في ذكرى الإسراء

في ذكري الإسراء:
صور من  -بركات الحوٍل-

 

بقلم د.: جابر قميحة
[email protected]

تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1) ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة -أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته - وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:
الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي وعليه تعتمد رسالته "إن هو إلا وحي يوحي".
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن "رحلة" أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.
وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق "غاية" شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه "لعبده" فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.
وكانت رحلة عرفانية رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة "كاشفة" نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر.
لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي "الذي باركنا حوله" فما معني "البركة"? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن": "البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البركة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة" ص54.
وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في "روح المعاني": "وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال" 15/16. وجاء في الأثر أن "البركة" تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات
. . .
فهناك إجماع إذن علي تفسير "حوله" بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض "باركها" الله, أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.
ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير "حوله" بالمفهوم "القيمي" والحول -في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.
واستصحاب الواقع التاريخي, واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن "منطقة المسري" -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في "حَوٍل" من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها -فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.
كلمة التاريخ
وصور "الحول" الذي باركه الله في منطقة المسري أكثر من أن تحصي, نكتفي منها -في مقامنا هذا- بصورتين: الأولي في القديم, والثانية في الحديث.
وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ-1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين تحت راية الإسلام مصر والشام والعراق والجزيرة. كانت قوات الصليبيين لا تقل عن خمسين ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد علي نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة ثلاثين ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل "الملك غي", والأمير "رينو دي شاتيون", قال ابن الأثير: "وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يري القتلي منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يري الأسري منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد", وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلي التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, واسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقري.
إنه العدد الأقل الذي "بارك الله حوله" فغلب -بل سحق- العدد الأكبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249].
. . .
وفي وقتنا الآني الذي نعيشه نري كيف بارك الله حول انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا علي اليهود من الرصاص, وقد رأينا علي شاشة التلفاز كيف يهرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام "قذائف الحجارة" من أيدي أطفال الأقصي, محاولين التماس "سواتر" تحميهم من زخات هذه الحجارة, ورأينا ما لا يقل عن عشرة جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم "مذراة" القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له "مواسير" متعددة, وصدق تعالي إذ قال: "ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة" وإذ قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي" ومن صور "الحول" الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس "محمود هنود" الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم.
إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها "حول" المؤمنين وجهادهم علي مدي العصور ما ثبتوا علي إيمانهم "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين". وهذا التفسير -ولا شك- يدفع المؤمنين إلي مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلي تحقيق النصر المؤزر المبين.
وأخيرًا: نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية: 1- أن الأقصي في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصي والمقيمين في فلسطين من المؤمنين , وهذا ما يسمي في البلاغة "مجاز مرسل علاقته المحلية" كما تري في قوله تعالي: "فاسأل القرية التي كنا فيها" والمقصود أهل القرية.
2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد فالبركة متجذرة في الماضي وممتدة إلي الحاضر والمستقبل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه أي التفسير القيمي لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين.


