خواطر من الكون المجاور.. الخاطرة 88 : فلسفة التين والزيتون
في اﻵية اﻷولى من سورة التين يذكر الله عز وجل نوعين من النباتات ( والتين والزيتون ) ، المفسرون إختلفوا في تفسير المعنى المراد من هذه اﻵية ، بعضهم إعتبر أن التين مقصود به مسجد نوح الذي بني على الجودي ، ومفسر آخر بأنه مسجد دمشق ،آخر فسره على أنه مسجد أصحاب الكهف ، أما بالنسبة للمعنى المراد من ( الزيتون ) فقد فسروه على أنه بيت المقدس.
في الآونة اﻷخيرة حيث حققت التقنية العلمية والتكنولوجيا قفزات واسعة وبناء على هذه اﻵية وعلاقتها باﻵية 4 من نفس السورة التي تقول ( لقد خلقنا اﻹنسان في أحسن تقويم ) قام البعض في تحليل تركيب ثمار التين والزيتون لمعرفة فوائدها على صحة اﻹنسان . فوجدوا أن ثمار التين والزيتون تحتوي على مادة الميثالونيدز وهي مسؤولة على بقاء الجسم في حالة من الشباب حيث غيابها يؤدي إلى ظهور أعراض الشيخوخة. .. من يريد المزيد عن هذه المعلومات المادية وعن فوائد التين والزيتون لجسم اﻹنسان وغيرها يمكنه العودة إلى صفحات النت ، ولكن هنا في هذه المقالة سنحاول البحث في الرموز الموجودة في التين والزيتون ومعانيها الروحية والتي من أجلها ذكرت في الكتاب المقدس، فكل شيء مذكور في الكتب المقدسة تم ذكره بسبب معناه الروحي ﻷن فهم المعنى الروحي هو الذي سيجعلنا نستطيع فهم حقيقة وجوده ومن فهم حقيقته يمكن ربط هذا الشيء وعلاقته بالتطور الروحي للإنسان ، أما فائدة هذا الشيء لجسم اﻹنسان ( فائدة مادية ) فهو أمر ثانوي ضئيل اﻷهمية مقارنة مع الفائدة من فهم المعنى الروحي له.
الحكمة اﻹلهية في ذكر التين والزيتون معا في نفس اﻵية توضح لنا علاقة هذين النوعين من النباتات مع بعضهما البعض وكذلك علاقتهما بتكوين اﻹنسان والذي وصفه الله (لقد خلقنا اﻹنسان في أحسن تقويم ). فالتين كرمز يعبر عن المرحلة الجنينية للإنسان وهي تلك المرحلة التي عاشتها اﻹنسانية قبل ظهور الكتابة أي ما قبل التاريخ وهي تعتبر مرحلة التكوين المادي للإنسانية. لذلك نجد ظهور كلمة ( تين) ﻷول مرة في أول كتاب مقدس ( سفر التكوين ) بعد إرتكاب آدم وحواء الخطيئة حيث استخدما أوراق التين لستر عورتهما ( فخاطا أوراق التين وصنعا ﻷنفسهما مآزر ) . فمرحلة التين في حياة اﻹنسان كرمز تبدأ من عملية إندماج الحيوان المنوي مع البويضة وبدء إنقسامها ، وتنتهي مع ولادة الجنين وبدء رؤيته للنور. حيث عندها تبدأ مرحلة الزيتون. لذلك نجد كلمة ( زيتون ) تظهر ﻷول مرة في نفس سفر التكوين في آخر أيام طوفان نوح. فعندما أرسل نوح حمامة لترى فيما إذا ظهرت اليابسة ،فعادت وفي فمها غصن زيتون ، فالطوفان هنا هو رمز لوجود الجنين في داخل سائل المشيمة ، وعودة الحمامة بغصن زيتون معناها إنتهاء فترة وجود الجنين في المحيط المائي ليبدأ مرحلة جديدة على اليابسة.
