خواطر من الكون المجاور الخاطرة 127 : حادثة لها معنى عميق

قبل أسابيع قليلة حصلت في اليونان حادثة مرور أحدثت ضجة كبيرة تناقلتها جميع وسائل اﻹعلام اليونانية ، وكانت هذه الحادثة لمدة أكثر من عشرة أيام تعتبر أهم فقرة في نشرات الأخبار اليومية ، ورغم أن حوادث المرور في اليونان تعتبر من اﻷمور العادية والشائعة ، حيث أن اليونان بشكل عام تعتبر ثالث دولة في أوربا بكثرة حوادث المرور فيها . ولكن شاءت اﻷقدار أن تجعل الحادثة التي نتكلم عنها أن تأخذ مكان هام في نشرات اﻷخبار لسببين ، السبب اﻷول هو أن هذه الحادثة تم إلتقاطها من كاميرا المراقبة الموجودة على جانب الطريق والتي تستخدمها شرطة المرور في معرفة شدة كثافة مرور السيارات والناقلات اﻷخرى، فكون الحادثة تم تصويرها واقعيا من قبل هذه الكميرات فقد تم عرضها على شاشات التلفزيون ليراها المشاهدين، والسبب الثاني هو كون أن مسبب هذه الحادثة هو إبن مليونير شهير صاحب أكبر سلسلة محلات ألعاب أطفال في اليونان المعروفة بإسم جامبو .

الحادثة حصلت في الساعة الرابعة بعد الظهر على الطريق الوطني ، حيث عائلة تتألف من أب وأم وطفل بعمر ثلاث سنوات كانوا في طريقهم إلى قريتهم لقضاء بضعة أيام هناك مع اﻷهل ، وشاءت الظروف في الطريق أن تتوقف سيارة العائلة لتدخل في طريق فرعي فيه مكان إستراحة ليقضي الرجل حاجته، وبمجرد خروجه من السيارة وذهابه إلى مبنى اﻹستراحة ، وبينما بقيت المرأة مع طفلها في السيارة ، أتت بشكل مفاجئ سيارة بورش إلى ناحيتهم بسرعة فائقة لتصطدم بهم وكأنها قذيفة خرجت من فوهة مدفع أو من طائرة مقاتلة لتنفجر أمامهم وتمزق سيارتهم وتشعل بها النيران .

أسفرت الحادثة عن وفاة اﻷم وطفلها ، وكذلك وفاة سائق البورش وصديقه. 

بعد دراسة الحادثة من الفيديو من قبل اﻷخصائيين وجدوا أن سرعة سيارة البورش عند دخولها الطريق الفرعي كانت تقريبا 280 كم في الساعة ، وهذا يعني أنها كانت تسير قبل دخولها الطريق الفرعي بسرعة لا تقل عن 300 كم في الساعة ، أي حوالي 84 متر في الثانية، وهذا يعني أنه أي خطأ بسيط قد يحدث ﻷي سبب من اﻷسباب سيجد السائق نفسه في لمح البصر بعيدا عن مكانه على اﻷقل 50 او 60 متر، وتحت هذه الظروف من الصعب على السائق التحكم في القيادة لتدارك هذا الخطأ. فقيادة سيارة بمثل هذه السرعة تحتاج إلى خبير محترف متأكد تماما من سلامة عمل كل قطعة في سيارته وكذلك متأكد تماما من سلامة كل شبر من الطريق الذي يسير فيه وهذا ما لا يستطيع أحد ضمانه و ضمان كل هذه اﻷشياء في الطرق العامة إلا في مباريات سواقة السيارات حيث تكون فيه السيارة والطريق يحققان كامل الشروط ، وسائق البورش الذي كان شابا في مقتبل العمر بالتأكيد لم يكن لديه مثل هذه الخبرة ليعلم إن كانت سيارته والطريق يحققان هذه الشروط . 

بسبب كون سائق سيارة البورش إبن رجل أعمال مشهور جدا - كما ذكرنا - وكونه كان المسبب الرئيسي للحادثة ، ذهب الكثيرون يهاجمون والده المليونير ويتهمونه بسوء تربية إبنه الذي سبب في وفاة ثلاثة أشخاص ، ووصلت اﻷمور أن أحد أعضاء البرلمان من الحزب الشيوعي صرح بأن سبب الحادثة أساسه طبقي ، فأولاد اﻷغنياء عندما يجدون أنفسهم يمتلكون سياراة من النوع البورش والتي سعرها لا يقل عن 60- 70 ألف دولار والتي تملك محرك يعمل بقوة 850 حصان يسمح لسيارة خلال ثواني قليلة أن تصل سرعتها إلى 350 كم متر في الساعة ، هذه الصفات الموجودة في مثل هذا النوع من السيارات الخارقة للعادة تجعل صاحبها يشعر وهو يقود سيارته في الطريق وكأن كل شيء ملكه ، وأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء . 