انتخاب الصحفيين ومنطق الافتراء
حاضرنا يقول إننا نعيش عصر "اختلال المعايير", أي عصر تسمية الأشياء بغير أسمائها, حتي لو ناقض الاسم المسمي, كأن نطلق علي المفرط الذليل الهين المهين لقب "بطل السلام والصمود", وأن نطلق وصف "عهد الحرية والديمقراطية" وهو في حقيقته "عهد تحلل وظلم واضطهاد".
وأجعل نظرتي أكثر تركيزًا, فأحصر كلامي في مصطلح "الأغلبية" فمن البدهيات التي يعرفها حتي العوام من الناس أن الأغلبية في مفهومها التلقائي المباشر تعني "التفوق العددي" فإذا قلنا: إن الذكٍران يمثلون الغالبية أو الأغلبية في هذه الأسرة فهذا يعني أن الذكور يزيد عددهم علي عدد الإناث ولو بفرد واحد.
ولنترك هذه البدهية في صورتها التجريدية لننظر إلي توظيف المصطلح "سياسيًا" خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة: وأذكر أنني رأيت السادات -غفر الله له½ علي الشاشة التلفازية يقول "إحنا شعب صاحب حضارة عمرها سبعة آلاف عام... وأنا -يا همت, بصفتي زعيم الأغلبية- رحت زرت إبراهيم شكري- في بيته في شربين- بصفته زعيم المعارضة..".
ولم أملك نفسي من الضحك, وأنا أري السادات في جلبابه البلدي, وعباءته الفاخرة, يوجه هذه العبارة لهمت مصطفي -غفر الله لها- في واحد من اللقاءات السنوية التي كانت تعقد كل عام بمناسبة ذكري ميلاد السادات في بيته بقريته "ميت أبي الكوم", وكنت أسأل نفسي: من الذي أعطي هذا الرجل الحق في أن يخلع علي نفسه هذا الوصف? إنه "التوهم" الذي تحول إلي "وهم" ضرب في أعماقه, فجعله يحلق في عالم من "الضباب الأزرق الحالم" ويزين له أن ينسي واقعه وحقيقة ذاته, فيسرف في القول, فيقول لهمت مصطفي -في واحد من هذه اللقاءات "أنا لما عملت ثورة 52 أنا والمرحوم جمال عبد الناصر...", ومرة أخري يقول "أنا لما عملت الإخوان المسلمين أنا والمرحوم البنا.. شوفوا بقي التلمساني ده كان فين?!" وأكد هذا في خطاب عام فقال مهددًا.. متوعدًا "..وقد أضطر -إذا ما تأدبوش- أني أعمل لهم ثورة 52 من تاني!!" وعلق مواطن ظريف علي عبارة السادات بقوله "الله!! هو السادات فتح مصنع ثورات واللا إيه?!!".
وبعد مصرع السادات ظل كبار رجال الحزب الوطني وقادته يعيشون نهٍب "حالة نفسية" مشكلة من حلقات ثلاث متتابعة هي "التوهم والوهم والإيهام": فهم توهموا أنهم قادة لحزب يمثل أغلبية الشعب اسمه "الحزب الوطني", وفي جو من "الضباب الأزرق الحالم" تحول التوهم إلي "وهم" تركز في أعماقهم كأنه حقيقة لا تقبل الجدل, ثم تولد من الوهم "إيهام", وهو عملية غيرية ناشطة - أي محاولة إقناع الآخرين بأن "المدعو الحزب الوطني" هو حزب الأغلبية, وأن قادته هم زعماء الأغلبية.
ونسأل: إذا كان هذا صحيحًا فأين مكانهم في النقابات المهنية كالأطباء والمحامين والصيادلة, والمهندسين, وأندية أعضاء هيئات التدريس الجامعية? وللإخوان فيها الوجود الأظهر والأقوي والأوفي. بل أين مكانهم في الشارع المصري?
فإن كذبوني فالجنائز بيننا
سَلُوها فصوتُ الموت ما كان يكذبُ
فلا عجب إذن - إصرارًا من هؤلاء علي لقب الأغلبية- أن يلجئوا إلي تزوير الانتخابات تزويرًا لا مثيل له في أي مكان في العالم, ولا في التاريخ الإنساني كله!!
ومن سنوات رأينا الكاتب "الفحل" إبراهيم سعده يصر علي أن التيار الإسلامي- أي الإخواني- إنما هم في النقابات "قلة ناشطة.. ناطقة" أما رجال الحزب الوطني, وأنصار الحكومة, فهم أغلبية حقيقية, ولكنها أغلبية "صامتة" يعوزها التنظيم والتكتل. وتكرر هذا الصوت "الدعيّ" المضحك بعد ظهور نتيجة انتخابات نقابة الصحفيين, بعد أن غرق مرشحو الحكومة, واحترقت ورقة "الملايين الموعودة".
ولهؤلاء أقول: حتي لو صح زعمكم, فلماذا نعرّف الأغلبية "تعريف العوام" أي التعريف العددي? لماذا لا نعرفها تعريفًا قيميًّا? فالأغلبية العددية الصامتة المفرطة المفككة لا قيمة لها لأن وجودها كعدمه. وهنا أذكركم بواقعة تاريخية خلاصتها: أن أحد المسلمين لما رأي جيش الروم لا يقل عن عشرة أمثال جيش المسلمين عددًا, صرخ مفزوعًا "ما أكثر الروم, وأقل المسلمين!!" فصاح خالد بن الوليد بقوة قائلاً: "لا بل قل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم, فإن الناس يكثرون بالنصر, ويقلون بالهزيمة" نعم يا خالد بشرط أن يكون النصر نصرًا حقيقيًا.. بلا ادعاء ولا توهم, ولا وهم, ولا إيهام.. ولا تزوير.