددين اليهود للتظاهر والاعتصام قبالة بيت رئيس وزراء العدو، ولم يجري قمعهم ولا منعهم، وسمح لهم بالتعبير عن وجهة نظرهم، فكما أسلفنا فأي مفاوض رسمي بحاجة للمعارضة لتقوي من موقفه، وليس بحاجة لشعب من الخراف لا يُسمح له بإبداء الرأي.

أيامي الماضية حفلت باستقبال الضيوف القادمين من الداخل، فالعديد قد حضروا ليتعرفوا على رام الله من أصدقاء قلمي ونصوصي، فكانت فرصة للتعارف الشخصي لمن لم التقيهم سابقاً، وترسيخ علاقات الصداقة مع من التقيتهم بالسابق، وأتاح لي فرصة التجوال معهم لساعات طوال في المدينة، ليتعرفوا من خلال هذه الجولات على معظم معالم المدينة، إضافة لمراكزها الثقافية كمركز السكاكيني وقطان والقصبة والكمنجاتي ومركز بلدنا في البيرة الذي لا يخلوا من معارض الكتب، والتي شكلت للصديقة الكاتبة دارين طاطور، فرصة للحصول على الكتب التي تريدها بأسعار معقولة بالنسبة لها، وكم كنت مسروراً وأنا أرى معالم البهجة على الوجوه، والفرحة بالتعرف على مدينة رام الله وجمالها، وعودتهم بانطباعات حلوة عنها.

وأجمل حدث كان في الأيام الماضية اللقاء المفتوح الذي دعت إليه بلدية رام الله مع المواطنين، بحضور المحافظ ونائب مدير الشرطة، وبحضور كبير وحشد مميز من المواطنين والمهتمين، وكانت فرصة ليدلي كل بدلوه، ويقدم المواطنين شكواهم وأرائهم، ووجود المحافظ والذي عرف عنه اهتمامه الشديد لقضايا المحافظة، إضافة لاهتمامه بالثقافة والفن، وهذا ما يميزه عن غيره، إضافة لوجود نائب مدير الشرطة، فكانت فرصة لإيصال الآراء والملاحظات، والسماع منهم ومناقشتهم، وقد لمست اهتماماً كبيراً بتسجيل الملاحظات طوال الوقت، وعلى مدى يقارب الأربعة ساعات سادت الايجابية اللقاء، وهذه اللقاءات سنة حميدة سنها المجلس البلدي المنتخب، فهذا ثاني لقاء عام مع المواطنين، إضافة للعديد من اللقاءات عبر العامين الماضيين للمهتمين بشأن المدينة سواء في مقر البلدية أو مقر مكتبة البلدية، وفتح أبواب البلدية للاستماع للنقد والحوار والمناقشة، ولا يسعني إلا أن أثني على سعة الصدور في تقبل الملاحظات والهجوم القاسي من البعض.

أعود من جولة قصيرة في المناطق القريبة من صومعتي، أتأمل الحمائم وهي تحط على نافذتي تلتقط حبات القمح التي أضعها لها، مستمتعاً بأصواتها مترافقاً مع صوت فيروز، ممتعاً نفسي بفنجان قهوتي الصباحي الجميل، مستعيداً بعض من مسيرة الذاكرة والطفولة، حيث الصفاء والنقاء والجمال وتطور المسيرة الشخصية، عبر ذاكرة وطن ورحلة شتات ومنافي.

