الوعي النخبوي العربي ..

عبد الله عيسى السلامة

الوعي النخبوي العربي

بين "نجمة السرّة".. ومكاييل أمريكا

عبد الله عيسى السلامة

[email protected]

في الخمسينيات من القرن الماضي، وتحديداً عام 1958 نشرت مجلة المصوّر المصرية، تحقيقاً حول جدل كان يدور في الأوساط الفنيّة والثقافية، حول وضع النجمة على السرّة، في الرقص الشرقي.! ذلك أن إحدى الراقصات "المبدعات" كانت تؤدي رقصاتها في أحد الأندية الليلية دون أن (تستر) سرّتها بنجمة، كما هو متعارف عليه في الأوساط الفنية، لاسيما الرصينة المحترمة منها!

وبالطبع من يعرف الرقص الشرقي وطبيعته، و(اللباس) الذي تلبسه الراقصة عند ممارسته، يدرك جيداً أهمية ستر السرّة.

تذكرت ذلك التحقيق، الذي كنت قد قرأته في تلك الأيام، وتذكرت كيف أني تأثرت بوجهة نظر "الأخلاقيين" الذين كانوا يصرون على وجوب ستر السرّة، فالحشمة مطلوبة، إذ لا تكفي "أخلاقياً" تغطية السوأة والنصف العلوي من الثديين، بل لابدّ من تغطية السرّة أيضاً، وإلا فما معنى صفة "شرقيّ" وأين القيم الشرقية الأصيلة؟!

أقول تذكرت ذلك التحقيق، وتذكرت ذلك الإسهام "الجليل" الذي أضافه، إلى بنيه الوعي "الخلقي والاجتماعي" لديّ في تلك المرحلة المبكرة من عمري.

لكن.. بأيّ مناسبة تذكرت ذلك التحقيق، وما الذي دفعه إلى ساحة الوعي لديّ بعد ما يقارب خمسة وأربعين عاماً؟

إنها مكاييل أمريكا، بل الأدق: إنه تعامل بعض النخب العربية مع مكاييل أمريكا.. بعض النخب السياسية، والإعلامية، والثقافية.. وربما الفنيّة.. ولست أجزم ما إذا كانت نخبة أنصار الرقص الشرقي منها أو لا؟!

أجل! إن النخب العربية، التي تتبوأ مراكز القيادة والتوجيه في بلادنا، لاسيما في وسائل الإعلام هي –تحديداً- التي دفعت ذلك التحقيق إلى سطح الذاكرة لديّ، بطريقة تعاملها مع مكاييل أمريكا "المزدوجة".

فهل الربط واضح، بين تعامل نخب الخمسينيات مع أخلاقيات الرقص الشرقي وسرّة الراقصة التي يجب سترها –من أجلب الحشمة- وتعامل بعض النخب الحالية مع مكاييل أمريكا التي يجب ألا تكون "مزدوجة"؟ أحسب الربط، بل أكاد أحسبه، واضحاً لكل عقل "نخبوي" يتصدى للتنظير في المسائل العامة، السياسية، والاجتماعية والثقافية.

وإلا، فلم سميت النخبة نخبة؟! وهل الصفات "الكبيرة" تعطى بالمجان، أو تباع في أسواق "البالة"؟!

لن أتحدث عن عورات أمريكا المفضوحة، بصورة أشنع من صورة أي راقصة –شرقية كانت أو غربية- فهذا مما عرفه دهماء الناس وعامتهم، في قارات الأرض كلها، بله النخب المثقفة المتنورة.. فالربط ليس بين راقصتين، شرقية متخلفة، وغربية نصبت نفسها إمبراطورة على العالم!

لا.. الربط بين تفكير نخبة، وتفكير نخبة أخرى فلماذا؟

لماذا وقفت أخلاقيات تلك النخب المثقفة، بعض النخبة، عند وجوب أخلاقيات النخبة الجديدة عند ازدواج المكاييل، في سياسة مدمّرة كلها!! وما دور تلك الأخلاقيات الرفيعة، في بناء الوعي الإنساني والاجتماعي والخلقي، لدى الفرد في أمتنا؟

ثم ما دور الأخلاقيات السياسية الراهنة الرفيعة، في بناء الوعي السياسي والثقافي، لدى المواطن في عالمنا العربي اليوم؟

وإذا كانت الراقصة الشرقية –عارية الجسد- تضحك من "تزمّت" تلك النخبة التي تأمرها بستر السرّة.

