حوار بين بلبلين في فضيلة الحرية ورذيلة العبودية
حوار بين بلبلين
في فضيلة الحرية ورذيلة العبودية
عابدين رشيد احمد
حطَّ بلبل حرٌّ طليق بجوار بلبل مقيد مطوّق في جوف قفص من خشب فقال له البلبل الطليق : آه يا صاحبي لو تعرف سعادة الحرية ؟!
قال البلبل الحبيس : آه لو تعرف قيمة الأمان والسلامة من هجمات الأعداء من كل مكان .
قال الأول : إن رزقي وإن كنت أحصله بكدّي وتعبي ولكنه مخبوء مضمون بفضل الله وهو غير رزقك غير المباشر .
قال الثاني : كل ما في الأمر من فرق بيني وبينك في هذا الخصوص أو هذا الجانب : أن رعايتك مباشرة من قبل عبد من عباد الله ورعايتي غير مباشرة من قبل الله سبحانه وتعالى .
قال : آه ثم آه ! لو تعلم سعادة الرعاية الإلهية غير المباشرة فهي سرُّ التوكل والثقة والإطمئنان .
قال الأول : أراك دائم الخوف والحذر والقلق ، تذهب وتجيء ، وتجيء وتذهب ، دائم التعب تبحث عن (( الحَبِّ )) بحثاً دقيقاً بكل صبر واحتمال وجدّ . وهذا فرق بيني وبينك .
قال الثاني : إن لقمتك معجونة ممزوجة بسمَّ الرق والعبودية . فلا أظن فيها تلك الراحة والسعادة واللذة . فالرزق الحلال الزلال له طعم آخر غير طعم رزق العبودية البشرية ، بينما السعادة كل السعادة في رزق العبودية الإلهية بلا مّن ولا أذى ؛ بينما رزقك أنت مشوب بالمنّة والأذى والإهمال والنسيان ، وأحياناً الضجر والسأم .
فالرزاق هو الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يؤوده شيء ولا يمسه لغوب .. فهو قيوم قيوم . وأنا أبحث عما أخفاه لي من زاد الأرض المبثوث . أتعب وأنا سعيد ، أخاف ولكني حر ، أغني ولكن بكل قلبي ، لا عذاباً ولا هموماً . أما أنت فكل غنائك بكاء وعويل ، ولا يدري الناس أن غنائي غناء حرية وسعادة وكرامة !
أنت تأكل ما يريده لك سيدك ، وسجّانك الغليظ القاسي أن تأكل وتشرب .
وأنا آكل وأشرب ما أشتهي وأريد .
أنت لا تستطيع أن تطير إلاّ أشباراً من الفضاء الخانق الضيق الصغير الضئيل وفي داخل القفص المغلق بإحكام شديد .
وأنا أطلق جناحيّ للفضاء الواسع الكبير المبهج كيف أشاء وكيفما قدَّر لي .
أنت تغني وكل غنائك دموع وقيود وأحزان ، وأنا أغني أينما كنت تحت هذه السماء الزرقاء الفسيحة الفسيحة وأغني فوق كل غصن من أغصان أشجار الدنيا ، وأحطّ على أي شجرة أشاء بابتسامات وابتهاجات ومسرّات .
أنت تقول : أنا ضامن خوفك من أعدائك فكأنك في حماية سجّانك ولكن لا تعرف أن طعم الرعاية الإلهية المباشرة كم فيه من سرور وانشراح وابتهاج ، وأن الأجل واحد لا إثنان . فإذا جاء فلا يستأخر ولا يستقدم . وحتى موتي أنا شهادة بينما موتك موت السجين المظلوم المحروم الذليل العليل ، ولا شيء آخر .
تقول : إني يحبّني أهل بيتي ويطربون لصوتي ويسعدون لمنظري وحركاتي . ولكن أنا فيتمتع بي الناظر والمتفرج إلى صوتي وصورتي وحركاتي وطيراني في الفضاء الواسع الجميل أشد جمالاً وأقوى سحراً وأندى حلاوة .
ثم إنك لا تستطيع أن تعقد صداقات وعلاقات مع غيرك من بني جنسك من الطيور ، بينما أنا أبرم صداقات مع كثير من الطيور من جماعتي وجيراني .