هذه المرحلة الجنينية في اﻹنسان التي رمزها الروحي (تين ) هي بشكل عام تمثل فترة ما قبل التاريخ في حياة اﻹنسانية. الحكمة اﻹلهية أشارت إلى هذا المعنى أيضا في اﻷساطير اﻹغريقية ، حيث كلمة ( تين ) في اليونانية (ΣΥΚΙΑ ) مصدره من إسم ΣΥΚΕΑΣ وهو إسم آخر شخص من مخلوقات الجبابرة المعروفين باسم ( تيتان) والذي بعد خسارة جماعته في حرب آلهة اﻹغريق والمعروفة بإسم ( حرب الجبابرة ) والتي تم فيها إنتصار اﻹله زوس على والده إله كرونوس ،نجى بنفسه و هرب إلى أمه فخافت عليه من أن يقتله الإله زوس فحولته إلى شجرة تين ، وكما هو مذكور في تلك اﻷسطورة أن أشكال التيتان كانت غريبة وتختلف من فرد إلى فرد والمقصود هنا شدة إختلاف أشكال الجنين حسب مرحلة نموه ، وكما تقول الأسطورة أنه بعد إنتهاء مرحلة التيتان بدأت اﻹنسانية عهد جديد ، والمقصود بها هنا إنتهاء المرحلة الجنينية وبداية مرحلة الطفولة. وليس من الصدفة أن ثمرة التين تعتبر رمز للإخصاب فالجنين هو في الحقيقة هو نتيجة عملية اﻹخصاب التي تحدث بين الحيوان المنوي والبويضة.
التين بشكل عام هو رمز التطور المادي للإنسان فاﻹنسان في المرحلة الجنينية يمر في أطوار متعددة يتم من خلالها تكوين جميع اﻷعضاء واﻷجهزة في جسم اﻹنسان ، وكذلك اﻹنسانية أيضا قبل ظهور الكتابة ( عصور ما قبل التاريخ ) كان تطورها بشكل عام يحدث على النواحي المادية التي تهم اﻹنسان ، والتين أيضا هو رمز تطور العلوم المادية وكذلك هو رمز تطور الكائن السفلي من اﻹنسان ، أي بشكل عام التين هو رمز القسم المادي في اﻹنسانية ، وليس من الصدفة أن ثماره لها فائدة مادية كبيرة لصحة جسم اﻹنسان.
بالنسبة لنبات الزيتون ، فالزيتون هو رمز النمو الروحي للإنسان ، وهو يمثل مرحلة الطفولة والتي تبدأ من فترة الرضاعة إلى فترة ما قبل البلوغ ( المراهقة ) . هذه الفترة هي رمز تاريخ اﻹنسانية منذ بداية ظهور الكتابة ( عام 3000 قبل الميلاد ) وحتى ظهور اﻹسلام آخر الديانات السماوية وإنتهاء الحضارة اﻹسلامية ( عام 1200 ) .
الزيتون كشجرة هي رمز التطور الروحي السليم في اﻹنسانية وليس من الصدفة أن اﻷساطير اﻹغريقية تعتبر الزيتون شجرة مقدسة ترمز للسلام ، لذلك كانت بالنسبة لهم من أهم رموز إلهة الحكمة أثينا ، حيث كانت تتوج رؤوس الملوك واﻷبطال والرياضيين اﻷولمبيين بتيجان مصنوعة من أغصان وأراق شجرة الزيتون.
الزيتون أيضا في الديانات يعتبر نبات مبارك ،القرآن الكريم أشار إلى المعنى الروحي لشجرة الزيتون في سورة النور في اﻵية 35 ( الله نور السماوات واﻷرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور. ....) هذه السورة توضح لنا علاقة مرحلة الطفولة مع التطور الروحي للإنسانية بشكل عام وكذلك التطور الروحي للإنسان بشكل خاص ، فمن المعروف عن شجرة الزيتون أنها بطيئة النمو جدا بمقارنتها مع اﻷنواع النباتية اﻷخرى ، فهي تحتاج إلى عشر سنوات حتى تصل إلى مرحلة اﻹزهار واﻹثمار. بينما أشجار النباتات اﻷخرى فتحتاج إلى زمن أقل بكثير ، فشجرة التين مثلا تزهر وتثمر إبتداء من السنة الثانية بعد الزراعة.