وإذا كانت الراقصة الغربية الإمبراطورية –العارية من كل قيمة خلقية- تضحك، بل تقهقه، من "صرامة: نخبة اليوم التي تأمرها بتوحيد المكاييل السياسية، فتعامل "إسرائيل" كما تعامل باكستان، أو الصومال، أو اليمن.. فهل ينبغي على جماهير أمتنا، أن تضحك أم تبكي، حين تصر نخبها التي تقودها، وترود لها مواقع الحياة الكريمة، والرائد لا يكذب أهله –حين تصرّ هذه النخب على تزييف وعي الجماهير بشكل بشع، وبصورة متعمدة، وبتصميم غريب؟

عري الراقصة أمام الناس مقبول، يسوّغه "الفن"!.. لو غطّت سوأتها! وعربدة أمريكا في العالم، وعبثها بمقدرات الدول والأمم.. كل ذلك مقبول، تسوّغه "القوّة" أو يسوّغه "التمدن" لو كالت بميكال واحد، في تعاملها مع (إسرائيل والسودان) أو مع (كندا وإيران) أو مع (بريطانيا وليبيا) أو مع (نيويورك ومقديشو)..!

هل سألت النخب الكريمة نفسها هذا السؤال: لماذا يطلب من أمريكا أن توحّد معاملتها مع الناس جميعاً، مع خصومها وحلفائها، ومع أنصارها وأعدائها؟!

أهي قاض عالمي، انتخبه العالم، ليعامل أفراده بالعدل والمساواة والحيدة والنزاهة؟

وهل تقر النخب العربية لأمريكا بهذه الصفة؟ وإذا كانت لا تقر لها بهذه الصفة، فبأي منطق إنساني، تطلب منها أن تسوّي بين أعدائها وأصدقائها؟

وهل هذا التركيز على (وجوب العدالة) في تعامل أمريكا مع أعدائها وأصدقائها.. مما يصحح الوعي الإنساني والوطني لدى أبناء أمتنا، أم مما يزيّفه ويفسده؟!

قد نستطيع أن ندرك الأسباب، التي تدفع تلاميذ أمريكا في بلادنا، وأتباعها، والخاضعين لها.. إلى التعامل معها على أنها "وليّ حميم" متمثلين بقول الشاعر: "كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه" والعيب الوحيد لأمريكا هو عدم المساواة في التعامل مع الأعداء والأصدقاء.

قد نستطيع أن ندرك بعض الأسباب لدى هؤلاء، التي تدفعهم إلى تزييف الوعي الإنساني والوطني لدى أبناء شعوبنا..

فما بال الآخرين، الذين يعرفون حقيقة أمريكا، وحقيقة اندماجها التام قي المصالح والمبادئ مع كيان اليهود في فلسطين؟

ما بالهم يرددون المصطلحات ذاتها، و(يعتبون) العتب ذاته على أمريكا، التي تغلغل فيها النفوذ اليهودي حتى النخاع، وحكوماتها كلها خاضعة له؟ أهي السذاجة، أم الغفلة، أم مجاراة التيار، أم الخوف من فضح حقيقة أمريكا؟

ترى لو سئل أحد أفراد هذه النخب: هل تعامل أخاك كما تعامل ابنك؟ وهل تعامل ابن عمك كما تعامل أخاك؟ وهل تعامل عدوّك كما تعامل صديقك؟ وكل ذلك في مجال المصالح والمشاعر، دون أن يكون له علاقة بالقضاء والتقاضي.." لو سئل هذه الأسئلة، فكيف ستكون إجاباته؟

وإذا كانت إجاباته كلها بالنفي، فكيف يسمي مطالبته لأمريكا، بأن تعدل بين أعدائها وأصدقائها في تعاملاتها المصلحية، ومعاملات الدول قائمة على المصالح؟ فلندع جانباً مجال القضاء والتقاضي، ولنقر بأن لكل منّا آلاف المكاييل، في تعامله مع أقربائه وأصدقائه وخصومه وأعدائه ومعارفه.. على مستوى المصالح والمشاعر والمواقف والتفضيلات..

وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول، فما معنى الثرثرة اليومية المستمرة، التي تصدّع الرؤوس في وسائل الإعلام، حول ازدواجية المكاييل لدى أمريكا؟

ومن المستفيد من هذه الثرثرة المضللة البائسة؟ وإلى متى يستمر مسلسل تزييف الوعي لدى أبناء هذه الأمة، المثخنة بطعنات المحسوبين عليها قبل طعنات أعدائها؟