كثير من الصحفيين من خلال الصحف والقنوات التلفزيونية التي يعملون فيها حاولوا الدفاع عن المليونير بحجة أنه هو اﻵخر قد فقد إبنه الذي كان يؤهله ليستلم إدارة أعمال الشركة وأنه على الجميع إحترام الحزن اﻹنساني فأمام الموت يستوي الجميع ، ومن طريقة و أسلوب دفاعهم عنه يظهر تماما بأن السبب الرئيسي لدفاعهم عنه هو أن شركته تدفع لهم مبالغ طائلة لعرض دعايات شركته. 

بسبب هذه الحادثة بدأت تظهر آراء غريبة فوزير النقل مثلا إقترح أن يكون مرسوم مخالفة قوانين المرور يتوقف على الحالة اﻹقتصادية للسائق ، ﻷن اﻷغنياء لا تؤثر عليهم مبلغ المخالفة فقيمة المخالفة تعتبر ضئيلة جدا بالنسبة لهم ، لذلك حتى يتم إجبارهم على التقيد بقوانين المرور إقترح أن يكون مبلغ مرسوم المخالفة كبير جدا يتناسب مع مكانتهم اﻹقتصادية. 

أحد مدربي السواقة طلب من الجهات المختصة أن تقوم بإتخاذ إجراءات حازمة للتقليل من حوادث الطرقات ، فحسب رأيه بأن الشعب اليوناني يعيش يوميا في حالة حرب يواجه فيها عدو حقيقي إسمه ( حوادث الطرق ) فعدد ضحايا حوادث المرور من عام 1965 وحتى عام 2008 قد تجاوز 150000 ضحية ، وأن مليون ونصف نسمة قد أصيبوا بجروح خطيرة . 

لمدة أكثر من أسبوعين كانت النقاشات في النشرات اﻷخبارية عن موضوع الحادث تتعلق بمثل هذه اﻷمور ، وكانت جميعها تتناول الموضوع بنظرة سطحية هدفها اﻷول هو جذب أكبر عدد من المشاهدين لتحقيق أكبر ما يمكن من الربح المالي. الجميع نظر إلى هذا الحادث على أنه قد حدث هكذا عن طريق الصدفة ، وكما هو معروف كل شيء يحدث بالصدفة لا يحمل معه أي معنى. ولكن الحقيقة غير ذلك إذا نظرنا إليها برؤية شاملة. 

لا شيء يحدث بالصدفة ، اﻹنسانية إستطاعت أن تشق طريقا مختلفة عن بقية الكائنات الحية لتصنع الحضارات ﻷنها إعتمدت في فكرها المبدأ الذي عبر عنه الحكيم المصري القديم (هرمس ثلاثي القوة) بشكل قانون إلهي ( لكل نتيجة سبب، ولكل سبب نتيجة ، الكل يحدث حسب القانون، الحظ ( الصدفة ) ليس إلا إسما يعطى لقانون نجهله حتى اﻵن ) .

الله عز وجل لا يترك حدث يحصل إلا ووضع فيه بعض الرموز لتعطي هذا الحدث معنى يستفيد منه اﻹنسان في فهم نفسه وفهم ما يجري حوله. وما علينا نحن البشر سوى أن نبحث في عناصر اﻷحداث لنفهم معانيها ، إن اﻹيمان بمبدأ الصدفة يعني تلقائيا اﻹيمان بفكرة عدم وجود خطة الهية وهذا يعني أن كل شيء في هذا الكون يسير على هواه أي أن الكون بأكمله يتبع قانون العشوائية ، وهذا يعني أن الله غير موجود. ولكن الحقيقة تختلف عن ذلك ف الله موجود وأحد طرق اﻹحساس بوجوده هو عن طريق فهم معاني اﻷحداث.