تركت المدرسة الرسمية الأولى أثرها في حياتي وروحي، فالمدرسة الواقعة في جنوب عمان كانت في حي عرف لاحقاً باسم حي "الشعيلية"، وكانت واقعة بين بداية امتداد الصحراء الجنوبية والمدينة والمخيم، وفي الساحة المقابلة للمدرسة كان يقام كل أسبوع سوقاً لبيع الإبل، وكان منظر الإبل بضخامتها يثير في نفسي الرهبة، وكان الطلبة خليطاً من الحضر والريف والبادية، وكنا نقف في ساحة المدرسة كل يوم ننشد نشيدين أمام العلم، النشيد الأول لمليك البلاد يقول مطلعه: "دمت يا شبل الحسين قائد الجيش الأبي، وارثاً للنهضتين دمت جيش يعربي"، والثاني مطلعه: "نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلد"، وكان هذا واجب يومي لا نعفى منه إلا بأيام المطر، ولعل أسوء ما في الذاكرة عن تلك الفترة قيام المدير بالتفتيش على الطلبة في الساحة، ورغم أننا كنا نحلق شعورنا على "الصفر"، إلا أن فراش المدرسة وتحت إشراف المدير كان يدهن رقابنا بمادة "الجاز"، تحت دعوى مقاومة القمل والمحافظة على النظافة، ولا يعفى أحد منا من هذه العقوبة التي تجرح مشاعر الطفولة في أرواحنا، إضافة لمعاقبة من يطيل شعره بحيث يتمكن المدير من التقاطه بين رؤوس أصابعه، ويا ويل من لا يحمل منديلاً في جيبه، أو يجد أن أظافره طالت قليلاً، فالعصا حاضرة للعقوبة في الطابور الصباحي، فكل يوم بعد النشيد وتحية العلم، كنا نمد أيادينا أمامنا ونحن نضع منديل القماش بداخلها، فيمر المدير والمدرسون في جولة التفتيش، والتقاط المخالفين وإخراجهم من الطابور، ومن ثم معاقبتهم أمامنا بالضرب على الأيدي، أما داخل الصف فمن لا يحفظ الدرس فكانت عقوبة الضرب تتنوع حسب مزاج المدرس، فأستاذ اللغة العربية كان يعاقب الطالب المقصر بالضرب على المؤخرة بعد أن يمسك أياديه أضخم طالبين في الصف ويحنوه على المقعد الأول، أما أستاذ الدين فكان يحب أن يمارس العقوبة بالضرب بمساحة لوح الدرس على ظهر اليد، أو قرص الأذن بواسطة حصاة يحملها بجيبه، إضافة للحجز بعد انتهاء الدوام لمدة ساعة في غرفة الصف، ولا اذكر أني عوقبت إلا مرة بالتأخير فقط لكوني أخطأت بحرف في آية لا غير، وكونها المرة الأولى اكتفى الأستاذ بحجزي بعد الدوام، وحين اذكر هذه العقوبة أبتسم وأقول لنفسي: كانت تجربة الاعتقال الأولى في حياتي، والتي استدعت فيما بعد سنوات وسنوات من تجارب الاعتقال والسجن.

"لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، هذه المقولة التي لا أنساها، ففي تلك الفترة أعلنت المدرسة عن رحلة للبحر الميت، وسجلت اسمي ضمن من سجلوا، وأبلغت أهلي في المساء وكنا في زيارة لبيت جدي لوالدتي رحمه الله، وفوجئت أن مبلغ "الشلن" كما نسميه وهو فقط خمسون فلساً رسوم الرحلة لا يمكن لوالدي توفيره، فأجهشت روحي بالبكاء والألم، وكل ما كان مع والدي مبلغ عشرون فلساً أو كما نسميها "قرشين"، واستكمل جدي المبلغ بعشرين فلساً وأخوالي الكبار الاثنين كل بخمسة فلوس وكنا نسمي قطعة الخمسة فلوس "التعريفة"، حتى تجمع المبلغ الذي لم أتركه طوال الليل من يدي حتى دفعته للمدرسة ثاني يوم، ويوم الرحلة كانت الوالدة الحنون قد تمكنت من تجميع عشرين فلساً قطعة واحدة أعطتني إياها كمصروف، وكنا نسمي هذه القطعة "القرطة"، إضافة لوجبة غداء عبارة عن قطعة خبز وبعض لفائف "الملفوف" القرنبيط بالرز وبدون أثر للحوم بها، فمن كان يمكنه أن يعرف اللحم إلا بعيد الأضحى؟، لكنها كانت الرحلة الأجمل في حياتي وربما لأنها كانت الأولى، وربما لأني كنت أرى البحر الميت لأول مرة ، فلم أتمالك من إلقاء نفسي كباقي الطلبة بالماء الشديد الملوحة.

صباح الخير يا رام الله، صباح الخير يا وطن، صباح الحلم الذي نحلم به، الوطن الحر والشعب السعيد، وطن بلا احتلال ولا تسلط، وطن الحرية و المحبة والجمال والزيتون، وطن الحلم والربيع والأزهار، صباحك المشرق يا رام الله، وأنا أقف لنافذتي وحيداً متوحداً متأملاً، أحتسي قهوتي وحيداً وشعور بالوحدة يجتاحني، أستمع لفيروز وشدوها:

"بضل فيها اثنين عيون حلوة وأيد، يعمروا من جديد ضيعتي الخضرا عا مد العين، وصغيره ومشيرة على الغيم بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرق عليها رياح وغيم وبتضل تلاقي نواطيرها".

صباحكم أجمل.