الخاطرة 44 ..هرمس والهرمسيات

خواطر من الكون المجاور

في بداية وجودي في اليونان، شاءت اﻷقدار أن أذهب سياحة إلى منطقة أولمبيا التاريخية التي ولدت فيها الألعاب اﻷولمبية في القرن الثامن قبل الميلاد ، ورغم أهمية تلك المنطقة اﻷثرية تاريخيا ، لم أشعر بشيء غريب وأنا أرى ذلك الموقد الذي يشعلون به المشعل ليكون رمزا لبداية موسم مباريات اﻷولمبية ، ولم أشعر أيضا بشيء غريب وأنا أرى التماثيل المختلفة التي تعبر عن شخصيات آلهة العصر اﻹغريقي ، فقط كنت أنظر إليها نظرة باحث تاريخي يستخدم عقله في تحليل ما تراه عيناه من تلك اﻵثار التي صنعها الفنانين القدماء .

كل شيء في تلك المنطقة اﻷثرية كان بالنسبة لي أشياء مادية تحتاج إلى فحص وتحليل عقلاني لا أكثر ولا أقل ، ولكن فجأة عندما دخلت الغرفة الخاصة بتمثال هرمس ، لا أدري ماذا حصل بي ، بالرغم أني كنت قد رأيت صور هذا التمثال من قبل في الكتب والمجلات ولكن عندما وقعت عيناي على هذا التمثال ( الصورة ) شعرت برعشة تسري في جسدي وكأن تلك الغرفة كانت مشحونة بشحنة غريبة من نوعها تجعل الروح تستيقظ وتأخذ السيطرة على كامل أحاسيس اﻹنسان لتجعله ينظر إلى ما حوله بنظرة من نوعية أخرى دون أن تسمح للعقل أن يعمل وكأن ما يراه اﻹنسان في تلك اللحظات كان أرقى بكثير من أن يستطيع العقل فهم وتحليل ما يراه ، وخاصة عندما وقعت عيناي على نظرات الطفل وهو ينظر إلى هرمس بنظرة مليئة بالشكر واﻹطمئنان ﻷن هرمس قد أنقذ حياته ،وهرمس يرد له بنظرة مليئة بالحنان والمحبة ، لا أدري ماذا أصابني في تلك اللحظات وأنا أنقل بصري من ملامح وجه الطفل إلى ملامح وجه هرمس ومن وجه هرمس إلى وجه الطفل ثانية ، شعرت وكأن روحي قدر خرجت من صدري لتحلق وتطير في ذلك العالم الذي يعبر عن عالم المحبة والسلام والطمأنينة. شيء ما في أعماقي وجدته منذ تلك اللحظة يحثني بشدة وكأنه يأمرني أن أبحث عن حقيقة شخصية هذه اﻹسطورة، إسطورة هرمس. ما شعرت به في غرفة تمثال هرمس في البداية ظننته بأنه قد حدث بسبب إهتمامي الكبير بتلك المواضيع التي تتعلق بالبيئة الروحية لﻷطفال ، وربما وجود الطفل في تلك الغرفة قد ساعد على تقوية ذلك اﻹحساس الروحي، ولكن شيء آخر في تلك الغرفة كان قد لعب دور كبير في البحث عن حقيقة تلك الشخصية الرمزية التي لعبت دورا هاما جدا في ولادة وإزدهار الحضارات عبر التاريخ. نوعية اﻹحساس الروحي الذي شعرت به عن شخصية هرمس حددت أيضا نوعية البحث في دراسة هذه الشخصية ، فكلمة هرمس باليونانية ΕΡΜΗΣ مشتقة من الفعل (يفسر ) والمعنى العام لإسم هرمس هو ( المفسر )، أي ذلك اﻹنسان الذي يستطيع بإدراكه أن يصل إلى مضمون اﻷشياء أي بمعنى آخر أن يصل إلى رؤية روح اﻷشياء.وهذا ما كنت أحاول تقويته في إدراكي لﻷشياء منذ أن وعيت على هذه الحياة، فهذه المميزة هي التي تفصل بين العمى والبصيرة ، فأعور الدجال ليس أعورا في العين ولكنه أعور في الرؤية فهو لا يستطيع رؤية مضمون اﻷشياء ولكن فقط ماديتها ، أما عن روحها فهو لا يعلم عنها شيئا. فحسب حكمة هرمس عن هذا الموضوع نجده يقول : " يا نفس. .. إنما هذه الدنيا دار علم وبحث وإختبار للمتأملين. ... فيا نفس تأملي جميع معانيها وصورها وكيفية صنعها وتشكيلاتها المحسوسة..... وإعلمي بأنها أمثلة مصورة عن الحقيقة. " يعتبر هرمس الحكيم من أكثر الشخصيات غموضا في تاريخ اﻹنسانية، وقد لعبت آرائه دورا كبيرا في تطوير الفكر اﻹنساني