هناك بعض اﻷحداث يمكن تفسيرها بسهولة بسبب وضوح رموزها ولكن هناك أحداث يعجز علينا فهمها بسبب كثرة وتشعب عناصرها ، وما علينا نحن البشر سوى أن نحاول البحث ودراسة عناصر الحدث لنفهم حقيقته وأسبابه وعلاقته بسلوكنا سواء كان سلوك فردي أو سلوك جماعي. مثال بسيط على هذه الفكرة لنفهم ما نقصده هو المثال التالي :

معظمنا يعتقد اليوم بأن علوم عصرنا الحاضر قد وصلت إلى مستوى عال من التقدم ، ولكن هذا اﻹعتقاد غير صحيح وذلك ﻷن بيئة الكرة اﻷرضية اليوم في تدهور مستمر، وهذا الدمار الطبيعي الذي يحدث اليوم ليس صدفة ولكن له معنى أن المنهج العلمي الذي يعتمده العلماء في أبحاثهم خاطئ عاجز عن رؤية اﻷمور بشكل أشمل لذلك فهذا المنهج ربما قد حقق بعض النتائج الإيجابية في اﻹختراعات والتكنولوجيا ولكن بشكل عام أمور اﻹنسانية تسير في الفترة اﻷخيرة من السيء إلى اﻷسوأ ، ومن يتمعن جيدا بحقيقة ما يحدث سيجد أن الدول المتقدمة علميا هي السبب اﻷول في هذا الدمار ، فهذه الدول اليوم تملك من القنابل النووية ما يكفي لتدمير كوكب اﻷرض ليس فقط لمرة واحدة ولكن لمرات عديدة. 

لنعود ثانية إلى الحادثة التي ذكرناها في البداية والتي راح ضحيتها أربعة أشخاص. الحادثة حصلت في يوم اﻷحد حيث كان ذلك اليوم هو آخر يوم من أيام الكرنفال لتبدأ بعده في اليوم الثاني فترة الصيام ، والصيام في المسيحية يعني اﻹبتعاد عن اللحوم وهو يرمز إلى اﻹبتعاد عن جميع الغرائز الحيوانية وأهمها غريزة القتل ، فتناول اللحوم يعني قتل الحيوان الذي سيؤكل لحمه. فالصيام في المسيحية يعتبر رمز لصفاء اﻹنسان من الغرائز الحيوانية ، ولذلك يسمى أول يوم من فترة الصيام بإسم ( يوم اﻹثنين النظيف ) المسيحيون يظنون أنه سمي بهذا اﻹسم ﻷنه في هذا اليوم تكون اﻷواني والصحون نظيفة من كل نوع من أنواع الدسم والدهون الحيوانية ولكن هذا التفسير حسب رأيي هو تفسير سطحي لا يفسر حقيقة الصيام ، فالسبب الحقيقي من هذه التسمية هو رمز يحمل معنى تنظيف الصائم من كل أنواع الغرائز الحيوانية ، ولهذا السبب جرت العادة أنه في مثل هذا اليوم أن يحتفل المسيحيون بتطيير الطائرات الورقية ، وهذه العادة ليست صدفة ولكنها رمزية أيضا ولها معنى أنه عن طريق الصيام يتم تنظيف الروح من تلك الشوائب التي أخرجتها من الجنة والصيام يساعد في تطهير الروح لتكتسب القدرة على التحليق في السماء بمعنى أنها تكتسب القدرة على العودة إلى الجنة. 

سائق سيارة البورش التي نوعية تربيته قد حولت سيارته أثناء القيادة من وسيلة نقل إلى قذيفة مدمرة ، هذا السائق كان إبن صاحب أكبر شركة لتجارة ألعاب اﻷطفال. وهذا لم يكن صدفة ، ولكن رمز له معنى أن العاب اليوم التي تباع لتسلية اﻷطفال هي في الحقيقة ألعاب هدفها معاكس تماما ﻷهداف الصيام ، فهي تنمي فيهم الغرائز الحيوانية لتجعل من اﻷطفال كائنات محبة للعنف والقتل ، هذه اﻷلعاب نفسها هي التي جعلت من هذا الشاب في طفولته أن يعشق السرعة لتتحول سيارته إلى قذيفة مدمرة تنشر الموت والدمار ، فنمو الغرائز الحيوانية في اﻹنسان هو أحد أهم أسباب عدم الشعور بمشاعر اﻵخرين ، وهذه المشكلة سببها اﻷول نوعية اﻷلعاب المتداولة في عصرنا الحاضر حيث معظمها تحقق تنمية حب العنف في اﻷطفال وحب العنف ينمي الشعور باﻹنانية وعدم اﻹحساس بمشاعر اﻵخرين من حولنا. 

الشاب اﻵخر الذي كان معه في سيارة البورش هو أيضا جزء من هذا المعنى ، فهو إبن طبيب وطبيبة لهما شهرة عالية في الوسط العلمي ، وبدلا من أن يتعلم هذا الشاب من أبيه وأمه مساعدة اﻵخرين وشفائهم من جروحهم وأمراضهم والحرص على سلامة أجسادهم ، للأسف ساهم هو اﻵخر في تحويل سيارة البورش إلى لعبة مدمرة تنشر الموت والدمار ، فكما نشرت الصحف أن جسد هذا الشاب لحظة اﻹصطدام قد طار خارج السيارة إلى مسافة بعيدة وتمزق إلى أشلاء عديدة . 