ثم إنك تعيش وحيداً فريداً محروماً في سجن إنفرادي بغيض ؛ فلا يؤنسك أنيس ولا يطرد وحشتك خلّي وفيّ وكأنك مقطوع الأصل مبتور النسل .
بينما أنا أعيش مع ندّي ومثيلي في عش واحد أو في أجواء الفضاء ، ومن ثم أربّي أجيالاً من أطفالي وصغاري .
أنت محروم فعلاً من كثير من نعم الحياة بينما أنا على العكس من ذلك فأنا في نعم عميمة وفيرة وعلاقات وثيقة عميقة مع الأزهار والأغصان والأشجار والجداول والمراعي والصخور ، آكل وأشرب وألعب وأقفز في أي مكان أشاء بمحض رغبتي وإرادتي ، لا كما أنت فلا تستطيع أن تأكل أو تشرب أو تلعب أو ترتع إلاّ مما يقدّمه لك صاحبك متى شاء وكيف شاء وحيثما شاء .
وشيء آخر : إنني أذهب ما أشاء ، وأين ما أشاء بحمد الله وفضله ونعمته ورحمته فأتعرف على حقائق هذا الكون وأزداد علماً ومعرفة وعرفاناً ؛ بينما تنحصر حياتك أنت في عالم ضيق بل سجن سخيف كريه ؛ فلا تتعلم فيه شيئاً جديداً مفيداً .
فأنا كالمكتشف الجوّال والباحث الحصيف ، وأنت كالمقعد العجوز المعوَّق ، كل عالمك محصور بين جدران قفصك الحديدي أو الخشبي .
وهكذا فلا يمنح العلم إلاّ للحر الكريم ؛ فما الحياة في حقيقة حقيقتها إلاّ إثنتان : لقمة الحلال وكرامة الحرية .
أنا دائم النظر إلى ما في يد الله ، وقلبي دائم الخفقان في حبه وعلاقتي به علاقة عبودية وشوق . وأنت علاقتك علاقة حجابية ؛ فبينك وبينه ستار من بشر ، ونظرك دائم الرنو والاستجداء إلى ما في السجّان وفكرك مشغول بحركات صاحبك ليأتي بك بشيء مما هو يريد أو يشتهي فيقطع عنك العلاقة المباشرة . وتلك تاج الحرية وعرش الحب ومجد العبودية !
أنت لا ترى في آيات ربّك إلاّ ما يسمح لك ثغرات القفص وفسحاته وشبابيكه ؛ بينما أنا أرى آيات الجمال والجلال والكمال في أجواء طلقة طليقة .
نعم أيها البلبل السجين المسكين !
كلانا مفتونان ، أنت مفتون في قفصك بفتنة الرِّق والشر والأسر والقهر ، وأنا مفتون في فضاء الله الطليق بالحرية والسعادة والعزّة والخير .
فإذا أحسنت الصبر فُزْتَ .
وإذا أحسنتُ الشكر فُزْتُ .
ويكون كلانا إن شاء الله من الفائزين برضوان الله تبارك وتعالى .
أنت يهمُّك ويأخذ كل فكرك يومياً ، متى يطلق سراحك ؟ وكيف تتخلّص من هذا الأسر القبيح وتتحرر من هذا السجن البشع ، بل وتحاول وتصطدم وتفشل مرّات ومرّات ولكن بلا جدوى ، إذ ما لك من مفرّ ولا من باب أو منفذ لتخرج منه . فالأبواب بوجهك موصدة كلها كأبواب جهنم .
أما أنا فيهمني كيف أحتفظ بهذه الحرية ، وبهذه النعمة الكبرى بكل عقل وقوّة وتوكل .
وهنا بعد كل هذا الحوار ، طلب البلبل السجين المقيد أن يعينه البلبل المتنعم بنعمة الحرية والانعتاق ، للخلاص من هذا العذاب الأليم المهين المرير فأجابه البلبل الحر الطلق قائلاً :
_ لا أستطيع ذلك . ذلك لأن سيدك ضد إرادة عقولنا ؛ فقد وضعك في شيء من قمقم لا فكاك لك إلاّ بمعجزة !