ومعتقداته منذ آلاف السنين ، لا يعرف بالضبط متى في أي عصر عاش ، وتختلف الروايات في تحديد شخصيته ومسيرة حياته، فالمصريون يعدونه مصريا ،فهو بالنسبة لهم الحكيم المصري تحوت أو توت الذي ظهر قبل 3000 قبل الميلاد حيث تحول بفضل حكمته إلى كائن رباني بالنسبة لهم حيث ينسب إليه إختراع الكتابة الهيروغليفية ومؤسس علم الطب والفلك والهندسة والفنون والعبادة، فهو بالنسبة لهم مرشد اﻷرواح في مملكة الموت وهو الذي سيقرر في حياة الآخرة في قاعة المحكمة فيما إذا كان المتوفي صالحا يستحق مكانا في أعالي السماء أو سيئا يستحق العذاب. أما اليونانيين فهم يعدونه يونانيا وسمي بهرمس ثلاثي العظمة Ερμής Τρισμέγιστος وحسب تفسيرات الكثير من الفلاسفة بأن هذه الصفة تعني بأنه أصبح ثلاثي التعليم ﻷنه يصف الخالق بثلاث صفات ذاتية هي الوجود والحكمة والحياة ، ولكن حسب أبحاثي هذا التفسير خاطئ فصفة ثلاثي العظمة تم وضعها لتعبير عن وجود ثلاثة أشياء متحدة في ذاته الوجودية ، فالنور لونه أبيض ولكن هذا اللون في اﻷصل يتألف من ثلاثة ألوان رئيسية وهي ( اﻷزرق، اﻷخضر، اﻷحمر ) . فصفة ثلاثي العظمة تشرح لنا بالضبط طبيعة عمل ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في جسم اﻹنسان عند خلق آدم والذي يأخذ الرمز Λا والذي شرحناه في الخاطرة 35: الرمز اﻹلهي .لذلك نجد أن اﻷساطير اليونانية القديمة قد أعطت إسم هرمس للكوكب اﻷول ( عطارد ) في المجموعة الشمسية والذي يأخذ رمز آدم كما شرحناه في الخاطرة الماضية. لذلك نجد توافق كامل بين وظيفة اﻹله هرمس ودور آدم حيث هرمس يعتبر اﻹله الرسول بين اﻵلهة والناس تماما كما هو بالنسبة لآدم الذي يصل بين الناس والله الخالق. وبالنسبة لليهود والمسيحيين فهم يعدونه النبي أخنوخ وهو الرقم السابع في جدول أنسال آدم وكما يذكر سفر التكوين بأن أخنوخ عاش على اﻷرض 365 سنة ولم يمت ولكن رفعه الله إليه ليسير معه. وأثناء حياته علم الناس الحكمة والعبادة والعلوم المختلفة ليستطيعوا تدبير أمور المعيشة بشكل أفضل. بالنسبة للعرب فهرمس هو النبي إدريس. وقد ذكره القرآن الكريم في اﻵيتين 56و 57 من سورة مريم " وإذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا *ورفعناه مكانا عليا*" ولعل سببب إنتشار هذه الشخصية اﻹسطورية بين الشعوب المختلفة ، هو محاولة إسكندر المقدوني في توحيد الثقافات المختلفة بين شعوب العالم القديم ، فرحبت هذه الشعوب بتعاليم هرمس وإنتقلت إلى مفكريها وأخذت في قلوبهم مكانة عالية فذهبوا وأضافوا إليها كل ما يتعلق بالفضيلة والصفات الحميدة ،فزادت صفحات كتبه بشكل كبير ، فلعبت دور كبير في تطور الحضارات وإزدهارها.لمدة أكثر من أربعة آلاف عام ونصف من تاريخ البشرية. كل ما كتب عن هرمس ثلاثي العظمة حتى اﻵن لا يزال أشياء سطحية لا يمكنها كشف حقيقة هذه الشخصية ودورها الكبير في تطور الروحي لﻹنسانية عبر التاريخ، وكم كنت أود أن أشرح أشياء كثيرة تتعلق برموز هذه الشخصية التي تركها الله لنا في مسيرة حياته وفكره وتعاليمه لتكشف لنا الحقيقة الكاملة عنه ولكن لﻷسف الحديث المفصل عنه لكي يعطيه حقه بالكامل يحتاج إلى صفحات عديدة ، لهذا نكتفي بهذه الأسطر القليلة ، وإن شاءالله في مقالات مقبلة وبعد شرح أشياء أخرى تتعلق بحياة النبي يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام يمكن لها مساعدتنا في فهم حقيقة هرمس بشكل أوضح.

وسوم: العدد 627