تأخر إثمار شجرة الزيتون هو رمز يعبر عن سمو الروح ، وله معنى يعبر عن تأخر إكتساب الثقافة الجنسية ، فكما ذكرنا في المقالات السابقة أن سبب طرد اﻹنسان من الجنة كان نتيجة تناول ثمار شجرة المعرفة والمقصود بها هي شجرة المعرفة الجنسية ، لذلك نجد سورة النور تبدأ بموضوع (الزنى) ، فالثقافة الجنسية تعتبر ثقافة مدمرة لروح الطفل ، فأهم سبب لدمار البيئة الروحية ﻷطفال العصر الحديث هو سهولة إنتشار المواضيع الجنسية في جميع وسائل اﻹعلام وكذلك اﻷفلام والمسلسلات التلفزيونية ،فكثيرا ما نقرأ اليوم إرشادات تربوية في الدول الغربية تقول ( علموا أولادكم الجنس ) ، وللأسف هذا الخطأ في فهم طبيعة روح الطفل كانت نتيجته ولادة ظاهرة الطفل المجرم ، فأهم مكونات البيئة الروحية للطفل هي العفة حيث وجود العفة يسمح لنمو روح الطفل بشكل سليم فالطفل ككائن حي هو كائن خالي من غريزة القتل. وشجرة الزيتون هي رمز لروح اﻷطفال كما خلقها الله عز وجل. ونمو اﻷطفال في بيئة روحية سليمة يضمن لهم إكتساب معلومات غزيرة متنوعة تسمح لهم في كبرهم إختيار طريق الصراط المستقيم الذي سيضمن لهم حياة الخلود. لذلك نجد شجرة الزيتون تحمل صفة الخلود ، فشجرة الزيتون تعتبر شجرة معمرة جدا بمقارنتها مع اﻷنواع اﻷخرى من اﻷشجار ، فهناك شجرة زيتون في لبنان تبلغ من العمر أكثر من 6000 عام وهي أكبر كائن حي سنا على سطح اﻷرض.
أيضا يعتبر تأخر نمو شجرة الزيتون هو رمز آخر لقانون مبدأ سرعة السلحفاة الذي تكلمنا عنه في الخاطرة 5 ، حيث صفة التمعن في اﻷمور بسرعة بطيئة تسمح لنا رؤية الشيء أو الحدث من جميع زواياه مما يعطينا نظرة شاملة للحدث أو الشيء ،وهذه الطريقة في تقييم وفهم اﻷشياء تساعد روح الطفل بالنمو بطريقة سليمة ، فاﻹنسان في الحقيقة هو عبارة عن مجموعة متكاملة من اﻷفكار وكلما زاد تنوع هذه اﻷفكار وإنسجامها مع بعضها البعض كلما زاد السمو الروحي للفرد ، وكلما زاد السمو الروحي في اﻷفراد زاد معه سمو العلاقات والروابط اﻹجتماعية في المجتمع. فالتمعن ببطئ في اﻷشياء واﻷحداث ينمي في اﻷطفال اﻹحساس باﻵخرين وعلى العكس تماما إذا كانت سرعة التمعن في اﻷشياء كبيرة فعندها يقل اﻹحساس باﻵخرين ويزداد بدلا منه اﻹحساس بالـ " أنا " فيتحول الطفل في كبره إلى إنسان أناني لا تهمه سوى مصلحته الشخصية فقط ، فيخسر روحانيته ويصبح إنسان مادي سطحي لا يستطيع أن يشعر أو يرى من حوله وجود أي مخطط إلهي. ويصبح كل شيء حوله عشوائي لا رابط بينهم على اﻹطلاق.
الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار عن ضرورة التمعن والتعلم بشكل بطيء حتى يأخذ الشيء أو الحدث حقه، ففي حديثه الشريف في وصف سرعة تعلم القرآن والدين عند الخوارج أعداء الله واﻹسلام بأنهم ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي بمعنى أنهم من كثرة سرعتهم في دراسة القرآن والدين فهم لا يأخذون من تعاليمه سوى اﻷشياء السطحية، فبدلا من أن يساهم سلوكهم في تقدم المجتمع وصلاحه يصبح إيمانهم مدمر لكل القيم الحضارية.
للأسف اليوم نعيش في حالة متناقضة تماما لصفات شجرة الزيتون فالجميع يعلم أن أول صفة من صفات العصر الحديث هي السرعة في كل شيء لذلك يسمى أحيانا (عصر السرعة ) هذه الصفة أدت إلى إنهيار جميع الروابط اﻹجتماعية فأصبح كل شيء تحت سيطرة قانون الفوضى. ولكن مهما يكن فالله موجود وهو يمهل ولا يهمل ويوما ما ستستيقظ اﻹنسانية من سكرتها لتعود ثانية إلى وعيها وإنسانيتها وأرجو من الله تعالى أن يكون هذا اليوم قريبا جدا بإذن الله.
وسوم: العدد 672