قال البلبل المسكين المسجون : إذن فزرني أحياناً ! وسلّني بكلامك الطيب الحلو .
قال البلبل الطليق : أخاف أن يكون سيدك الظالم قد دبَّر أو أخفى لي حيلة أو وسيلة ليصطادني بها أنا الآخر فأسجن مثلك كذلك لأذوق وبال أمري حتى الموت .
فمعذرة يا أخي السجين المسكين ، لا أستطيع وهو فوق قدرتي وطاقتي فإن الذكي الخبيث لا يؤمن جانبه قط وقد تعلَّم وابتكر حيلاً بارعة فوق تصورنا نحن الطيور الأبرياء المساكين العجزين المغفلين .
والآن هاأنذا أغنّي وأمرح وأضحك وأبكي لنفسي ولسعادتي ، وأنت تبكي وتصرخ فيحسب السامعون أنك تغني لهم فيفرحون ويبتهجون .
فيا لهذا البؤس الخفي المجهول !
أنت تفرح غيرك ببكائك ، وهم لا يحزنون لبكائك ولا يرحمون ذلك وشقاءك فيطلقونك وتعطي جناحيك مثلي وأمثالي لفضاء الله الواسع الكبير الجميل البهيج وهكذا تندب حظك وتحكي مأساتك وتنادي إلفك المفقود الغائب البعيد وكأنهم تنشد لهم وتتناغى من شدة السرور والسعادة .
أنت الآن يا أسفي عليك ! في قبضة الإنسان ذلك الظلوم الكفور .
وأنا الآن في قبضة الرب الرحيم المنّان !
فشتان بيننا .
وشتان بين حالي وحالك ، وذوقي وذوقك ، وحياتي وحياتك .
تذييل :
جرى كل هذا الكلام والحوار ، وأنا أنظر إليهما عن كثب .
فلّما دنوت أكثر ، أطلق البلبل الحر العتيق كلا جناحيه للفضاء الطلق وهو يغرّد أغرودة السعادة والحرية والكرامة ، بفرح وسرور منقطعي النظير لينضوي تحت راية قافلة البلابل السعيدة المكرّمة العزيزة الأخرى في جو سماء الله المغمور بأنوار النعمة الأنفس السابغة في الوجود ألا وهي : (( الحرية الإلهية )) الموهوبة لكثير من عباده ، وبقي الآخر المحبوس الحزين الذليل كئيباً واجماً جامداً يتحسر ويتأوه وعيونه تُشّيع أخاه بدموع الأسى والألم الممض في قيود العبودية السوداء المطوقة عليه من كل مكان بيد مخلوق أحمق عابث جهول لا يملك مقدار عقل البعوضة ، رحمة ورأفة ، ولا يفكر لحظة إلاّ في مصلحته وهواه المرديه به إلى مهاوي الضلالات والشقاءات واللعنات فالفناءات .
وضمَّ هذا الحيوان المسكين جناحيه الكسيرين ، واستغرق في حزن عميق وشوق دفين ، لعل الله يفتح له يوماً باب الخير والنجاة والخلاص ، داعياً إيّاه بقلبه المظلوم ومشاعره الملتهبة المتأججة بأشواق أحلام الحرية المقدسة ، أعظم وأكرم وأسعد النعم الربانية قاطبة في عالم هذا الكوكب الدّوار العجيب الذي لا مثيل له في سماوات الكون !
وأما أنا – كاتب هذا الحوار العابر الملهم – فقد واصلت سيري وكفاحي متوجهاً إلى ظلال بيت من بيوت ربِّي ؛ متنّعماً على أمل كبير كبير في الحياة تحت راية عبوديته السعيدة الكريمة اللذيذة .. وهي عيد أعياد مباهج الحرية المقصودة المرتضاة للإنسان المتحرر الأعلى من قماقم الأهواء والشهوات والمحرمات والممنوعات المفضيات إلى البعد والغربة والغضب والإعراض والإنساء ، فالعذاب والنار والفراق واللعنة والخلود .. وتلك طامة الطامات وقيامة القيامات !!