في العصور الماضية كانت نسبة اﻷبناء الذين تسمح لهم الظروف للذهاب إلى المدارس لتعلم القراءة والكتابة ضئيلة جدا ، ولكن ومع ذلك إستطاعت هذه الحفنة الصغيرة من هؤلاء المثقفين أن يصنعوا حضارات عريقة تدفع اﻹنسانية بإستمرار نحو الكمال والصفاء الروحي ، اليوم وللأسف جميع اﻷبناء يذهبون إلى المدارس وكثير منهم يحصلون على شهادة جامعية ولكن ومع ذلك فعصرنا يعاني من إنحطاط روحي دفع الظروف إلى خلق عصر لم تعرف اﻹنسانية أكثر وحشية منه. 

ما معنى صلاة ؟ ما معنى صيام ؟ ما معنى إيمان ؟ ما معنى قيم سامية ؟ ما معنى أخلاق حميدة؟.....جميعها مصطلحات تفهمها الاجيال الجديدة فهما ببغائيا لذلك ثقافة الشباب اليوم لا تسمح لروحهم أن تشعر بمعانيها لتتحول هذه الكلمات من أحرف صماء إلى قوة تستطيع توجيه سلوكهم لتجعلهم كائنات إنسانية تشعر بآلام وأفراح اﻵخرين لتحسب لهم ألف حساب قبل أن تقدم في القيام على أي عمل قد يسيء بهم .

العائلة المنكوبة في الحادث كانت قد خططت الذهاب إلى القرية للقاء اﻷهل هناك ليبشروهم بخبر سعيد وهذا الخبر هو أن اﻷم كانت حامل وأنها ستأتي بمولد جديد إلى هذه الدنيا. لذلك كانت تود أن تخبرهم بهذا الخبر السعيد عن قرب لترى الفرحة في وجوههم ولكن للأسف ماتت اﻷم ومات معها طفلها والجنين الذي في أحشائها. جميع الصحف كانت تذكر بإستمرار أن عدد ضحايا الحادثة كان أربعة أشخاص ، ولكن في الحقيقة كان عددهم خمسة. فهذا الجنين الذي لم تسمح له الظروف الولادة ليرى النور ، هو أيضا أحد رموز هذه الحادثة وربما أهمها ، ورمزه يحمل معنى أنه في عصرنا الحاضر اﻹنسان تموت فيه إنسانيته قبل أن يولد.

بعد هذه الحادثة ببضعة أيام ، شاب بعمر 17 عام لا يملك إجازة سواقة أخذ مفاتيح سيارة والده بدون علمه ، وذهب بها يتجول في الشوارع وبسبب السرعة وعدم إجادته السواقة بشكل جيد صدم فتاة صغيرة بعمر 14 عام كانت تسير على الرصيف فتوفيت مباشرة.

وبعدها بأيام قليلة أيضا ، شاب آخر أخذ مفتاح سيارة والده بدون علمه ، وذهب بها مع أربعة من أصدقائه يتجولون في الشوارع وبسبب السرعة الكبيرة أيضا فقد السيطرة على عجلة القيادة فإصطدم بجدار أحد المباني ،وأسفر الحادث عن وفاة أربعة منهم والخامس أصيب بجروح خطيرة. 

جميع هؤلاء الشباب سمعوا بحادثة سيارة البورش ولكن طريقة عرض الحادثة في وسائل اﻹعلام كان بشكل سطحي ببغائي يحمل في داخله مصلحة شخصية وليس حل المشكلة من أصلها، لذلك كان من الشيء الطبيعي أن لا يدخل المعنى الحقيقي للحادثة في نفوس هؤلاء الشباب الذين ذهبوا ضحية عدم إستيعابهم لحقيقة ما يحدث حولهم. 

يشهد العالم وفاة 1،25 مليون نسمة كل عام بسبب حوادث المرور ، و 50 مليون شخص يتعرض سنويا في حوادث المرور إلى إصابات خطيرة قد تكون غير مميتة ولكن كثير منها يؤدي إلى عاهات دائمة. فإذا كان لهذه الظاهرة معنى فهذا المعنى هو أن اﻹنسانية اليوم تسير في إتجاه خاطئ يؤدي إلى الموت والدمار لذلك فحل المشكلة يأتي من معرفة أصل المشكلة ، وأصل المشكلة هو ردائة نوعية ثقافة العصر الحديث، ومن الواجب علينا تصحيح هذه القاعدة الثقافية التي يعتمد عليها فكر اﻹنسان المعاصر.

وسوم: العدد 714